الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآية رقم (53): {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)}{وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} استئنافٌ مبينٌ لما نشأ عنه ما سبق من النهي، وذلك إشارة إلى مصدر ما بعده من الفعل الذي هو عبارةٌ عن تقديمه تعالى لفقراء المؤمنين في أمر الدين بتوفيقهم للإيمان مع ما هم عليه في أمر الدنيا من كمال سوء الحال، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المشار إليه، وبُعْدِ منزلتِه في الكمال، والكاف مُقحَمَةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارة من الفخامة، ومحلُها في الأصل النصب على أنه نعتٌ لمصدرٍ مؤكّدٍ محذوف، والتقدير فتنا بعضَهم ببعض فتوناً كائناً مثلَ ذلك الفتون، ثم قُدّم على الفعل لإفادة القصْرِ المفيدِ لعدم القصور فقط، واعتُبرت الكافُ مُقحَمةً فصار نفسَ المصدرِ المؤكدِ لا نعتاً له. والمعنى ذلك الفتونَ الكاملَ البديعَ فتنّا، أي ابتلَينا بعضَ الناس ببعضهم لا فتوناً غيره، حيث قدمنا الآخِرين في أمر الدينِ على الأولين المتقدَّمين عليهم في أمر الدنيا تقدماً كلياً، واللام في قوله تعالى: {لّيَقُولواْ} للعاقبة، أي ليقول البعضُ الأولون مُشيرين إلى الآخِرين محقِّرين لهم نظراً إلى ما بينهما من التفاوت الفاحشِ الدنيوي، وتعامياً عما هو مَناطُ التفضيلِ حقيقةً {أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا} بأن وفّقهم لإصابة الحقِّ ولِما يُسعِدَهم عنده تعالى من دوننا، ونحن المقدَّمون والرؤساء، وهم العبيدُ والفقراء، وغرضُهم بذلك إنكارُ وقوعِ المنِّ رأساً على طريقة قولِهم: {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} لا تحقيرُ الممنونِ عليهم مع الاعتراف بوقوعه بطريق الاعتراضِ عليه تعالى، وقولُه تعالى: {أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين} ردٌّ لقولهم ذلك وإبطال له، وإشارةٌ إلى أن مدارَ استحقاقِ الإنعامِ معرفةُ شأنِ النعمةِ والاعترافُ بحق المُنعِم، والاستفهامُ لتقرير علمه البالغِ بذلك، أي أليس الله بأعلمَ بالشاكرين لِنِعَمِه حتى تستبعِدوا إنعامَه عليهم؟ وفيه من الإشارة إلى أن أولئك الضعفاءَ عارفون بحقِّ نِعَم الله تعالى في تنزيل القرآنِ والتوفيقِ للإيمان، شاكرون له تعالى على ذلك مع التعريض بأن القائلين بمعزلٍ من ذلك كله ما لا يخفى..تفسير الآية رقم (54): {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)}{وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بئاياتنا} هم الذين نُهيَ عن طردهم، وُصِفوا بالإيمان بآيات الله عز وجل كما وُصفوا بالمداومة على عبادته تعالى بالإخلاص تنبيهاً على إحرازهم لفضيلتَي العلم والعمل، وتأخيرُ هذا الوصفِ مع تقدمه على الوصف الأولِ لما أن مدارَ الوعدِ بالرحمة والمغفرة هو الإيمانُ بها كما أن مناطَ النهْي عن الطرد فيما سبق هو المداومةُ على العبادة وقوله تعالى: {فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ} أمرٌ بتبشيرهم بالسلامة عن كل مكروهٍ بعد إنذارِ مُقابليهم، وقيل: بتبليغ سلامِه تعالى إليهم، وقيل: بأن يبدأَهم بالسلام، وقوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} أي قضاها وأوجبَها على ذاته المقدسةِ بطريق التفضّل والإحسانِ بالذات، لا بتوسُّطِ شيءٍ ما أصلاً، تبشيراً لهم بسَعَة رحمتِه تعالى، وبنيل المطالبِ إثرَ تبشيرِهم بالسلامة من المكاره وقبولِه التوبة منهم، وفي التعرُّض لعُنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميرهم إظهارُ اللطفِ بهم والإشعارُ بعلّة الحُكْم. وقيل: إن قوماً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبْنا ذُنوباً عِظاماً، فلم يُردَّ عليهم شيئاً فانصرفوا، فنزلت وقوله تعالى: {أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً} بدل من الرحمة، وقرئ بكسر {إنه} على أنه تفسيرٌ للرحمة بطريق الاستئناف وقوله تعالى: {بِجَهَالَةٍ} حال من فاعل {عمل} أي عمله وهو جاهلٌ بحقيقة ما يتبعه من المضارِّ، والتقييدُ بذلك للإيذان بأن المؤمنَ لا يباشر ما يعلمُ أنه يؤدي إلى الضرر، أو عملِه متلبّساً بجهالة {ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ} أي من عمله أو بعد سَفَهِه {وَأَصْلَحَ} أي ما أفسده تدارُكاً وعزْماً على أن لا يعودَ إليه أبداً {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي فأمرُه أنه غفور رحيم، وقرئ {فإنه} بالكسر على أنه استئنافٌ وقع في صدر الجملة الواقعةِ خبراً {لمن} على أنها موصولة أو جواباً لها عن أنها شرطية..تفسير الآيات (55- 57): {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)}{وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الايات} قد مر آنفاً ما فيه من الكلام أي هذا التفصيلَ البديعَ تفصّلُ الآياتِ في صفة أهل الطاعةِ وأهل الإجرام المُصرِّين منهم والأولين {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين} بتأنيث الفعلِ بناءً على تأنيث الفاعل وقرئ بالتذكير بناءً على تذكيره فإن السبيلَ مما يذكر ويؤنث، وهو عطفٌ على علة محذوفةٍ للفعل المذكورِ لم يُقصَدْ تعليلُه بها بعينها وإنما قُصد الإشعارُ بأن له فوائدَ جمّةً من جملتها ما ذُكر، أو علةٌ لفعل مقدرٍ هو عبارة عن المذكور فيكون مستأنَفاً أي ولتستبين سبيلَهم نفعلُ ما نفعل من التفصيل. وقرئ بنصب السبيلَ على أن الفعل متعدَ وتاؤُه للخطاب أي ولتستوضح أنت يا محمد سبيلَ المجرمين فتعامِلَهم بما يليق بهم.{قُلْ إِنّى نُهِيتُ} أُمر عليه الصلاة والسلام بالرجوع إلى مخاطبة المُصِرّين على الشرك إثرَ ما أُمر بمعاملة مَنْ عداهم من أهل الإنذار والتبشيرِ بما يليق بحالهم أي قل لهم قطعاً لأطماعهم الفارغةِ عن ركونه عليه الصلاة والسلام إليهم، وبياناً لكون ما هم عليه من الدين هوىً محضاً وضلالاً بحتاً، إني صُرفتُ وزُجِرْت بما نُصب لي من الأدلة وأُنزل علي من الآيات في أمر التوحيد {أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ} أي عن عبادة ما تعبدونه {مِن دُونِ الله} كائناً ما كان.{قُلْ} كَرر الأمرَ مع قرب العهد اعتناءً بشأن المأمور به أو إيذاناً باختلاف المَقولَيْن من حيث إن الأولَ حكايةٌ لِما من جهته تعالى من النهي، والثاني حكايةٌ لما من جهته صلى الله عليه وسلم من الانتهاء عما ذُكر من عبادة ما يعبدونه وإنما قيل: {لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ} استجهالاً لهم وتنصيصاً على أنهم فيما هم فيه تابعون لأهواءَ باطلةٍ وليسوا على شيء مما ينطلق عليه الدين أصلاً، وإشعاراً بما يوجب النهيَ والانتهاءَ، وقوله تعالى: {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً} استئنافٌ مؤكِّد لانتهائه عما نِخيَ عنه مقرِّر لكونهم في غاية الضلال والغَواية، أي إن اتبعتُ أهواءكم فقد ضللت، وقوله تعالى: {وَمَا أَنَاْ مِنَ المهتدين} عطفٌ على ما قبله، والعدولُ إلى الجملة الاسمية للدلالة على الدوام والاستمرار أي دوامِ النفْي واستمرارِه لا نفْيِ الدوام والاستمرار كما مر مراراً أي ما أنا في شيء من الهدى حين أكون في عِدادهم وقوله تعالى: {قُلْ إِنّى على بَيّنَةٍ} تحقيقٌ للحق الذي عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وبيانٌ لاتّباعه إياه إثرَ إبطالِ الذي عليه الكَفَرةُ وبيانِ عدمِ اتباعِه له والبينةُ الحجةُ الواضحةُ التي تفصِلُ بين الحق والباطل والمرادُ بها القرآنُ والوحْيُ وقيل: هي الحججُ العقلية أو ما يعمُّها، ولا يساعدُه المقامُ، والتنوينُ للتفخيم، وقولُه تعالى: {مّن رَّبّى} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لـ {بينة} مؤكّدة لما أفادهه التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من التشريفِ ورفعِ المنزلة ما لا يخفى، وقولُه تعالى: {وَكَذَّبْتُم بِهِ} إما جملةٌ مستأنفة أو حاليةٌ بتقدير قد أو بدونه، جيء بها لاستقباح مضمونِها واستبعاد وقوعِه مع تحقق ما يقتضي عدمَه من غاية وضوحِ البينة، والضميرُ المجرورُ للبينة، والتذكير باعتبار المعنى المرادِ، والمعنى إني على بينةٍ عظيمة كائنةٍ من ربي وكذبتم بها وبما فيها من الأخبار التي من جمتلها الوعيدُ بمجيء العذاب، وقولُه تعالى: {مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} استئنافٌ مبينٌ لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأً لتكذيبهم بها، وهو عدمُ مجيءِ ما وَعد فيها من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بقولهم: {متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين} بطريق الاستهزاءِ أو بطريق الإلزامِ على زعمهم أي ليس ما تستعجلونه من العذاب الموعودِ في القرآنِ وتجعلون تأخُّرَه ذريعةً إلى تكذيبه في حُكمي وقدرتي حتى أَجيءَ به وأُظهرَ لكم صِدْقَه، أو ليس أمرُه بمُفوَّضٍ إلي {إِنِ الحكم} أي ما الحكمُ في ذلك تعجيلاً وتأخيراً أو ما الحكمُ في جميع الأشياء، فيدخُل فيه ما ذُكر دخولاً أولياً {إِلاَ لِلَّهِ} وحده من غير أن يكون لغيره دخْلٌ ما فيه بوجه من الوجوه، وقولُه تعالى: {يَقُصُّ الحق} أي يَتْبعُه، بيانٌ لشؤونه تعالى في الحكم المعهودِ أو في جميع أحكامِه المنتظمةِ له انتظاماً أولياً، أي لا يحكمُ إلا بما هو حقٌّ فيُثبتُ حقيقة التأخير. وقرئ {يقضي} فانتصابُ {الحقَّ} حينئذٍ على المصدرية أي يقضي القضاءَ الحقَّ أو على المفعولية أي يصنعُ الحقَّ ويدبرُه من قولهم: قضى الدِّرعَ إذا صنعها، وأصلُ القضاءِ الفصلُ بتمام الأمرِ، وأصلُ الحُكمِ المنعُ فكأنه يمنعُ الباطل عن معارَضةِ الحقِّ أو الخصمِ عن التعدِّي على صاحبه {وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين} اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله، مشيرٌ إلى أن قصَّ الحقِّ هاهنا بطريق خاصَ هو الفصلُ بين الحقِّ والباطل، هذا هو الذي تَسْتَدْعيه جزالةُ التنزيلِ. وقد قيل: إن المعنى إني من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه على حجةٍ واضحةٍ وشاهدِ صدقٍ وكذبتم به أنتم حيث أشركتم به تعالى غيرَه. وأنت خبيرٌ بأن مساقَ النظم الكريمِ فيما سَبق وما لَحِق على وصفهم بتكذيب آياتِ الله تعالى بسبب عدمِ مجيءِ العذاب الموعودِ فيها، فتكذيبُهم به سبحانه في أمر التوحيد مما لا تعلُّقَ له بالمقام أصلاً..تفسير الآية رقم (58): {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)}{قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى} أي في قدرتي ومِكْنتي {مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذاب الذي ورد به الوعيد بأن يكون أمرُه مفوّضاً إلي من جهته تعالى {لَقُضِىَ الامر بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} أي بأن ينزِلَ ذلك عليكم إثرَ استعجالِكم بقولكم: متى هذا الوعد ونظائرِه، وفي بناء الفعل للمفعول من الإيذان بتعيُّن الفاعِلِ الذي هو الله تعالى وتهويلِ الأمر ومراعاةِ حسنِ الأدب ما لا يخفى. فما قيل في تفسيره لأهلكتُكم عاجلاً غضباً لربي ولتخلصْتُ منكم سريعاً بمعزلٍ من تَوْفِيةِ المقام حقَّه. وقولُه تعالى: {والله أَعْلَمُ بالظالمين} اعتراضٌ مقرِّرٌ لِما أفادتْه الجملةُ الامتناعية من انتفاءِ كونِ أمرِ العذابِ مفوَّضاً إليه صلى الله عليه وسلم المستتبِع لانتفاء قضاءِ الأمر، وتعليلٌ له والمعنى والله تعالى أعلم بحال الظالمين وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج لتشديد العذاب ولذلك لم يفوِّضِ الأمرَ إليّ فلم يقضِ الأمرَ بتعجيل العذاب والله أعلم..تفسير الآيات (59- 60): {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)}{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} بيانٌ لاختصاص المقدوراتِ الغيبية به تعالى من حيثُ العلمُ إثرَ بيانِ اختصاصِ كلِّها به تعالى من حيثُ القدرةُ، والمفاتحُ إما جمعُ مفتَح بفتح الميم وهو المخزَن فهو مستعارٌ لمكان الغيب كأنها مخازِنُ خُزِنت فيها الأمورُ الغيبيةُ يُغلق عليها ويُفْتَح، وإما جمعُ مفتِح بكسرها، وهو المفتاح، ويؤيده قراءةُ مَنْ قرأ {مفاتيحُ الغيب} فهو مستعارٌ لما يُتوصَّلُ به إلى تلك الأمورِ بناءً على الاستعارة الأولى، أي عنده تعالى خاصةُ خزائنِ غُيوبِه أو يُتوصَّلُ به إليها، وقولُه عز وجل: {لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} تأكيدٌ لمضمونِ ما قبله، وإيذانٌ بأن المرادَ هو الاختصاصُ من حيث العلمُ لا من حيث القدرةُ، والمعنى أن ما تستعجلونه من العذاب ليس مقدوراً لي حتى أُلزِمَكم بتعجيله، ولا معلوماً لديّ لأُخبرَكم وقتَ نزولِه، بل هو مما يَختصُّ به تعالى قدرةً وعلماً فيُزلُه حسبما تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على الحِكَم والمصالِه، وقولُه تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر} بيان لتعلّق علمِه تعالى بالمشاهَدات إثرَ بيان تعلُّقِه بالمغيَّباتِ تكملةً له وتنبيهاً على أن الكلَّ بالنسبة إلى علمِه المحيطِ سواءٌ في الجَلاءِ، أي يعلم ما فيهما من الموجودات مُفصّلةً على اختلاف أجناسِها وأنواعِها وتكثُّرِ أفرادِها، وقولُه تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} بيانٌ لتعلُّقه بأحوالها المتغيَّرةِ بعد بيانِ تعلقِه بذواتها، فإن تخصيصَ حالِ السقوطِ بالذكر ليس إلا بطريق الاكتفاءِ بذكرها عن ذكر سائر الأحوال، كما أن ذكرَ حالِ الورقةِ وما عُطفَ عليها خاصةً دون أحوالِ سائرِ ما فيهما من فنونِ الموجودات الفائتة للحصر باعتبارِ أنها أُنموذَجٌ لأحوال سائرِها، وقولُه تعالى: {وَلاَ حَبَّةٍ} عطفٌ على {ورقةٍ} وقولُه تعالى: {فِى ظلمات الارض} متعلِّقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لحبة مفيدةٌ لكمال نفوذِ علمِه تعالى أي ولا حبةٍ كائنةٍ في بطونِ الأرض إلا يعلمها، وكذا قولُه تعالى: {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ} معطوفان عليها داخلان في حُكمها وقولُه تعالى: {إِلاَّ فِي كتاب مُّبِينٍ} بدلٌ من الاستثناءِ الأول بدلَ الكلِّ {من الكل} على أن الكتابَ المُبِينَ عبارةٌ عن علمه تعالى أو بدلَ الاشتمالِ على أنه عبارةٌ عن اللوحِ المحفوظ، وقرئ الأخيران بالرفع عطفاً على محلِّ {من ورقة} وقيل: رفعُهما بالابتداء والخبرُ {إلا في كتاب مبين} وهو الأنسبُ بالمقام لشمول الرطبِ واليابس حينئذ لِما ليس من شأنه السقوطُ، وقد نُقل قراءةُ الرفعِ في {ولا حبةٌ} أيضاً.{وَهُوَ الذي يتوفاكم باليل} أي يُنيمُكم فيه على استعارة التوفِّي من الإماتة للإنامة لما بين الموتِ والنومِ من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز، وأصله قبضُ الشيء بتمامه {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} أي ما كَسَبتم فيه والمرادُ بالليل والنهار الجنسُ المتحققُ في كل فردٍ من أفرادهما، إذْ بالتوفي والبعثِ الموجودَين فيها يتحققُ قضاءُ الأجلِ المسمَّى المترتبِ عليها لا في بعضِها، والمرادُ بعلمه تعالى ذلك علمُه قبل الجَرْحِ كما يلوحُ به تقديمُ ذكره على البعث أي يعلم ما تجرَحون بالنهار، وصيغةُ الماضي للدلالة على التحقّق، وتخصيصُ التوفي بالليل والجَرْحِ بالنهار مع تحقّق كلَ منهما فيما خُصَّ بالآخر للجَرْي على سَنن العادة {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي يوقظكم في النهار، عطفٌ على يتوفاكم، وتوسيطُ قوله تعالى: {وَيَعْلَمَ} الخ، بينهما لبيان ما في بعثهم من عظيمِ الإحسانِ إليهم بالتنبيه على أن ما يكتسبونه من السيئات مع كونها موجبةً لإبقائهم على التوفّي بل لإهلاكهم بالمرة يُفيض عليهم الحياة ويُمهلُهم كما ينبىء عنه كلمةُ التراخي، كأنه قيل: هو الذي يتوفاكم في جنس الليالي ثم يبعثكم في جنس النهار مع علمه بما ستجرَحون فيها {ليقضى أَجَلٌ مّسَمًّى} معيَّنٌ لكل فردٍ فردٌ بحيث لا يكاد يتخطى أحدٌ ما عُيِّن له طرفةَ عينٍ {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} أي رجوعُكم بالموت لا إلى غيره أصلاً {ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} بالمجازاة بأعمالكم التي كنتم تعملونها في تلك الليالي والأيامِ، وقيل: الخطابُ مخصوصٌ بالكفرة، والمعنى أنكم مُلقَوْن كالجيف بالليل كاسبون للآثام بالنهار، وأنه تعالى مطّلعٌ على أعمالكم يبعثكم الله من القبور في شأن ما قطعتم به أعمارَكم من النوم بالليل وكسْبِ الآثامِ بالنهار ليقضى الأجلُ الذي سماه وضَرَبه لبعث الموتى وجزائِهم على أعمالهم.وفيه ما لا يخفى من التكلّف والإخلالِ، لإفضائه إلى كون البعث معلَّلاً بقضاء الأجلِ المضروب له.
|