الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآيات (152- 153): {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)}قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ}. الغضب من الله العقوبة. وذلة في الحيوة الدنيا لأنهم أمروا بقتل بعضهم بعضا.وقيل: الذلة الجزية.وفيه بعد، لأن الجزية لم تؤخذ منهم وإنما أخذت من ذرياتهم. ثم قيل: هذا من تمام كلام موسى عليه السلام، أخبر الله عز وجل به عنه، وتم الكلام. ثم قال الله تعالى: {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}. وكان هذا القول من موسى عليه السلام قبل أن يتوب القوم بقتلهم أنفسهم، فإنهم لما تابوا وعفا الله عنهم بعد أن جرى القتل العظيم- كما تقدم بيانه في البقرة- أخبرهم أن من مات منهم قتيلا فهو شهيد، ومن بقي حيا فهو مغفور له.وقيل: كان ثم طائفة أشربوا في قلوبهم العجل، أحبه، فلم يتوبوا، فهم المعنيون. بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} وقيل: أراد من مات منهم قبل رجوع موسى من الميقات.وقيل: أراد أولادهم. وهو ما جرى على قريظة والنضير، أي سينال أولادهم. والله أعلم. {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} أي مثل ما فعلنا بهؤلاء نفعل بالمفترين.وقال مالك بن أنس رحمة الله عليه: ما من مبتدع إلا وتجد فوق رأسه ذلة، ثم قرأ {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ}- حتى قال- {وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} أي المبتدعين.وقيل: إن موسى أمر بذبح العجل، فجرى منه دم وبرده بالمبرد وألقاه مع الدم في اليم وأمرهم بالشرب من ذلك الماء، فمن عبد ذلك العجل وأشربه ظهر ذلك على أطراف فمه، فبذلك عرف عبدة العجل قد مضى هذا في البقرة ثم أخبر الله تعالى أن الله يقبل توبة التائب من الشرك وغيره. موضع {والذين عملوا السيئات} أي الكفر والمعاصي. {ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها} أي من بعد فعلها. {وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها} أي من بعد التوبة لغفور رحيم..تفسير الآية رقم (154): {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)}قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} أي سكن. وكذلك قرأها معاوية بن قرة {سكن} بالنون واصل السكوت السكون والإمساك، يقال: جرى الوادي ثلاثا ثم سكن، أي أمسك عن الجري.وقال عكرمة: سكت موسى عن الغضب، فهو من المقلوب. كقولك: أدخلت الأصبع في الخاتم وأدخلت الخاتم في الأصبع. وأدخلت القلنسوة في رأسي، وأدخلت رأسي في القلنسوة. {أَخَذَ الْأَلْواحَ} التي ألقاها. {وفى نسختها هدى ورحمة} أي {هُدىً} من الضلالة، {وَرَحْمَةٌ} أي من العذاب. والنسخ: نقل ما في كتاب إلى كتاب آخر. ويقال للأصل الذي كتبت منه: نسخة، وللفرع نسخة. فقيل: لما تكسرت الألواح صام موسى أربعين يوما، فردت عليه وأعيدت له تلك الألواح في لوحين، ولم يفقد منها شيئا، ذكره ابن عباس. قال القشيري: فعلى هذا {وفي نسختها} أي وفيما نسخ من الألواح المتكسرة ونقل إلى الألواح الجديدة هدى ورحمة.وقال عطاء: وفيما بقي منها. وذلك أنه لم يبق منها إلا سبعها، وذهب ستة أسباعها. ولكن لم يذهب من الحدود والأحكام شي.وقيل: المعنى {وفي نسختها} أي وفيما نسخ له منها من اللوح المحفوظ هدى.وقيل: المعنى وفيما كتب له فيها هدى ورحمة، فلا يحتاج إلى أصل ينقل عنه. وهذا كما يقال: انسخ ما يقول فلان، أي أثبته في كتابك. قوله تعالى: {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} أي يخافون.وفي اللام ثلاثة أقوال: قول الكوفيين هي زائدة. قال الكسائي: حدثني من سمع الفرزدق يقول نقدت لها مائة درهم، بمعنى نقدتها.وقيل: هي لام أجل، المعنى: والذين هم من أجل ربهم يرهبون رياء ولا سمعة، عن الأخفش.وقال محمد بن يزيد: هي متعلقة بمصدر، المعنى: للذين هم رهبتهم لربهم.وقيل: لما تقدم المفعول حسن دخول اللام، كقول: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ}. فلما تقدم المعمول وهو المفعول ضعف عمل الفعل فصار بمنزلة ما لا يتعدى..تفسير الآية رقم (155): {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155)}قوله تعالى: {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا} مفعولان، أحدهما حذفت منه من، وأنشد سيبويه:وقال الراعي يمدح رجلا: يريد: اخترتك من الناس. واصل اختار اختير، فلما تحركت الياء وقبلها فتحة قلبت ألفا، نحو قال وباع. قوله تعالى: {فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} أي ماتوا. والرجفة في اللغة الزلزلة الشديدة. ويروى أنهم زلزلوا حتى ماتوا. قوله تعالى: {قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} أي أمتهم، كما قال عز وجل: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ}. {وَإِيَّايَ 40} عطف. والمعنى: لو شئت أمتنا من قبل أن نخرج إلى الميقات بمحضر بني إسرائيل حتى لا يتهموني. أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن سفيان عن أبي إسحاق عن عمارة بن عبد عن علي رضي الله عنه قال: انطلق موسى وهارون صلى الله عليهما وانطلق شبر وشبير- هما ابنا هارون- فانتهوا إلى جبل فيه سرير، فقام عليه هارون فقبض روحه. فرجع موسى إلى قومه، فقالوا: أنت قتلته، حسدتنا على لينه وعلى خلقه، أو كلمة نحوها، الشك من سفيان، فقال: كيف أقتله ومعي ابناه! قال: فاختاروا من شئتم، فاختاروا من كل سبط عشرة. قال: فذلك قوله: {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا} فانتهوا إليه، فقالوا: من قتلك يا هارون؟ قال: ما قتلني أحد ولكن الله توفاني. قالوا: يا موسى، ما تعصى. فأخذتهم الرجفة، فجعلوا يترددون يمينا وشمالا، ويقول: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} قال فأحياهم وجعلهم أنبياء كلهم.وقيل: أخذتهم الرجفة لقولهم: أرنا الله جهرة كما قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} على ما تقدم بيانه في البقرة.وقال ابن عباس: إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم ينهوا من عبد العجل، ولم يرضوا عبادته.وقيل: هؤلاء السبعون غير من قالوا أرنا الله جهرة.وقال وهب: ما ماتوا، ولكن أخذتهم الرجفة من الهيبة حتى كادت أن تبين مفاصلهم، وخاف موسى عليهم الموت. وقد تقدم في البقرة عن وهب أنهم ماتوا يوما وليلة. وقيل غير هذا في معنى سبب أخذهم بالرجفة. والله أعلم بصحة ذلك. ومقصود الاستفهام في قوله: {أَتُهْلِكُنا} الجحد، أي لست تفعل ذلك. وهو كثير في كلام العرب. وإذا كان نفيا كان بمعنى الإيجاب، كما قال: وقيل: معناه الدعاء والطلب، أي لا تهلكنا، وأضاف إلى نفسه. والمراد القوم الذين ماتوا من الرجفة.وقال المبرد: المراد بالاستفهام استفهام استعظام، كأنه يقول: لا تهلكنا، وقد علم موسى أن الله لا يهلك أحدا بذنب غيره، ولكنه كقول عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ}.وقيل: المراد بالسفهاء السبعون. والمعنى: أتهلك بني إسرائيل بما فعل هؤلاء السفهاء في قولهم {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}. {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} أي ما هذا إلا اختبارك وامتحانك. وأضاف الفتنة إلى الله عز وجل ولم يضفها إلى نفسه، كما قال إبراهيم: {وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ 80} فأضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تعالى: وقال يوشع: {وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ}. وإنما استفاد ذلك موسى عليه السلام من قوله تعالى له:{إِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} 20: 85. فلما رجع إلى قومه وراي العجل منصوبا للعبادة وله خوار قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها} أي بالفتنة. {مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ} وهذا رد على القدرية. .تفسير الآية رقم (156): {وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156)}قوله تعالى: {وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً} أي وفقنا للأعمال الصالحة التي تكتب لنا بها الحسنات. {وَفِي الْآخِرَةِ} 20 أي جزاء عليها. {إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ} أي تبنا، قاله مجاهد وأبو العالية وقتادة. والهود: التوبة، وقد تقدم في البقرة. قوله تعالى: {قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ} أي المستحقين له، أي هذه الرجفة والصاعقة عذاب مني أصيب به من أشاء.وقيل: المعنى {مَنْ أَشاءُ} أي من أشاء أن أضله. قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} عموم، أي لا نهاية لها أي من دخل فيها لم تعجز عنه.وقيل: وسعت كل شيء من الخلق حتى إن البهيمة لها رحمة وعطف على ولدها. قال بعض المفسرين: طمع في هذه الآية كل شيء حتى إبليس فقال: أنا شي، فقال الله تعالى: {فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} فقالت اليهود والنصارى: نحن متقون، فقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} الآية. فخرجت الآية عن العموم، والحمد لله. روى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كتبها الله عز وجل لهذه الأمة..تفسير الآية رقم (157): {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)}فيه عشر مسائل:الأولى: روى يحيى بن أبي كثير عن نوف البكالي الحميري: لما اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقات ربه قال الله تعالى لموسى: أن أجعل لكم الأرض مسجدا وطهورا تصلون حيث أدركتكم الصلاة إلا عند مرحاض أو حمام أو قبر، وأجعل السكينة في قلوبكم، وأجعلكم تقرءون التوراة عن ظهر قلوبكم، يقرأها الرجل منكم والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير. فقال ذلك موسى لقومه، فقالوا: لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس، ولا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا، ونريد أن تكون كما كانت في التابوت، ولا نستطيع أن نقرأ التوراة عن ظهر قلوبنا، ونريد أن نقرأها إلا نظرا. فقال الله تعالى: {فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} إلى قوله: {الْمُفْلِحُونَ}. فجعلها لهذه الأمة. فقال موسى: يا رب، اجعلني نبيهم. فقال: نبيهم منهم. قال: رب اجعلني منهم. قال: إنك لن تدركهم. فقال موسى: يا رب، أتيتك بوفد بني إسرائيل، فجعلت وفادتنا لغيرنا. فأنزل الله عز وجل: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}. فرضي موسى. قال نوف: فاحمدوا الله الذي جعل وفادة بني إسرائيل لكم.وذكر أبو نعيم أيضا هذه القصة من حديث الأوزاعي قال: حدثنا يحيى بن أبي عمرو السيباني قال حدثني نوف البكالي إذا افتتح موعظة قال: ألا تحمدون ربكم الذي حفظ غيبتكم واخذ لكم بعد سهمكم وجعل وفادة القوم لكم. وذلك أن موسى عليه السلام وفد ببني إسرائيل فقال الله لهم: إني قد جعلت لكم الأرض مسجدا حيثما صليتم فيها تقبلت صلاتكم إلا في ثلاثة مواطن من صلى فيمن لم أقبل صلاته المقبرة والحمام والمرحاض. قالوا: لا، إلا في الكنيسة. قال: وجعلت لكم التراب طهورا إذا لم تجدوا الماء. قالوا: لا، إلا بالماء. قال: وجعلت لكم حيثما صلى الرجل فكان وحده تقبلت صلاته. قالوا: لا، إلا في جماعة.الثانية: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} هذه الألفاظ كما ذكرنا أخرجت اليهود والنصارى من الاشتراك الذي يظهر في، قوله: {فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} وخلصت هذه العدة لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال ابن عباس وابن جبير وغيرهما. و{يَتَّبِعُونَ} يعني في شرعه ودينه وما جاء به. والرسول والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسمان لمعنيين، فإن الرسول أخص من النبي. وقدم الرسول اهتماما بمعنى الرسالة، وإلا فمعنى النبوة هو المتقدم، ولذلك رد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على البراء حين قال: وبرسولك الذي أرسلت. فقال له: «قل آمنت بنبيك الذي أرسلت» خرجه في الصحيح. وأيضا فإن في قوله: «وبرسولك الذي أرسلت» تكرير الرسالة، وهو معنى واحد فيكون كالحشو الذي لا فائدة فيه. بخلاف قوله: «ونبيك الذي أرسلت» فإنهما لا تكرار فيهما. وعلى هذا فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، لأن الرسول والنبي قد اشتركا في أمر عام وهو النبأ، وافترقا في أمر خاص وهي الرسالة. فإذا قلت: محمد رسول من عند الله تضمن ذلك أنه نبي ورسول الله. وكذلك غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.الثالثة: قوله تعالى: {الْأُمِّيَّ} هو منسوب إلى الأمة الأمية، التي هي على أصل ولادتها، لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها، قال ابن عزيز.وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أميا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب، قال الله تعالى: {وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}. وروي في الصحيح عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب». الحديث.وقيل: نسب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكة أم القرى، ذكره النحاس.الرابعة: قوله تعالى: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ} روى البخاري قال: حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا فليح قال حدثنا هلال عن عطاء بن يسار لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التوراة. فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا}، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلقا. في غير البخاري قال عطاء: ثم لقيت كعبا فسألته عن ذلك فما اختلفا حرفا، إلا أن كعبا قال بلغته: قلوبا غلوفيا وآذانا صموميا وأعينا عموميا. قال ابن عطية: وأظن هذا وهما أو عجمة. وقد روي عن كعب أنه قالها: قلوبا غلوفا وآذانا صموما وأعينا عموميا. قال الطبري: هي لغة حميرية. وزاد كعب في صفة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: مولده بمكة، وهجرته بطابة، وملكه بالشام، وأمته الحامدون، يحمدون الله على كل حال وفي كل منزل، يوضئون أطرافهم ويأتزرون إلى أنصاف ساقهم، رعاة الشمس، يصلون الصلوات حيثما أدركتهم ولو على ظهر الكناسة، صفهم في القتال مثل صفهم في الصلاة. ثم قرأ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ}.الخامسة: قوله تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} قال عطاء: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} بخلع الأنداد، ومكارم الأخلاق، وصلة الأرحام. {وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} عبادة الأصنام، وقطع الأرحام.السادسة: قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ} مذهب مالك أن الطيبات هي المحللات، فكأنه وصفها بالطيب، إذ هي لفظة تتضمن مدحا وتشريفا. وبحسب هذا نقول في الخبائث: إنها المحرمات، ولذلك قال ابن عباس: الخبائث هي لحم الخنزير والربا وغيره. وعلى هذا حلل مالك المتقذرات كالحيات والعقارب والخنافس ونحوها. ومذهب الشافعي رحمه الله أن الطيبات هي من جهة الطعم، إلا أن اللفظة عنده ليست على عمومها، لأن عمومها بهذا الوجه من الطعم يقتضي تحليل الخمر والخنزير، بل يراها مختصة فيما حلله الشرع. ويرى الخبائث لفظا عاما في المحرمات بالشرع وفي المتقذرات، فيحرم العقارب والخنافس والوزغ وما جرى هذا المجرى. والناس على هذين القولين. وقد تقدم في البقرة هذا المعنى.السابعة: قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} الإصر: الثقل، قال مجاهد وقتادة وابن جبير. والإصر أيضا: العهد، قال ابن عباس والضحاك والحسن. وقد جمعت هذه الآية المعنيين، فإن بني إسرائيل قد كان أخذ عليهم عهد أن يقوموا بأعمال ثقال، فوضع عنهم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك العهد وثقل تلك الأعمال، كغسل البول، وتحليل الغنائم، ومجالسة الحائض ومؤاكلتها ومضاجعتها، فإنهم كانوا إذا أصاب ثوب أحدهم بول قرضه. وروي: جلد أحدهم. وإذا جمعوا الغنائم نزلت نار من السماء فأكلتها، وإذا حاضت المرأة لم يقربوها، إلى غير ذلك مما ثبت في الحديث الصحيح وغيره.الثامنة: قوله تعالى: {وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ} فالأغلال عبارة مستعارة لتلك الأثقال. ومن الأثقال ترك الاشتغال يوم السبت، فإنه يروى أن موسى عليه السلام رأى يوم السبت رجلا يحمل قصبا فضرب عنقه. هذا قول جمهور المفسرين ولم يكن فيهم الدية، وإنما كان القصاص. وأمروا بقتل أنفسهم علامة لتوبتهم، إلى غير ذلك. فشبه ذلك بالأغلال، كما قال الشاعر:فشبه حدود الإسلام وموانعه عن التخطي إلى المحظورات بالسلاسل المحيطات بالرقاب. ومن هذا المعنى قول أبي أحمد بن جحش لأبي سفيان: أي لزمك عارها. يقال: طوق فلان كذا إذا لزمه.التاسعة إن قيل: كيف عطف الأغلال وهو جمع على الإصر وهو مفرد، فالجواب أن الإصر مصدر يقع على الكثرة. وقرأ ابن عامر {آصارهم} بالجمع، مثل أعمالهم. فجمعه لاختلاف ضروب المآثم. والباقون بالتوحيد، لأنه مصدر يقع على القليل والكثير من جنسه مع إفراد لفظه. وقد أجمعوا على التوحيد في قوله: {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً}. وهكذا كلما يرد عليك من هذا المعنى، مثل {وَعَلى سَمْعِهِمْ}. {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} و{مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ}. كله بمعنى الجمع.العاشرة: قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ} أي وقروه ونصروه. قال الأخفش: وقرأ الجحدري وعيسى {وعزروه} بالتخفيف. وكذا {وعزرتموهم}. يقال: عزره يعزره ويعزره. و{النُّورَ} القرآن الفلاح الظفر بالمطلوب. وقد تقدم هذا.
|