الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الداء والدواء المسمى بـ «الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي» ***
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَبِهِ نَسْتَعِينُ مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ، أَئِمَّةُ الدِّينِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ- فِي رَجُلٍ ابْتُلِيَ بِبَلِيَّةٍ وَعَلِمَ أَنَّهَا إِنِ اسْتَمَرَّتْ بِهِ أَفْسَدَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ، وَقَدِ اجْتَهَدَ فِي دَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، فَمَا يَزْدَادُ إِلَّا تَوَقُّدًا وَشِدَّةً، فَمَا الْحِيلَةُ فِي دَفْعِهَا؟ وَمَا الطَّرِيقُ إِلَى كَشْفِهَا؟ فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَعَانَ مُبْتَلًى، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ رَحِمَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى. فَأَجَابَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ، شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُفْتِي الْمُسْلِمِينَ، شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَيُّوبَ إِمَامِ الْمَدْرَسَةِ الْجَوْزِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. الْحَمْدُ لِلَّهِ أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً». وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أَصَابَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ». وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ»، وَفِي لَفْظٍ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، أَوْ دَوَاءً، إِلَّا دَاءً وَاحِدًا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هُوَ؟ قَالَ: الْهَرَمُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَهَذَا يَعُمُّ أَدَوَاءَ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ وَالْبَدَنِ وَأَدْوِيَتِهَا، وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْجَهْلَ دَاءً، وَجَعَلَ دَوَاءَهُ سُؤَالَ الْعُلَمَاءِ. فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ قَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً، وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ، فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا؟ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ -أَوْ يَعْصِبَ- عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحُ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلُ سَائِرَ جَسَدِهِ». فَأَخْبَرَ أَنَّ الْجَهْلَ دَاءٌ، وَأَنَّ شِفَاءَهُ السُّؤَالُ.
وقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ شِفَاءٌ، فَقَالَ اللَّهُ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [سُورَةُ فُصِّلَتْ: 44] وَقَالَ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [سُورَةُ الْإِسْرَاءِ: 82]. وَ"مِنْ" هُنَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ لَا لِلتَّبْعِيضِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ شِفَاءٌ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَهُوَ شِفَاءٌ لِلْقُلُوبِ مِنْ دَاءِ الْجَهْلِ وَالشَّكِّ وَالرَّيْبِ، فَلَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنَ السَّمَاءِ شِفَاءً قَطُّ أَعَمَّ وَلَا أَنْفَعَ وَلَا أَعْظَمَ وَلَا أَشْجَعَ فِي إِزَالَةِ الدَّاءِ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ، فَأَتَوْهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُرْقِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ حَتَّى تَجْعَلُوا لِي جُعْلًا، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الْغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفُلُ عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي، وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ، فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْتَسِمُوا، فَقَالَ الَّذِي رَقِيَ: لَا نَفْعَلُ حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنَذْكُرُ لَهُ الَّذِي كَانَ، فَنَنْظُرُ مَا يَأْمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَصَبْتُمْ، اقْتَسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا». فَقَدْ أَثَّرَ (هَذَا) الدَّوَاءُ فِي هَذَا الدَّاءِ، وَأَزَالَهُ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ أَسْهَلُ دَوَاءٍ وَأَيْسَرُهُ، وَلَوْ أَحْسَنَ الْعَبْدُ التَّدَاوِيَ بِالْفَاتِحَةِ، لَرَأَى لَهَا تَأْثِيرًا عَجِيبًا فِي الشِّفَاءِ. وَمَكَثْتُ بِمَكَّةَ مُدَّةً يَعْتَرِينِي أَدْوَاءٌ وَلَا أَجِدُ طَبِيبًا وَلَا دَوَاءً، فَكُنْتُ أُعَالِجُ نَفْسِي بِالْفَاتِحَةِ، فَأَرَى لَهَا تَأْثِيرًا عَجِيبًا، فَكُنْتُ أَصِفُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشْتَكِي أَلَمًا، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَبْرَأُ سَرِيعًا. وَلَكِنْ هَاهُنَا أَمْرٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَذْكَارَ وَالْآيَاتِ وَالْأَدْعِيَةَ الَّتِي يُسْتَشْفَى بِهَا وَيُرْقَى بِهَا، هِيَ فِي نَفْسِهَا نَافِعَةٌ شَافِيَةٌ، وَلَكِنْ تَسْتَدْعِي قَبُولَ الْمَحِلِّ، وَقُوَّةَ هِمَّةِ الْفَاعِلِ وَتَأْثِيرَهُ، فَمَتَى تَخَلَّفَ الشِّفَاءُ كَانَ لِضَعْفِ تَأْثِيرِ الْفَاعِلِ، أَوْ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمُنْفَعِلِ، أَوْ لِمَانِعٍ قَوِيٍّ فِيهِ يَمْنَعُ أَنْ يَنْجَعَ فِيهِ الدَّوَاءُ، كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَدْوِيَةِ وَالْأَدْوَاءِ الْحِسِّيَّةِ، فَإِنَّ عَدَمَ تَأْثِيرِهَا قَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ قَبُولِ الطَّبِيعَةِ لِذَلِكَ الدَّوَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ لِمَانِعٍ قَوِيٍّ يَمْنَعُ مِنَ اقْتِضَائِهِ أَثَرَهُ، فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ إِذَا أَخَذَتِ الدَّوَاءَ بِقَبُولٍ تَامٍّ كَانَ انْتِفَاعُ الْبَدَنِ بِهِ بِحَسْبِ ذَلِكَ الْقَبُولِ، فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ إِذَا أَخَذَ الرُّقَى وَالتَّعَاوِيذَ بِقَبُولٍ تَامٍّ، وَكَانَ لِلرَّاقِي نَفْسٌ فَعَّالَةٌ وَهِمَّةٌ مُؤَثِّرَةٌ فِي إِزَالَةِ الدَّاءِ.
وكَذَلِكَ الدُّعَاءُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي دَفْعِ الْمَكْرُوهِ، وَحُصُولِ الْمَطْلُوبِ، وَلَكِنْ قَدْ يَتَخَلَّفُ أَثَرُهُ عَنْهُ، إِمَّا لِضَعْفِهِ فِي نَفْسِهِ - بِأَنْ يَكُونَ دُعَاءً لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُدْوَانِ - وَإِمَّا لِضَعْفِ الْقَلْبِ وَعَدَمِ إِقْبَالِهِ عَلَى اللَّهِ وَجَمْعِيَّتِهِ عَلَيْهِ وَقْتَ الدُّعَاءِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقَوْسِ الرِّخْوِ جِدًّا، فَإِنَّ السَّهْمَ يَخْرُجُ مِنْهُ خُرُوجًا ضَعِيفًا، وَإِمَّا لِحُصُولِ الْمَانِعِ مِنَ الْإِجَابَةِ: مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَالظُّلْمِ، وَرَيْنِ الذُّنُوبِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَاسْتِيلَاءِ الْغَفْلَةِ وَالشَّهْوَةِ وَاللَّهْوِ، وَغَلَبَتِهَا عَلَيْهَا. كَمَا فِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ».
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ فَهَذَا دَوَاءٌ نَافِعٌ مُزِيلٌ لِلدَّاءِ، وَلَكِنَّ غَفْلَةَ الْقَلْبِ عَنِ اللَّهِ تُبْطِلُ قُوَّتَهُ، وَكَذَلِكَ أَكْلُ الْحَرَامِ يُبْطِلُ قُوَّتَهُ وَيُضْعِفُهَا. كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ، لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [الْمُؤْمِنُونَ: 51] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟». وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِأَبِيهِ: أَصَابَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَلَاءٌ، فَخَرَجُوا مَخْرَجًا، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى نَبِيِّهِمْ أَنْ أَخْبِرْهُمْ: إِنَّكُمْ تَخْرُجُونَ إِلَى الصَّعِيدِ بِأَبْدَانٍ نَجِسَةٍ، وَتَرْفَعُونَ إِلَيَّ أَكُفًّا قَدْ سَفَكْتُمْ بِهَا الدِّمَاءَ، وَمَلَأْتُمْ بِهَا بُيُوتَكُمْ مِنَ الْحَرَامِ، الْآنَ حِينَ اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَيْكُمْ؟ وَلَنْ تَزْدَادُوا مِنِّي إِلَّا بُعْدًا. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: يَكْفِي مِنَ الدُّعَاءِ مَعَ الْبِرِّ، مَا يَكْفِي الطَّعَامَ مِنَ الْمِلْحِ.
وَالدُّعَاءُ مِنْ أَنْفَعِ الْأَدْوِيَةِ، وَهُوَ عَدُوُّ الْبَلَاءِ، يَدْفَعُهُ، وَيُعَالِجُهُ، وَيَمْنَعُ نُزُولَهُ، وَيَرْفَعُهُ، أَوْ يُخَفِّفُهُ إِذَا نَزَلَ، وَهُوَ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ. كَمَا رَوَى الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الدُّعَاءُ سِلَاحُ الْمُؤْمِنِ، وَعِمَادُ الدِّينِ، وَنُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. لِلدُّعَاءِ مَعَ الْبَلَاءِ مَقَامَاتٌ. وَلَهُ مَعَ الْبَلَاءِ ثَلَاثُ مَقَامَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنَ الْبَلَاءِ فَيَدْفَعُهُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَضْعَفَ مِنَ الْبَلَاءِ فَيَقْوَى عَلَيْهِ الْبَلَاءُ، فَيُصَابُ بِهِ الْعَبْدُ، وَلَكِنْ قَدْ يُخَفِّفُهُ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا. الثَّالِثُ: أَنْ يَتَقَاوَمَا وَيَمْنَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ. وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإِنَّ الْبَلَاءَ لَيَنْزِلُ فَيَلْقَاهُ الدُّعَاءُ فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: الدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، فَعَلَيْكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِالدُّعَاءِ». وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ». وَمِنْ أَنْفَعِ الْأَدْوِيَةِ: الْإِلْحَاحُ فِي الدُّعَاءِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ. وَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَعْجِزُوا فِي الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَهْلِكُ مَعَ الدُّعَاءِ أَحَدٌ». وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ. وَفِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ مُوَرِّقٌ: مَا وَجَدْتُ لِلْمُؤْمِنِ مَثَلًا إِلَّا رَجُلٌ فِي الْبَحْرِ عَلَى خَشَبَةٍ، فَهُوَ يَدْعُو: يَا رَبِّ يَا رَبِّ لَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُنْجِيَهُ. وَمِنَ الْآفَاتِ الَّتِي تَمْنَعُ تَرَتُّبَ أَثَرِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ: أَنْ يَسْتَعْجِلَ الْعَبْدُ، وَيَسْتَبْطِئَ الْإِجَابَةَ، فَيَسْتَحْسِرُ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ بَذَرَ بَذْرًا أَوْ غَرَسَ غَرْسًا، فَجَعَلَ يَتَعَاهَدُهُ وَيَسْقِيهِ، فَلَمَّا اسْتَبْطَأَ كَمَالَهُ وَإِدْرَاكَهُ تَرَكَهُ وَأَهْمَلَهُ. وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ: لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يُسْتَجَابُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ. وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَزَالُ الْعَبْدُ بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْتَعْجِلُ؟ قَالَ: يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ رَبِّي فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِي. وَإِذَا جَمَعَ مَعَ الدُّعَاءِ حُضُورَ الْقَلْبِ وَجَمْعِيَّتَهُ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَصَادَفَ وَقْتًا مِنْ أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ السِّتَّةِ، وَهِيَ: الثُّلُثُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ، وَعِنْدَ الْأَذَانِ، وَبَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَأَدْبَارُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَعِنْدَ صُعُودِ الْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ حَتَّى تُقْضَى الصَّلَاةُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَآخِرُ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ. وَصَادَفَ خُشُوعًا فِي الْقَلْبِ، وَانْكِسَارًا بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ، وَذُلًّا لَهُ، وَتَضَرُّعًا، وَرِقَّةً. وَاسْتَقْبَلَ الدَّاعِي الْقِبْلَةَ. وَكَانَ عَلَى طَهَارَةٍ. وَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى اللَّهِ. وَبَدَأَ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ. ثُمَّ ثَنَّى بِالصَّلَاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ثُمَّ قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ حَاجَتِهِ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ. ثُمَّ دَخَلَ عَلَى اللَّهِ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَتَمَلَّقَهُ وَدَعَاهُ رَغْبَةً وَرَهْبَةً. وَتَوَسَّلَ إِلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَوْحِيدِهِ. وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ دُعَائِهِ صَدَقَةً، فَإِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ لَا يَكَادُ يُرَدُّ أَبَدًا، وَلَا سِيَّمَا إِنْ صَادَفَ الْأَدْعِيَةَ الَّتِي أَخْبَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهَا مَظَنَّةُ الْإِجَابَةِ، أَوْ أَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِلِاسْمِ الْأَعْظَمِ. فَمِنْهَا مَا فِي السُّنَنِ (وَفِي) صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِالِاسْمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَفِي لَفْظٍ: لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ». وَفِي السُّنَنِ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلِّي، ثُمَّ دَعَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى». أَخْرَجَ الْحَدِيثَيْنِ أَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ. وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ، مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 163]. وَفَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَ: {الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}»، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَصَحِيحِ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَرَبِيعَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: أَلِظُّوا بَيَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» - يَعْنِي: تَعَلَّقُوا بِهَا وَالْزَمُوا وَدَاوِمُوا عَلَيْهَا. وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا أَهَمَّهُ الْأَمْرُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فِي الدُّعَاءِ، قَالَ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ». وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ قَالَ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ». وَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ فِي ثَلَاثِ سُوَرٍ مِنَ الْقُرْآنِ: الْبَقَرَةِ، وَآلِ عِمْرَانَ، وَطَهَ، قَالَ الْقَاسِمُ: فَالْتَمَسْتُهَا فَإِذَا هِيَ آيَةُ: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَصَحِيحِ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: دَعْوَةُ ذِي النُّونِ، إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ: 87] إِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ». قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَفِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا نَزَلَ بِرَجُلٍ مِنْكُمْ أَمْرٌ مُهِمٌّ، فَدَعَا بِهِ يُفَرِّجُ اللَّهُ عَنْهُ؟ دُعَاءُ ذِي النُّونِ». وَفِي صَحِيحِهِ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقُولُ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ؟ دُعَاءِ يُونُسَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ كَانَ لِيُونُسَ خَاصَّةً؟ فَقَالَ أَلَا تَسْمَعُ قَوْلَهُ: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ: 88] فَأَيُّمَا مُسْلِمٍ دَعَا بِهَا فِي مَرَضِهِ أَرْبَعِينَ مَرَّةً فَمَاتَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ أُعْطِيَ أَجْرَ شَهِيدٍ، وَإِنْ بَرِئَ بَرِئَ مَغْفُورًا لَهُ». وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَرَبُّ الْأَرْضِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ. وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا نَزَلَ بِي كَرْبٌ أَنْ أَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَفِي مَسْنَدِهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حُزْنٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي؛ إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَتَعَلَّمُهَا؟ قَالَ: بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا كَرَبَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، إِلَّا اسْتَغَاثَ بِالتَّسْبِيحِ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْمُجَابِينَ، وَفِي الدُّعَاءِ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْأَنْصَارِ يُكَنَّى أَبَا مُعَلَّقٍ وَكَانَ تَاجِرًا يَتَّجِرُ بِمَالٍ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، يَضْرِبُ بِهِ فِي الْآفَاقِ، وَكَانَ نَاسِكًا وَرِعًا، فَخَرَجَ مَرَّةً فَلَقِيَهُ لِصٌّ مُقَنَّعٌ فِي السِّلَاحِ، فَقَالَ لَهُ: ضَعْ مَا مَعَكَ فَإِنِّي قَاتِلُكَ، قَالَ: فَمَا تُرِيدُهُ مِنْ دَمِي؟ شَأْنُكَ بِالْمَالِ، قَالَ: أَمَّا الْمَالُ فَلِي، وَلَسْتُ أُرِيدُ إِلَّا دَمَكَ، قَالَ: أَمَّا إِذَا أَبَيْتَ فَذَرْنِي أُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، قَالَ صَلِّ مَا بَدَا لَكَ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ فِي آخِرِ سُجُودِهِ أَنْ قَالَ: يَا وَدُودُ يَا وَدُودُ، يَا ذَا الْعَرْشِ الْمَجِيدِ، يَا فَعَّالًا لِمَا تُرِيدُ، أَسْأَلُكَ بِعِزِّكَ الَّذِي لَا يُرَامُ، وَبِمُلْكِكَ الَّذِي لَا يُضَامُ، وَبِنُورِكَ الَّذِي مَلَأَ أَرْكَانَ عَرْشِكَ أَنْ تَكْفِيَنِي شَرَّ هَذَا اللِّصِّ، يَا مُغِيثُ أَغِثْنِي، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَإِذَا هُوَ بِفَارِسٍ قَدْ أَقْبَلَ بِيَدِهِ حَرْبَةٌ قَدْ وَضَعَهَا بَيْنَ أُذُنَيْ فَرَسِهِ، فَلَمَّا بَصُرَ بِهِ اللِّصُّ أَقْبَلَ نَحْوَهُ، فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: قُمْ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ فَقَدْ أَغَاثَنِي اللَّهُ بِكَ الْيَوْمَ، فَقَالَ: أَنَا مَلَكٌ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، دَعَوْتَ بِدُعَائِكَ الْأَوَّلِ فَسَمِعْتُ لِأَبْوَابِ السَّمَاءِ قَعْقَعَةً، ثُمَّ دَعَوْتَ بِدُعَائِكَ الثَّانِي، فَسَمِعْتُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ ضَجَّةً، ثُمَّ دَعَوْتَ بِدُعَائِكَ الثَّالِثِ، فَقِيلَ لِي: دُعَاءُ مَكْرُوبٍ فَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُوَلِّيَنِي قَتْلَهُ، قَالَ الْحَسَنُ: فَمَنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَدَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ، اسْتُجِيبَ لَهُ، مَكْرُوبًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَكْرُوبٍ». وَكَثِيرًا مَا تَجِدُ أَدْعِيَةً دَعَا بِهَا قَوْمٌ فَاسْتُجِيبَ لَهُمْ، فَيَكُونُ قَدِ اقْتَرَنَ بِالدُّعَاءِ ضَرُورَةُ صَاحِبِهِ وَإِقْبَالُهُ عَلَى اللَّهِ، أَوْ حَسَنَةٌ تَقَدَّمَتْ مِنْهُ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِجَابَةَ دَعْوَتِهِ شُكْرًا لِحَسَنَتِهِ، أَوْ صَادَفَ وَقْتَ إِجَابَةٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَأُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ، فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ السِّرَّ فِي لَفْظِ ذَلِكَ الدُّعَاءِ وَأَحْوَالِهِ فَيَأْخُذُهُ مُجَرَّدًا عَنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي قَارَنَتْهُ مِنْ ذَلِكَ الدَّاعِي، وَهَذَا كَمَا إِذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلٌ دَوَاءً نَافِعًا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَنْبَغِي اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي، فَانْتَفَعَ بِهِ، فَظَنَّ غَيْرُهُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ هَذَا الدَّوَاءِ بِمُجَرَّدِهِ كَافٍ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ، كَانَ غَالِطًا، وَهَذَا مَوْضِعٌ يَغْلَطُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. وَمِنْ هَذَا قَدْ يَتَّفِقُ دُعَاؤُهُ بِاضْطِرَارٍ عِنْدَ قَبْرٍ فَيُجَابُ، فَيَظُنُّ الْجَاهِلُ أَنَّ السِّرَّ لِلْقَبْرِ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ السِّرَّ لِلِاضْطِرَارِ وَصِدْقِ اللُّجْأِ إِلَى اللَّهِ، فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، كَانَ أَفْضَلَ وَأَحَبَّ إِلَى اللَّهِ.
وَالْأَدْعِيَةُ وَالتَّعَوُّذَاتُ بِمَنْزِلَةِ السِّلَاحِ، وَالسِّلَاحُ بِضَارِبِهِ، لَا بِحَدِّهِ فَقَطْ، فَمَتَى كَانَ السِّلَاحُ سِلَاحًا تَامًّا لَا آفَةَ بِهِ، وَالسَّاعِدُ سَاعِدُ قَوِيٍّ، وَالْمَانِعُ مَفْقُودٌ؛ حَصَلَتْ بِهِ النِّكَايَةُ فِي الْعَدُوِّ، وَمَتَى تَخَلَّفَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ تَخَلَّفَ التَّأْثِيرُ، فَإِنْ كَانَ الدُّعَاءُ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ صَالِحٍ، أَوِ الدَّاعِي لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ فِي الدُّعَاءِ، أَوْ كَانَ ثَمَّ مَانِعٌ مِنَ الْإِجَابَةِ، لَمْ يَحْصُلِ الْأَثَرُ. وَهَاهُنَا سُؤَالٌ مَشْهُورٌ وَهُوَ: أَنَّ الْمَدْعُوَّ بِهِ إِنْ كَانَ قَدْ قُدِّرَ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ وُقُوعِهِ، دَعَا بِهِ الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَدْعُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قُدِّرَ لَمْ يَقَعْ، سَوَاءٌ سَأَلَهُ الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَسْأَلْهُ. فَظَنَّتْ طَائِفَةٌ صِحَّةَ هَذَا السُّؤَالِ، فَتَرَكَتِ الدُّعَاءَ وَالْقَدَرَ، وَقَالَتْ: لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَهَؤُلَاءِ مَعَ فَرْطِ جَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، مُتَنَاقِضُونَ فَإِنَّ طَرْدَ مَذْهَبِهِمْ يُوجِبُ تَعْطِيلَ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ فَيُقَالُ لِأَحَدِهِمْ: إِنْ كَانَ الشِّبَعُ وَالرِّيُّ قَدْ قُدِّرَا لَكَ فَلَابُدَّ مِنْ وُقُوعِهِمَا، أَكَلْتَ أَوْ لَمْ تَأْكُلْ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرَا لَمْ يَقَعَا أَكَلْتَ أَوْ لَمْ تَأْكُلْ. وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ قُدِّرَ لَكَ فَلَابُدَّ مِنْهُ، وَطِئْتَ الزَّوْجَةَ أَوِ الْأَمَةَ أَوْ لَمْ تَطَأْ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَمْ يَكُنْ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّزْوِيجِ وَالتَّسَرِّي، وَهَلُمَّ جَرَّا. فَهَلْ يَقُولُ هَذَا عَاقِلٌ أَوْ آدَمِيٌّ؟ بَلِ الْحَيَوَانُ الْبَهِيمُ مَفْطُورٌ عَلَى مُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا قِوَامُهُ وَحَيَاتُهُ، فَالْحَيَوَانَاتُ أَعْقَلُ وَأَفْهَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا. وَتَكَايَسَ بَعْضُهُمْ وَقَالَ: الِاشْتِغَالُ بِالدُّعَاءِ مِنْ بَابِ التَّعَبُّدِ الْمَحْضِ يُثِيبُ اللَّهُ عَلَيْهِ الدَّاعِيَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْمَطْلُوبِ بِوَجْهٍ مَا وَلَا فَرْقَ عِنْدَ هَذَا الْمُتَكَيِّسِ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَالْإِمْسَاكِ عَنْهُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فِي التَّأْثِيرِ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ، وَارْتِبَاطُ الدُّعَاءِ عِنْدَهُمْ بِهِ كَارْتِبَاطِ السُّكُوتِ وَلَا فَرْقَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى أَكْيَسُ مِنْ هَؤُلَاءِ: بَلِ الدُّعَاءُ عَلَامَةٌ مُجَرَّدَةٌ نَصَبَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَارَةً عَلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ، فَمَتَى وُفِّقَ الْعَبْدُ لِلدُّعَاءِ كَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً لَهُ وَأَمَارَةً عَلَى أَنَّ حَاجَتَهُ قَدِ انْقَضَتْ، وَهَذَا كَمَا إِذَا رَأَيْتَ غَيْمًا أَسْوَدَ بَارِدًا فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ وَعَلَامَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُمْطِرُ. قَالُوا: وَهَكَذَا حُكْمُ الطَّاعَاتِ مَعَ الثَّوَابِ، وَالْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي مَعَ الْعِقَابِ، هِيَ أَمَارَاتٌ مَحْضَةٌ لِوُقُوعِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَا أَنَّهَا أَسْبَابٌ لَهُ. وَهَكَذَا عِنْدَهُمُ الْكَسْرُ مَعَ الِانْكِسَارِ، وَالْحَرْقُ مَعَ الْإِحْرَاقِ، وَالْإِزْهَاقُ مَعَ الْقَتْلِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ سَبَبًا الْبَتَّةَ، وَلَا ارْتِبَاطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، إِلَّا مُجَرَّدُ الِاقْتِرَانِ الْعَادِيِّ، لَا التَّأْثِيرُ السَّبَبِيُّ وَخَالَفُوا بِذَلِكَ الْحِسَّ وَالْعَقْلَ، وَالشَّرْعَ وَالْفِطْرَةَ، وَسَائِرَ طَوَائِفِ الْعُقَلَاءِ، بَلْ أَضْحَكُوا عَلَيْهِمُ الْعُقَلَاءَ. وَلِلصَّوَابِ أَنَّ هَاهُنَا قِسْمًا ثَالِثًا، غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْمَقْدُورَ قُدِّرَ بِأَسْبَابٍ، وَمِنْ أَسْبَابِهِ الدُّعَاءُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ مُجَرَّدًا عَنْ سَبَبِهِ، وَلَكِنْ قُدِّرَ بِسَبَبِهِ، فَمَتَى أَتَى الْعَبْدُ بِالسَّبَبِ، وَقَعَ الْمَقْدُورُ، وَمَتَى لَمْ يَأْتِ بِالسَّبَبِ انْتَفَى الْمَقْدُورُ، وَهَذَا كَمَا قُدِّرَ الشِّبَعُ وَالرِّيُّ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَقُدِّرَ الْوَلَدُ بِالْوَطْءِ، وَقُدِّرَ حُصُولُ الزَّرْعِ بِالْبَذْرِ، وَقُدِّرَ خُرُوجُ نَفْسِ الْحَيَوَانِ بِذَبْحِهِ، وَكَذَلِكَ قُدِّرَ دُخُولُ الْجَنَّةِ بِالْأَعْمَالِ، وَدُخُولُ النَّارِ بِالْأَعْمَالِ، وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْحَقُّ، وَهَذَا الَّذِي حُرِمَهُ السَّائِلُ وَلَمْ يُوَفَّقْ لَهُ. الدُّعَاءُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ وَحِينَئِذٍ فَالدُّعَاءُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ، فَإِذَا قُدِّرَ وُقُوعُ الْمَدْعُوِّ بِهِ بِالدُّعَاءِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ: لَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ، كَمَا لَا يُقَالُ: لَا فَائِدَةَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَجَمِيعِ الْحَرَكَاتِ وَالْأَعْمَالِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْأَسْبَابِ أَنْفَعَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَلَا أَبْلَغَ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ. عُمَرُ يَسْتَنْصِرُ بِالدُّعَاءِ وَلَمَّا كَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَعْلَمَ الْأُمَّةِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَفْقَهَهُمْ فِي دِينِهِ، كَانُوا أَقْوَمَ بِهَذَا السَّبَبِ وَشُرُوطِهِ وَآدَابِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَسْتَنْصِرُ بِهِ عَلَى عَدُوِّهِ، وَكَانَ أَعْظَمَ جُنْدَيْهِ، وَكَانَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: لَسْتُمْ تُنْصَرُونَ بِكَثْرَةٍ، وَإِنَّمَا تُنْصَرُونَ مِنَ السَّمَاءِ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنِّي لَا أَحْمِلُ هَمَّ الْإِجَابَةِ، وَلَكِنْ هَمَّ الدُّعَاءِ، فَإِذَا أُلْهِمْتُمُ الدُّعَاءَ، فَإِنَّ الْإِجَابَةَ مَعَهُ، وَأَخَذَ الشَّاعِرُ هَذَا الْمَعْنَى فَنَظَمَهُ فَقَالَ: لَوْ لَمْ تُرِدْ نَيْلَ مَا أَرْجُو وَأَطْلُبُهُ *** مِنْ جُودِ كَفَّيْكَ مَا عَلَّمْتَنِي الطَّلَبَا فَمَنْ أُلْهِمَ الدُّعَاءَ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ الْإِجَابَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [سُورَةُ غَافِرٍ:60] وَقَالَ: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِضَاءَهُ فِي سُؤَالِهِ وَطَاعَتِهِ، وَإِذَا رَضِيَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَكُلُّ خَيْرٍ فِي رِضَاهُ، كَمَا أَنَّ كُلَّ بَلَاءٍ وَمُصِيبَةٍ فِي غَضَبِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ أَثَرًا [أَنَا اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، إِذَا رَضِيتُ بَارَكْتُ، وَلَيْسَ لِبَرَكَتِي مُنْتَهًى وَإِذَا غَضِبْتُ لَعَنْتُ، وَلَعْنَتِي تَبْلُغُ السَّابِعَ مِنَ الْوَلَدِ]. وَقَدْ دَلَّ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ وَالْفِطْرَةُ وَتَجَارِبُ الْأُمَمِ - عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا وَمِلَلِهَا وَنِحَلِهَا - عَلَى أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَطَلَبِ مَرْضَاتِهِ، وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَأَضْدَادَهَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِكُلِّ شَرٍّ، فَمَا اسْتُجْلِبَتْ نِعَمُ اللَّهِ، وَاسْتُدْفِعَتْ نِقْمَتُهُ، بِمِثْلِ طَاعَتِهِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِهِ. ارْتِبَاطُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِالْعَمَلِ وَقَدْ رَتَّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حُصُولَ الْخَيْرَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَحُصُولَ السُّرُورِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي كِتَابِهِ عَلَى الْأَعْمَالِ، تُرَتُّبَ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ، وَالْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ، وَالْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ يَزِيدُ عَلَى أَلْفِ مَوْضِعٍ. فَتَارَةً يُرَتِّبُ الْحُكْمَ الْخَبَرِيَّ الْكَوْنِيَّ وَالْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لَهُ كَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 166]. وَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [سُورَةُ الزُّخْرُفِ: 55]. وَقَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [الْمَائِدَةِ: 83]. وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الْأَحْزَابِ: 35]. وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا. وَتَارَةً يُرَتِّبُهُ عَلَيْهِ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [سُورَةُ الْأَنْفَالِ: 29]. وَقَوْلِهِ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التَّوْبَةِ: 11]. وَقَوْلِهِ: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [سُورَةُ الْجِنِّ: 16]. وَنَظَائِرِهِ. وَتَارَةً يَأْتِي بِلَامِ التَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ} [سُورَةُ ص: 29]. وَقَوْلِهِ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 143]. وَتَارَةً يَأْتِي بِأَدَاةِ كَيِ الَّتِي لِلتَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [سُورَةُ الْحَشْرِ: 77]. وَتَارَةً يَأْتِي بِبَاءِ السَّبَبِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 182]. وَقَوْلِهِ: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 105]. وَقَوْلِهِ: بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ، وَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 112]. وَتَارَةً يَأْتِي بِالْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ ظَاهِرًا أَوْ مَحْذُوفًا، كَقَوْلِهِ: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 282]. وَكَقَوْلِهِ: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 172] وَقَوْلِهِ: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 156]، أَيْ: كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا. وَتَارَةً يَأْتِي بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ كَقَوْلِهِ: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [سُورَةُ الشَّمْسِ: 14]. وَقَوْلِهِ: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [سُورَةُ الْحَاقَّةِ: 10]. وَقَوْلِهِ: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 48]. وَتَارَةً يَأْتِي بِأَدَاةِ [لَمَّا] الدَّالَّةِ عَلَى الْجَزَاءِ، كَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [سُورَةُ الزُّخْرُفِ: 55]. وَنَظَائِرِهِ. وَتَارَةً يَأْتِي بِإِنَّ وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ: 90]. وَقَوْلِهِ فِي ضَوْءِ هَؤُلَاءِ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 77]. وَتَارَةً يَأْتِي بِأَدَاةِ "لَوْلَا"، الدَّالَّةِ عَلَى ارْتِبَاطِ مَا قَبْلَهَا بِمَا بَعْدَهَا، كَقَوْلِهِ: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [سُورَةُ الصَّافَّاتِ: 143 -144]. وَتَارَةً يَأْتِي "بِلَوِ" الدَّالَّةِ عَلَى الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [سُورَةُ النِّسَاءِ:6]. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقُرْآنُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ صَرِيحٌ فِي تُرَتُّبِ الْجَزَاءِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْأَحْكَامِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْأَمْرِيَّةِ عَلَى الْأَسْبَابِ، بَلْ تَرْتِيبِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَصَالِحِهِمَا وَمَفَاسِدِهِمَا عَلَى الْأَسْبَابِ وَالْأَعْمَالِ. وَمَنْ تَفَقَّهَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَأَمَّلَهَا حَقَّ التَّأَمُّلِ انْتَفَعَ بِهَا غَايَةَ النَّفْعِ، وَلَمْ يَتَّكِلْ عَلَى الْقَدَرِ جَهْلًا مِنْهُ، وَعَجْزًا وَتَفْرِيطًا وَإِضَاعَةً، فَيَكُونُ تَوَكُّلُهُ عَجْزًا، وَعَجْزُهُ تَوَكُّلًا، بَلِ الْفَقِيهُ كُلَّ الْفِقْهِ الَّذِي يَرُدُّ الْقَدَرَ بِالْقَدَرِ، وَيَدْفَعُ الْقَدَرَ بِالْقَدَرِ، وَيُعَارِضُ الْقَدَرَ بِالْقَدَرِ، بَلْ لَا يُمْكِنُ لِإِنْسَانٍ أَنْ يَعِيشَ إِلَّا بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْجُوعَ وَالْعَطَشَ وَالْبَرْدَ وَأَنْوَاعَ الْمَخَاوِفِ وَالْمَحَاذِيرِ هِيَ مِنَ الْقَدَرِ. وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ سَاهُونَ فِي دَفْعِ هَذَا الْقَدَرِ بِالْقَدَرِ، وَهَكَذَا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ يَدْفَعُ قَدَرَ الْعُقُوبَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ بِقَدَرِ التَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَهَذَا وِزَانُ الْقَدَرِ الْمُخَوِّفِ فِي الدُّنْيَا وَمَا يُضَادُّهُ سَوَاءٌ، فَرَبُّ الدَّارَيْنِ وَاحِدٌ وَحِكْمَتُهُ وَاحِدَةٌ لَا يُنَاقِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَا يُبْطِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَشْرَفِ الْمَسَائِلِ لِمَنْ عَرَفَ قَدْرَهَا، وَرَعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. لَكِنْ يَبْقَى عَلَيْهِ أَمْرَانِ بِهِمَا تَتِمُّ سَعَادَتُهُ وَفَلَاحُهُ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْرِفَ تَفَاصِيلَ أَسْبَابِ الشَّرِّ وَالْخَيْرِ، وَيَكُونَ لَهُ بَصِيرَةٌ فِي ذَلِكَ بِمَا يُشَاهِدُهُ فِي الْعَالَمِ، وَمَا جَرَّبَهُ فِي نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، وَمَا سَمِعَهُ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا. التَّارِيخُ تَفْصِيلٌ لِمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ وَمِنْ أَنْفَعِ مَا فِي ذَلِكَ تُدَبُّرُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ كَفِيلٌ بِذَلِكَ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَفِيهِ أَسْبَابُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ جَمِيعًا مُفَصَّلَةً مُبَيَّنَةً، ثُمَّ السُّنَّةِ، فَإِنَّهَا شَقِيقَةُ الْقُرْآنِ، وَهِيَ الْوَحْيُ الثَّانِي، وَمَنْ صَرَفَ إِلَيْهِمَا عِنَايَتَهُ اكْتَفَى بِهِمَا مِنْ غَيْرِهِمَا، وَهُمَا يُرِيَانِكَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَأَسْبَابَهُمَا، حَتَّى كَأَنَّكَ تُعَايِنُ ذَلِكَ عِيَانًا، وَبَعْدَ ذَلِكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ أَخْبَارَ الْأُمَمِ، وَأَيَّامَ اللَّهِ فِي أَهْلِ طَاعَتِهِ وَأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ، طَابَقَ ذَلِكَ مَا عَلِمْتَهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَرَأَيْتَهُ بِتَفَاصِيلِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ، وَوَعَدَ بِهِ، وَعَلِمْتَ مِنْ آيَاتِهِ فِي الْآفَاقِ مَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، وَأَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ، وَأَنَّ اللَّهَ يُنْجِزُ وَعْدَهُ لَا مَحَالَةَ، فَالتَّارِيخُ تَفْصِيلٌ لِجُزْئِيَّاتِ مَا عَرَّفَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْكُلِّيَّةِ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ. الْأَمْرُ الثَّانِي أَنْ يَحْذَرَ مُغَالَطَةَ نَفْسِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَهَذَا مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَعْرِفُ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ وَالْغَفْلَةَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُضِرَّةِ لَهُ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ وَلَا بُدَّ، وَلَكِنْ تُغَالِطُهُ نَفْسُهُ بِالِاتِّكَالِ عَلَى عَفْوِ اللَّهِ وَمَغْفِرَتِهِ تَارَةً، وَبِالتَّسْوِيفِ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ بِاللِّسَانِ تَارَةً، وَبِفِعْلِ الْمَنْدُوبَاتِ تَارَةً، وَبِالْعِلْمِ تَارَةً، وَبِالِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ تَارَةً، وَبِالِاحْتِجَاجِ بِالْأَشْبَاهِ وَالنُّظَرَاءِ تَارَةً، وَبِالِاقْتِدَاءِ بِالْأَكَابِرِ تَارَةً أُخْرَى. خَطَأٌ فِي فَهْمِ الِاسْتِغْفَارِ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ مَا فَعَلَ ثُمَّ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، زَالَ أَثَرُ الذَّنْبِ وَرَاحَ هَذَا بِهَذَا، وَقَالَ لِي رَجُلٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْفِقْهِ: أَنَا أَفْعَلُ مَا أَفْعَلُ ثُمَّ أَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، مِائَةَ مَرَّةٍ وَقَدْ غُفِرَ ذَلِكَ أَجْمَعُهُ كَمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ فِي يَوْمٍ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ، وَقَالَ لِي آخَرُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: نَحْنُ إِذَا فَعَلَ أَحَدُنَا مَا فَعَلَ، اغْتَسَلَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا وَقَدْ مُحِيَ عَنْهُ ذَلِكَ»، وَقَالَ لِي آخَرُ: قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أَصَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي، فَغَفَرَ اللَّهُ ذَنْبَهُ، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أَصَبْتُ ذَنْبًا، فَاغْفِرْ لِي، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، فَلْيَصْنَعْ مَا شَاءَ». وَقَالَ: أَنَا لَا أَشُكُّ أَنَّ لِي رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ قَدْ تَعَلَّقَ بِنُصُوصٍ مِنَ الرَّجَاءِ، وَاتَّكَلَ عَلَيْهَا وَتَعَلَّقَ بِهَا بِكِلْتَا يَدَيْهِ وَإِذَا عُوتِبَ عَلَى الْخَطَايَا وَالِانْهِمَاكِ فِيهَا، سَرَدَ لَكَ مَا يَحْفَظُهُ مِنْ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَنُصُوصِ الرَّجَاءِ، وَلِلْجُهَّالِ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ غَرَائِبُ وَعَجَائِبُ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: وَكَثِّرْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ الْخَطَايَا *** إِذَا كَانَ الْقُدُومُ عَلَى كَرِيمٍ وَقَوْلِ الْآخَرِ: التَّنَزُّهُ مِنَ الذُّنُوبِ جَهْلٌ بِسَعَةِ عَفْوِ اللَّهِ. وَقَالَ الْآخَرُ: تَرْكُ الذُّنُوبِ جَرَاءَةٌ عَلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَاسْتِصْغَارٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَزْمٍ: رَأَيْتُ بَعْضَ هَؤُلَاءِ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعِصْمَةِ. التَّعَلُّقُ بِالْجَبْرِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورِينَ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ الْجَبْرِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا فِعْلَ لَهُ الْبَتَّةَ وَلَا اخْتِيَارَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَجْبُورٌ عَلَى فِعْلِ الْمَعَاصِي. التَّعَلُّقُ بِالْإِرْجَاءِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَغْتَرُّ بِمَسْأَلَةِ الْإِرْجَاءِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ، وَالْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ إِيمَانَ أَفْسَقِ النَّاسِ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَغْتَرُّ بِمَحَبَّةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَالصَّالِحِينَ، وَكَثْرَةِ التَّرَدُّدِ إِلَى قُبُورِهِمْ، وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِمْ، وَالِاسْتِشْفَاعِ بِهِمْ، وَالتَّوَسُّلِ إِلَى اللَّهِ بِهِمْ، وَسُؤَالِهِ بِحَقِّهِمْ عَلَيْهِ، وَحُرْمَتِهِمْ عِنْدَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْتَرُّ بِآبَائِهِ وَأَسْلَافِهِ، وَأَنَّ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَكَانَةً وَصَلَاحًا، فَلَا يَدَعُوهُ أَنْ يُخَلِّصُوهُ كَمَا يُشَاهِدُ فِي حَضْرَةِ الْمُلُوكِ، فَإِنَّ الْمُلُوكَ تَهَبُ لِخَوَاصِّهِمْ ذُنُوبَ أَبْنَائِهِمْ وَأَقَارِبِهِمْ، وَإِذَا وَقَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي أَمْرٍ مُفْظِعٍ خَلَّصَهُ أَبُوهُ وَجَدُّهُ بِجَاهِهِ وَمَنْزِلَتِهِ.
|