الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
الجزء الثاني عشر / الموسوعة الفقهية
1 - التّشبّه لغة: مصدر تشبّه، يقال: تشبّه فلان: بفلان إذا تكلّف أن يكون مثله والمشابهة بين الشّيئين: الاشتراك بينهما في معنى من المعاني، ومنه: أشبه الولد أباه: إذا شاركه في صفة من صفاته. ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ.
2 - منها: الاتّباع والتّأسّي والتّقليد وقد تقدّم الكلام فيها تحت عنوان: (اتّباع). 3 - ومنها: الموافقة، وهي: مشاركة أحد الشّخصين للآخر في صورة قول أو فعل أو ترك أو اعتقاد أو غير ذلك، سواء أكان ذلك من أجل ذلك الآخر أم لا لأجله. فالموافقة أعمّ من التّشبّه.
4 - ذهب الحنفيّة على الصّحيح عندهم، والمِالكيّة على المذهب، وجمهور الشّافعيّة إلى: أنّ التّشبّه بالكفّار في اللّباس - الّذي هو شعار لهم به يتميّزون عن المسلمين - يحكم بكفر فاعله ظاهرا، أي في أحكام الدّنيا، فمن وضع قلنسوة المجوس على رأسه يكفر، إلا إذا فعله لضرورة الإكراه أو لدفع الحرّ أو البرد. وكذا إذا لبس زنّار النّصارى إلّا إذا فعل ذلك خديعة في الحرب وطليعة للمسلمين. أو نحو ذلك لحديث: «من تَشَبَّه بقوم فهو منهم» لأنّ اللّباس الخاصّ بالكفّار علامة الكفر، ولا يلبسه إلّا من التزم الكفر، والاستدلال بالعلامة والحكم بما دلّت عليه مقرّر في العقل والشّرع. فلو علم أنّه شدّ الزّنّار لا لاعتقاد حقيقة الكفر، بل لدخول دار الحرب لتخليص الأسارى مثلا لم يحكم بكفره. ويرى الحنفيّة في قول - وهو ما يؤخذ ممّا ذكره ابن الشّاطّ من المالكيّة - أنّ من يتشبّه بالكافر في الملبوس الخاصّ به لا يعتبر كافراً، إلا أن يعتقد معتقدهم، لأنّه موحّد بلسانه مصدّق بجنانه. وقد قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: لا يخرج أحد من الإيمان إلّا من الباب الّذي دخل فيه، والدّخول بالإقرار والتّصديق، وهما قائمان. وذهب الحنابلة إلى حرمة التّشبّه بالكفّار في اللّباس الّذي هو شعار لهم. قال البهوتيّ: إن تزيّا مسلم بما صار شعارا لأهل ذمّة، أو علّق صليبا بصدره حرم، ولم يكفر بذلك كسائر المعاصي. ويرى النّوويّ من الشّافعيّة أنّ من لبس الزّنّار ونحوه لا يكفر إذا لم تكن نيّة. أحوال تحريم التّشبّه: وبتتبع عبارات الفقهاء يتبين أنهم يقيدون كفر من يتشبه بالكفار في اللباس الخاص بهم بقيود منها: 5 - أن يفعله في بلاد الإسلام، قال أحمد الرّمليّ: كون التّزيّي بزيّ الكفّار ردّة محلّه إذا كان في دار الإسلام. أمّا في دار الحرب فلا يمكن القول بكونه ردّة، لاحتمال أنّه لم يجد غيره كما هو الغالب، أو أن يكره على ذلك. قال ابن تيميّة: لو أنّ المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم (للكفّار) في الهدي الظّاهر، لما عليه في ذلك من الضّرر بل قد يستحبّ للرّجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظّاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينيّة، من دعوتهم إلى الدّين والاطّلاع على باطن أمورهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الحسنة. فأمّا في دار الإسلام والهجرة الّتي أعزّ اللّه فيها دينه، وجعل على الكافرين فيها الصّغار والجزية ففيها شرعت المخالفة. 6 - أن يكون التّشبّه لغير ضرورة، فمن فعل ذلك للضّرورة لا يكفر، فمن شدّ على وسطه زنّاراً ودخل دار الحرب لتخليص الأسرى، أو فعل ذلك خديعة في الحرب وطليعة للمسلمين لا يكفر. وكذلك إن وضع قلنسوة المجوس على رأسه لضرورة دفع الحرّ والبرد لا يكفر. 7 - أن يكون التّشبّه فيما يختصّ بالكافر، كبرنيطة النّصرانيّ وطرطور اليهوديّ. ويشترط المالكيّة لتحقّق الرّدّة بجانب ذلك:أن يكون المتشبّه قد سعى بذلك للكنيسة ونحوها. 8 - أن يكون التّشبّه في الوقت الّذي يكون اللّباس المعيّن شعارا للكفّار، وقد أورد ابن حجر حديث أنس رضي الله عنه أنّه رأى قوماً عليهم الطّيالسة، فقال:" كأنّهم يهود خيبر" ثمّ قال ابن حجر: وإنّما يصلح الاستدلال بقصّة اليهود في الوقت الّذي تكون الطّيالسة من شعارهم، وقد ارتفع ذلك فيما بعد، فصار داخلا في عموم المباح. 9 - أن يكون التّشبّه ميلا للكفر، فمن تشبّه على وجه اللّعب والسّخرية لم يرتدّ، بل يكون فاسقا يستحقّ العقوبة، وهذا عند المالكيّة. 10 - هذا، والتّشبّه في غير المذموم وفيما لم يقصد به التّشبّه لا بأس به. قال صاحب الدّرّ المختار: إنّ التّشبّه بأهل الكتاب لا يكره في كلّ شيء، بل في المذموم وفيما يقصد به التّشبّه. قال هشام: رأيت أبا يوسف لابساً نعلين مخصوفين بمسامير فقلت أترى بهذا الحديد بأسا؟ قال: لا، قلت: سفيان وثور بن يزيد كرها ذلك لأنّ فيه تشبّها بالرّهبان، فقال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يلبس النّعال الّتي لها شعر وإنّها من لباس الرّهبان». فقد أشار إلى أنّ صورة المشابهة فيما تعلّق به صلاح العباد لا يضرّ، فإنّ الأرض ممّا لا يمكن قطع المسافة البعيدة فيها إلّا بهذا النّوع. وللتّفصيل ر: (ردّة، كفر).
11 - لا يجوز التّشبّه بالكفّار في أعيادهم، لما ورد في الحديث «من تشبّه بقوم فهو منهم»، ومعنى ذلك تنفير المسلمين عن موافقة الكفّار في كلّ ما اختصّوا به. قال اللّه تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عنكَ اليهودُ وَلا النَّصَارى حتّى تَتَّبِعَ مِلّتَهم قلْ إنَّ هُدى اللّهِ هو الهُدَى وَلئنْ اتَّبعتَ أَهواءَهم بَعْدَ الّذي جَاءَكَ مِنَ العلمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِنْ وليٍّ ولا نَصِيرٍ} وروى البيهقيّ عن عمر رضي الله عنه أنّه قال: لا تعلّموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإنّ السّخطة تنزل عليهم. وروي عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما أنّه قال: من مرّ ببلاد الأعاجم فصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبّه بهم حتّى يموت وهو كذلك، حشر معهم يوم القيامة. ولأنّ الأعياد من جملة الشّرع والمناهج والمناسك الّتي قال اللّه سبحانه وتعالى: {لِكلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً همْ نَاسِكُوه} كالقبلة والصّلاة، والصّيام فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المباهج، فإنّ الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر، بل الأعياد من أخصّ ما تتميّز به الشّرائع ومن أظهر ما لها من الشّعائر، فالموافقة فيها موافقة في أخصّ شرائع الكفر وأظهر شعائره. قال قاضيخان: رجل اشترى يوم النّيروز شيئاً لم يشتره في غير ذلك اليوم: إن أراد به تعظيم ذلك اليوم كما يعظّمه الكفرة يكون كفراً، وإن فعل ذلك لأجل السّرف والتّنعّم لا لتعظيم اليوم لا يكون كفراً. وإن أهدى يوم النّيروز إلى إنسان شيئا ولم يرد به تعظيم اليوم، إنّما فعل ذلك على عادة النّاس لا يكون كفراً. وينبغي أن لا يفعل في هذا اليوم ما لا يفعله قبل ذلك اليوم ولا بعده، وأن يحترز عن التّشبّه بالكفرة. وكره ابن القاسم - من المالكيّة - للمسلم أن يهدي إلى النّصرانيّ في عيده مكافأة، ورآه من تعظيم عيده وعونا له على كفره. وكما لا يجوز التّشبّه بالكفّار في الأعياد لا يُعَانُ المسلم المتشبّه بهم في ذلك بل ينهى عن ذلك، فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب دعوته، ومن أهدى من المسلمين هديّة في هذه الأعياد، مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديّته، خصوصا إن كانت الهديّة ممّا يستعان بها على التّشبّه بهم، مثل إهداء الشّمع ونحوه في عيد الميلاد. هذا وتجب عقوبة من يتشبّه بالكفّار في أعيادهم. وأمّا ما يبيعه الكفّار في الأسواق في أعيادهم فلا بأس بحضوره، نصّ عليه أحمد في رواية مهنّا. وقال: إنّما يمنعون أن يدخلوا عليهم بيعهم وكنائسهم، فأمّا ما يباع في الأسواق من المأكل فلا، وإن قصد إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم. وللتّفصيل (ر: عيد).
يكره التّشبّه بالكفّار في العبادات في الجملة، ومن أمثلة التّشبّه بهم في هذا المجال: أ - الصّلاة في أوقات الكراهة: 12 - نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصّلاة في أوقات الكراهة منها للتّشبّه بعبادة الكفّار. فقد أخرج مسلم من حديث عمرو بن عنبسة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «صلّ صلاة الصّبح، ثمّ أقصر عن الصّلاة حتّى تطلع الشّمس حتّى ترتفع، فإنّها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفّار. ثمّ صلّ فإنّ الصّلاة مشهودة محضورة حتّى يستقلّ الظّلّ بالرّمح. ثمّ أقصر عن الصّلاة فإنّ حينئذ تسجر جهنّم، فإذا أقبل الفيء فصلّ فإنّ الصّلاة مشهودة محضورة حتّى تصلّي العصر. ثمّ أقصر عن الصّلاة حتّى تغرب الشّمس فإنّها تغرب بين قَرْنَيْ شيطان وحينئذ يسجد لها الكفّار». وللتّفصيل في الأحكام المتعلّقة بأوقات الكراهة (ر: الموسوعة الفقهيّة 7 180 أوقات الصّلاة ف 23) ب - الاختصار في الصّلاة: 13 - لا خلاف بين الفقهاء في كراهة الاختصار في الصّلاة لأنّ اليهود تكثر من فعله، فنهي عنه كراهة للتّشبّه بهم، فقد أخرج البخاريّ ومسلم واللّفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه «نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يصلّي الرّجل مختصراً» وأخرج البخاريّ أيضاً في ذكر بني إسرائيل من رواية أبي الضّحى عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنّها كانت تكره أن يضع يده على خاصرته، تقول:" إنّ اليهود تفعله " زاد ابن أبي شيبة في رواية له: «في الصّلاة» وفي رواية أخرى «لا تشبّهوا باليهود» وللتّفصيل (ر: صلاة). ج - وِصال الصّوم: 14 - ذهب الحنفيّة، وجمهور المالكيّة، والشّافعيّة في أحد الوجهين، والحنابلة إلى كراهة وصال الصّوم، لما روى البخاريّ من حديث أنس رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال «لا تواصلوا، قالوا: إنّك تواصل، قال لستُ كأحد منكم، إنّي أطعم وأسقى أو إنّي أبيت أطعم وأسقى». وقوله صلى الله عليه وسلم «لا تواصلوا» نهي وأدناه يقتضي الكراهة. وعلّة النّهي التّشبّه بالنّصارى كما صرّح به في حديث بشير بن الخصاصية رضي الله عنه الّذي أخرجه أحمد والطّبرانيّ وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم في تفسيرهما بإسناد صحيح إلى «ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة، فمنعني بشير وقال: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا، وقال: يفعل ذلك النّصارى، ولكن صوموا كما أمركم اللّه، أتمّوا الصّيام إلى اللّيل، فإذا كان اللّيل فأفطروا» وذهب أحمد وجماعة من المالكيّة إلى جواز الوصال إلى السّحر، وبهذا قال إسحاق وابن المنذر وابن خزيمة. ويرى الشّافعيّة في الوجه الآخر، وهو ما صحّحه ابن العربيّ من المالكيّة: تحريم وصال الصّوم. وللتّفصيل (ر: صوم). د - إفراد يوم عاشوراء بالصّوم: 15 - ذهب الحنفيّة - وهو مقتضى كلام أحمد كما يقول ابن تيميّة - إلى كراهة إفراد يوم عاشوراء بالصّوم للتّشبّه باليهود. فقد روى مسلم عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال: «حين صام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول اللّه، إنّه يوم تعظّمه اليهود والنّصارى. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: فإذا كان العام المقبل إن شاء اللّه صمنا اليوم التّاسع» قال: فلم يأت العام المقبل حتّى توفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. قال النّوويّ، نقلا عن بعض العلماء في تعليقه على الحديث: لعلّ السّبب في صوم التّاسع مع العاشر أن لا يتشبّه باليهود في إفراد العاشر، وفي الحديث إشارة إلى هذا. هذا، واستحبّ الشّافعيّة والحنابلة صوم عاشوراء - وهو العاشر من المحرّم - وتاسوعاء - وهو التّاسع منه - ويرى الحنفيّة أنّه يستحبّ أن يصوم قبل عاشوراء يوماً وبعده يوماً. وقال المالكيّة: ندب صوم عاشوراء وتاسوعاء والثّمانية قبله. وتفصيل ر: (صوم، وعاشوراء).
16 - قال القرطبيّ: لو خصّ أهل الفسوق والمجون بلباس منع لبسه لغيرهم، فقد يظنّ به من لا يعرفه أنّه منهم، فيظنّ به ظنّ السّوء فيأثم الظّانّ والمظنون فيه بسبب العون عليه. وللتّفصيل ر: (شهادة، فسق).
17 - ذهب جمهور العلماء إلى تحريم تشبّه النّساء بالرّجال والرّجال بالنّساء. فقد روي البخاريّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال: «لعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المتشبّهين من الرّجال بالنّساء، والمتشبّهات من النّساء بالرّجال». وذهب الشّافعيّة في قول، وجماعة من الحنابلة إلى كراهة تشبّه الرّجال بالنّساء وعكسه. والتّشبّه يكون في اللّباس والحركات والسّكنات والتّصنّع بالأعضاء والأصوات. ومثال ذلك: تشبّه الرّجال بالنّساء في اللّباس والزّينة الّتي تختصّ بالنّساء، مثل لبس المقانع والقلائد والمخانق والأسورة والخلاخل والقرط ونحو ذلك ممّا ليس للرّجال لبسه. وكذلك التّشبّه بهنّ في الأفعال الّتي هي مخصوصة بها كالانخناث في الأجسام والتّأنّث في الكلام والمشي. كذلك تشبّه النّساء بالرّجال في زيّهم أو مشيهم أو رفع صوتهم أو غير ذلك. وهيئة اللّباس قد تختلف باختلاف عادة كلّ بلد، فقد لا يفترق زيّ نسائهم عن زيّ رجالهم لكن تمتاز النّساء بالاحتجاب والاستتار. قال الإسنويّ: إنّ العبرة في لباس وزيّ كلّ من النّوعين - حتّى يحرم التّشبّه به فيه - بعرف كلّ ناحية. وأمّا ذمّ التّشبّه بالكلام والمشي فمختصّ بمن تعمّد ذلك، وأمّا من كان ذلك من أصل خلقته فإنّما يؤمر بتكلّف تركه والإدمان على ذلك بالتّدريج، فإن لم يفعل وتمادى دخله الذّمّ، ولا سيّما إن بدا منه ما يدلّ على الرّضا به. هذا ويجب إنكار التّشبّه باليد، فإن عجز فباللّسان مع أمن العاقبة، فإن عجز فبقلبه كسائر المنكرات. ويترتّب على هذا أنّه يجب على الزّوج أن يمنع زوجته ممّا تقع فيه من التّشبّه بالرّجال في لبسة أو مشية أو غيرهما، امتثالاً لقوله تعالى: {قُوا أَنْفسَكم وَأَهليكمْ نَاراً} أي بتعليمهم وتأديبهم وأمرهم بطاعة ربّهم ونهيهم عن معصيته.
18 - يؤخذ أهل الذّمّة بإظهار علامات يعرفون بها، ولا يتركون يتشبّهون بالمسلمين في لباسهم ومراكبهم وهيئاتهم. والأصل فيه ما روي" أنّ عمر بن عبد العزيز رحمه الله مرّ على رجال ركوب ذوي هيئة، فظنّهم مسلمين فسلّم عليهم، فقال له رجل من أصحابه: أصلحك اللّه تدري من هؤلاء؟ فقال: من هم؟ فقال: نصارى بني تغلب. فلمّا أتى منزله أمر أن ينادى في النّاس أن لا يبقى نصرانيّ إلا عقد ناصيته وركب الإكاف ". ولم ينقل أنّه أنكر عليه أحد، فيكون كالإجماع. ولأنّ السّلام من شعائر الإسلام فيحتاج المسلمون إلى إظهار هذه الشّعائر عند الالتقاء، ولا يمكنهم ذلك إلّا بتمييز أهل الذّمّة بالعلامة. هذا، وإذا وجب التّمييز وجب أن يكون فيه صغار لا إعزاز، لأنّ إذلالهم واجب بغير أذى من ضرب أو صفع بلا سبب يكون منه، بل المراد اتّصافه بهيئة خاصّة. وكذا يجب أن يتميّز نساء أهل الذّمّة عن نساء المسلمين في حال المشي في الطّريق، وتجعل على دورهم علامة كي لا يعاملوا بما يختصّ به المسلمون، ولا يمنعون من أن يسكنوا في أمصار المسلمين في غير جزيرة العرب يبيعون ويشترون، لأنّ عقد الذّمّة شرع ليكون وسيلة لهم إلى الإسلام. وتمكينهم من المقام أبلغ إلى هذا المقصود. وللتّفصيل في الأمور الّتي يمنع تشبّه أهل الذّمّة فيه بالمسلمين تنظر أبواب الجزية وعقد الذّمّة من كتب الفقه.
1 - التّشبيب مصدر شبّب. ومن معانيه: ترقيق أوّل الشّعر بذكر النّساء، وشبّب بالمرأة: قال فيها الغزل أو النّسيب. والاصطلاح الفقهيّ لا يخرج عن هذا المعنى اللّغويّ.
التّشبيب، والنّسيب، والغزل ألفاظ مترادفة، المراد منها: ذكر محاسن النّساء.
2 - يحرم التّشبيب بامرأة معيّنة محرّمة على المشبّب أو بغلام أمرد. ولا يعرف خلاف بين الفقهاء في حرمة ذكر المثير على الفحش من الصّفات الحسّيّة والمعنويّة لامرأة أجنبيّة محرّمة عليه، ويستوي في ذلك ذكر الصّفات الظّاهرة والباطنة لما في ذلك من الإيذاء لها ولذويها، وهتك السّتر والتّشهير بمسلمة. أمّا التّشبّب بزوجته أو جاريته فهو جائز ما لم يصف أعضاءها الباطنة، أو يذكر ما من حقّه الإخفاء فإنّه يسقط مروءته، ويكون حراما أو مكروها، على خلاف في ذلك. وكذا يجوز التّشبيب بامرأة غير معيّنة، ما لم يقل فحشا أو ينصب قرينة تدلّ على التّعيين، لأنّ الغرض من ذلك هو تحسين الكلام وترقيقه لا تحقيق المذكور، فإن نصب قرينة تدلّ على التّعيين فهو في حكم التّعيين. وليس ذكر اسم امرأة مجهولة كليلى وسعاد تعيينا، لحديث: كعب بن زهير: وإنشاده قصيدته المشهورة «بانت سعاد.. بين يدي الرّسول صلى الله عليه وسلم». 3 - يحرم التّشبيب بغلام - إن ذكر أنّه يعشقه وإن لم يكن معيّنا، لأنّه لا يحلّ بحال. وقيل: إن لم يكن معيّنا فهو كالمرأة غير المعيّنة. هذا في إنشاء القول من شعر أو نثر. أمّا رواية ذلك أو إنشاده فإنّه إذا لم يقصد به الحضّ على المحرّم فهو مباح لنحو الاستشهاد أو تعلّم الفصاحة والبلاغة. وقيّد الحنفيّة تحريم التّشبيب بالمرأة بكونها معيّنة حيّة. فلو شبّب بامرأة غير حيّة لم يحرم.
1 - التّشبيك في اللّغة: المداخلة، فيقال لكلّ متداخلين أنّهما مشتبكان. ومنه: شبّاك الحديد، وتشبيك الأصابع - وهو المراد هنا - لدخول بعضها في بعض. والشّبك: الخلط والتّداخل، فيقال: شبك الشّيء يشبكه شبكا: إذا خلطه وأنشب بعضه في بعض. وتشبيك الأصابع لا يخرج في معناه الاصطلاحيّ عن هذا، قال ابن عابدين: تشبيك الأصابع: أن يدخل الشّخص أصابع إحدى يديه بين أصابع الأخرى.
2 - أجمع الفقهاء على أنّ تشبيك الأصابع في الصّلاة مكروه، لما روي عن كعب بن عجرة رضي الله عنه «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد شبّك أصابعه في الصّلاة، ففرّج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين أصابعه». وقال ابن عمر رضي الله عنهما في الّذي يصلّي وهو يشبّك أصابعه «تلك صلاة المغضوب عليهم» وأمّا تشبيكها في المسجد في غير صلاة، وفي انتظارها أي حيث جلس ينتظرها، أو ماشيا إليها، فقد قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة بكراهة التّشبيك حينئذ، لأنّ انتظار الصّلاة هو في حكم الصّلاة لحديث الصّحيحين «لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصّلاةُ تَحْبِسُه» ولما روى أحمد وأبو داود وغيرهما مرفوعا «إذا توضّأ أحدكم فأحسن وضوءه ثمّ خرج عامداً إلى المسجد، فلا يشبّك بين يديه فإنّه في صلاة» وما روى أبو سعيد الخدريّ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبّكنّ، فإنّ التّشبيك من الشّيطان، وإنّ أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد حتّى يخرج منه» وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول «إذا توضّأ أحدكم ثمّ خرج عامدا إلى الصّلاة، فلا يشبّكنّ بين يديه، فإنّه في صلاة». 3 - وقد اختلف في الحكمة في النّهي عن التّشبيك في المسجد، فقيل: إنّ النّهي عنه لما فيه من العبث. وقيل: لما فيه من التّشبّه بالشّيطان. وقيل: لدلالة الشّيطان على ذلك. وفي حاشية الطّحاويّ على مراقي الفلاح: حكمة النّهي عن التّشبيك: أنّه من الشّيطان، وأنّه يجلب النّوم، والنّوم من مظانّ الحدث، ولما نبّه عليه في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الّذي يصلّي وهو يشبّك أصابعه تلك صلاة المغضوب عليهم فكره ذلك لما هو في حكم الصّلاة، حتّى لا يقع في المنهيّ عنه. وكراهته في الصّلاة أشدّ. ولا يكره عند الجمهور التّشبيك بعد الفراغ ولو كان في المسجد، لحديث ذي اليدين رضي الله عنه الّذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه - قال «صلّى بنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العَشِيّ - قال ابن سيرين: سمّاها أبو هريرة، ولكن نسيت أنا - قال: فصلّى بنا ركعتين، ثمّ سلّم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتّكأ عليها كأنّه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبّك بين أصابعه، ووضع خدّه الأيمن على ظهر كفّه اليسرى، وخَرَجَتِ السُّرْعانُ من أبواب المسجد، فقالوا: قُصِرت الصّلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلّماه، وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين قال: يا رسول اللّه أنسيتَ أم قصرت الصّلاة؟ قال لم أنس ولم تقصر فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم. فتقدّم فصلّى ما ترك، ثمّ سلّم، ثمّ كبّر وسجد مثل سجوده أو أطول ثمّ رفع رأسه وكبّر، ثمّ كبّر وسجد مثل سجوده - أو أطول، ثمّ رفع رأسه وكبّر. فربّما سألوه: ثمّ سلّم؟ فيقول: نبّئت أنّ عمران بن حصين قال: ثمّ سلّم». ولا بأس به عند المالكيّة في غير صلاة حتّى ولو في المسجد، لأنّ كراهته عندهم إنّما هي في الصّلاة فقط، إلّا أنّه خلاف الأولى على نحو ما ورد بالشّرح الكبير وجواهر الإكليل. وفي مواهب الجليل ما نصّه: وأمّا بالنّسبة لغير الصّلاة فالتّشبيك لا بأس به حتّى في المسجد. قال ابن عرفة: وسمع ابن القاسم - أي من مالك -: لا بأس بتشبيك الأصابع يعني في المسجد في غير صلاة. وأومأ داود بن قيس ليد مالك مشبّكاً أصابعه به - أي بالمسجد - ليطلقه وقال: ما هذا؟ فقال مالك: إنّما يكره في الصّلاة. وقال ابن رشد: صحّ في حديث ذي اليدين تشبيكه صلى الله عليه وسلم بين أصابعه في المسجد. 4 - وأمّا تشبيكها خارج الصّلاة فيما ليس من توابعها: بأن لم يكن في حال سعي إليها، أو جلوس في المسجد لأجلها، فإن كان لحاجة نحو إراحة الأصابع - وليس لعبثٍ بل لغرض صحيح - فإنّه في هذه الحالة لا يكره عند الحنفيّة، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً» وشبّك بين أصابعه. فإنّه لإفادة تمثيل المعنى، وهو التّعاضد والتّناصر بهذه الصّورة الحسّيّة. فلو شبّك لغير حاجة على سبيل العبث كره تنزيها. وفي حاشية الشبراملسي من الشّافعيّة: أنّه إذا جلس في المسجد لا للصّلاة بل لغيرها، كحضور درس أو كتابة، فلا يكره ذلك في حقّه لأنّه لم يصدق عليه أنّه ينتظر الصّلاة. وأمّا إذا انتظرهما معا فينبغي الكراهة، لأنّه يصدق عليه أنّه ينتظر الصّلاة. وأمّا المالكيّة فقد رأوا كراهة التّشبيك للمصلّي خاصّة ولو في غير مسجد، ولا بأس به عندهم في غير الصّلاة ولو في المسجد، لقول مالك: يكره في الصّلاة حين أومأ داود بن قيس ليده مشبّكاً أصابعه ليطلقه وقال: ما هذا؟. 5 - والتّشبيك حال خطبة الجمعة يكره عند غير المالكيّة من الأئمّة، لأنّ مستمع الخطبة في انتظار الصّلاة، فهو كمن في الصّلاة لما سبق. وعند المالكيّة: غير مكروه، لأنّ الكراهة عندهم في الصّلاة فقط ولو كان في المسجد، وإن كان هذا هو خلاف الأولى كما تقدّم.
1 - التّشبيه في اللّغة: مصدر شبّهت الشّيء بالشّيء: إذا أقمته مقامه بصفة جامعة بينهما. وتكون الصّفة ذاتيّة ومعنويّة: فالذّاتيّة نحو هذا الدّرهم كهذا الدّرهم أي في القدر، والمعنويّة نحو زيد كالأسد. وفي اصطلاح علماء البيان: هو الدّلالة على اشتراك شيئين في وصف من أوصاف الشّيء في نفسه، كالشّجاعة في الأسد والنّور في الشّمس. وهو إمّا تشبيه مفرد كقوله تعالى: {إنَّ اللّهَ يُحِبُّ الّذينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِه صَفَّاً كَأنَّهمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} أو تشبيه مفردات بمفردات، كقوله صلى الله عليه وسلم «إنّما مثل ما بعثني اللّه به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقيّة قَبِلت الماءَ فأنبتت الكلأَ والعشبَ الكثير، وكان منها أجادبُ أمسكت الماءَ - فنفع اللّه بها النّاس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنّما هي قِيعانٌ لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مَثَلُ من فَقُه في دين اللّه ونفعه ما بعثني اللّه به فَعَلِم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى اللّه الّذي أُرسلتُ به». فقد شبّه العلم بالغيث، وشبّه من ينتفع به بالأرض الطّيّبة، ومن لا ينتفع به بالقيعان. فهي تشبيهات مجتمعة، أو تشبيه مركّب، كقوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مَثَلي مثل الأنبياء من قبلي: كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل النّاس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وُضِعَتْ، هذه اللَّبِنَةُ؟ قال: فأنا اللَّبِنَةُ، وأنا خاتَمُ النّبيّين». فهذا تشبيه المجموع بالمجموع، لأنّ وجه الشّبه عقليّ منتزع من عدّة أمور.
القياس: 2 - القياس هو: إلحاق فرع بأصل في الحكم لعلّة جامعة بينهما.
يختلف حكم التّشبيه بحسب موقعه والمراد منه على ما سيأتي. أ - التّشبيه في الظّهار: 3 - الظّهار شرعا: تشبيه المسلم زوجته أو جزءا شائعا منها بمحرّم عليه تأبيداً، كقوله: أنت عليّ كظهر أمّي أو نحوه، أو كبطنها أو كفخذها، ونحو ذلك. وهذا النّوع من التّشبيه حرام نصّا لقوله تعالى: {الّذينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكمْ مِنْ نِسَائِهمْ ما هنَّ أُمَّهَاتِهم إنْ أُمَّهاتُهمْ إلا اللائي وَلَدْنَهم، وَإِنَّهمْ ليقولونَ مُنْكَراً مِن القولِ وزوراً}. وإذا وقع من الزّوج التّشبيه، ممّا يعتبر ظهارا، يحرم عليه وطء امرأته قبل أن يكفّر باتّفاق الفقهاء. وكذلك يحرم التّلذّذ بما دون الجماع عن جمهور الفقهاء: الحنفيّة والمالكيّة، وهو قول عند الشّافعيّة، ورواية عند الحنابلة، لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلكمْ تُوعَظُونَ به واللّهُ بِمَا تَعْمَلونَ خَبيرٌ فَمَنْ لمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرين مُتَتَابعين مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} والتّماسّ شامل للوطء ودواعيه. وفي قول عند الشّافعيّة، وهو رواية أخرى عند الحنابلة: لا يحرم إلّا الوطء. وهذا في صريح ألفاظ الظّهار. أمّا في كناياته، كقوله: أنت عليّ مثل أمّي صحّت نيّته برّا أو ظهارا أو طلاقا. وفي الموضوع فروع كثيرة ينظر تفصيلها مع اختلاف الفقهاء في مصطلح (ظهار). ب - التّشبيه في القذف: 4 - أجمع العلماء على أنّه إذا صرّح القاذف بالزّنى كان قذفا ورميا موجبا للحدّ، فإن عرّض ولم يصرّح، فقال مالك: هو قذف، وقال أبو حنيفة والشّافعيّ: لا يكون قذفا حتّى يقول: أردت به القذف. والدّليل لما قاله مالك هو أنّ موضوع الحدّ في القذف إنّما هو لإزالة المعرّة الّتي أوقعها القاذف بالمقذوف، فإذا حصلت المعرّة بالتّعريض وجب أن يكون قذفا كالتّصريح، وذلك راجع إلى الفهم، وقد قال تعالى على لسان قوم شعيب أنّهم قالوا له {إِنَّكَ لأَنتَ الحَليمُ الرَّشِيد} أي السّفيه الضّالّ، فعرّضوا له بالسّبّ بكلام ظاهره المدح في أحد التّأويلات. وقد حبس عمر رضي الله عنه الحطيئة لمّا قال لأحدهم: دَعِ المَكَارِمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِها *** وَاقْعدْ فَإِنَّكَ أنتَ الطَّاعِمُ الكَاسِي لأنّه شبّهه بالنّساء في أنّهنّ يُطعَمْن ويسقين ويكسين. وعلى ذلك فإذا فهم من تشبيه المرأة أو الرّجل بالعفيفة أو العفيف استهزاء، كان كالرّمي الصّريح في مذهب مالك. ج - تشبيه الرّجل غيره بما يكره: 5 - لا يجوز للمسلم أن يشبّه أخاه المسلم بما يكرهه، قال تعالى: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بئسَ الاسمُ الفُسُوقُ بعدَ الإِيمانِ} وسواء أكان التّشبيه بذكر أداة التّشبيه أو بحذفها كقوله: يا مخنّث، يا أعمى. واتّفق الفقهاء على أنّه يعزّر بقوله: يا كافر يا منافق يا أعور يا نمّام يا كذّاب يا خبيث يا مخنّث يا ابن الفاسقة، ونحو ذلك من كلّ ما فيه إيذاء بغير حقّ، ولو بغمز العين أو إشارة اليد، لارتكابه معصية لا حدّ فيها، وكلّ معصية لا حدّ فيها فيها التّعزير. وكذلك يعزّر إذا شبّهه بالحيوانات الدّنيئة كقوله: يا حمار، يا كلب، يا قرد، يا بقر ونحو ذلك عند جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو المختار عند متأخّري الحنفيّة - لأنّ كلّ من ارتكب منكرا أو آذى مسلما بغير حقّ بقول أو فعل أو إشارة يستحقّ التّعزير. وفي ظاهر الرّواية عند الحنفيّة: لا يعزّر بقوله: يا حمار، يا كلب ونحو ذلك لظهور كذبه. وفرّق بعض الحنفيّة بين ما إذا كان المسبوب من الأشراف فيعزّر، أو من العامّة فلا يعزّر، كما استحسنه في الهداية والزّيلعيّ. وهذا كلّه إذا لم يصل الشّتم والسّبّ إلى حدّ القذف، أمّا إذا كان من أنواع القذف: كالرّمي بالزّنا من غير بيّنة، فإنّه يحدّ على تفصيل ينظر في مصطلح: (قذف).
انظر: أيّام التّشريق.
1 - التّشريك في اللّغة: مصدر شرّك. يقال: شرّك فلان فلانا. إذا أدخله في الأمر وجعله شريكاً له فيه. ويقال: شرّك غيره في ما اشتراه ليدفع الغير بعض الثّمن، ويصير شريكاً له في المبيع. ويقال أيضا: شرّك نعله تشريكا: إذا حمل له شراكا، والشّراك: سير النّعل الّذي على ظهرها. والتّشريك في الاصطلاح الشّرعيّ: إدخال الغير في الاسم كالشّراء ونحوه، ليكون شريكا له فيه.
الإشراك: 2 - الإشراك بمعنى التّشريك. وإذا قيل: أشرك الكافر باللّه، فالمراد أنّه جعل غير اللّه شريكا له، تعالى اللّه عن ذلك. (ر: إشراك).
3 - التّشريك في الشّراء ونحوه جائز، وتشريك غير عبادة في نيّة العبادة أو تشريك عبادتين في نيّة واحدة جائز على التّفصيل الآتي: أ - تشريك ما لا يحتاج إلى نيّة في نيّة العبادة: 4 - لا نعلم خلافا بين الفقهاء في جواز تشريك ما لا يحتاج إلى نيّة في نيّة العبادة، كالتّجارة مع الحجّ لقوله تعالى: {وَأَذِّنْ في النَّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وعَلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيق لِيشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهم وَيَذْكُروا اسمَ اللّهِ في أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ...} وقوله في شأن الحجّ أيضا: {لَيسَ عَليكمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكمْ} نزلت في التّجارة مع الحجّ. والصّوم مع قصد الصّحّة، والوضوء مع نيّة التّبرّد، والصّلاة مع نيّة دفع الغريم، لأنّ هذه الأشياء تحصل بغير نيّة فلم يؤثّر تشريكها في نيّة العبادة، وكالجهاد مع قصد حصول الغنيمة. جاء في مواهب الجليل نقلا عن الفروق للقرافيّ: من يجاهد لتحصيل طاعة اللّه بالجهاد، وليحصل له المال من الغنيمة، فهذا لا يضرّه ولا يحرم عليه بالإجماع، لأنّ اللّه تعالى جعل له هذا في هذه العبادة. ففرّق بين جهاده ليقول النّاس: هذا شجاع، أو ليعظّمه الإمام، فيكثر عطاءه من بيت المال. فهذا ونحوه رياء حرام. وبين أن يجاهد لتحصيل الغنائم من جهة أموال العدوّ مع أنّه قد شرّك. ولا يقال لهذا رياء، بسبب أنّ الرّياء أن يعمل ليراه غير اللّه من خلقه. ومن ذلك أن يجدّد وضوءا ليحصل له التّبرّد أو التّنظّف، وجميع هذه الأغراض لا يدخل فيها تعظيم الخلق، بل هي لتشريك أمور من المصالح ليس لها إدراك، ولا تصلح للإدراك ولا للتّعظيم، ذلك لا يقدح في العبادات، فظهر الفرق بين قاعدة الرّياء في العبادات وبين قاعدة التّشريك فيها. وجاء في مغني المحتاج: من نوى بوضوئه تبرّدا أو شيئا يحصل بدون قصد كتنظّف، ولو في أثناء وضوئه (مع نيّة معتبرة) أي مستحضرا عند نيّة التّبرّد أو نحوه نيّة الوضوء أجزأه ذلك على الصّحيح، لحصول ذلك من غير نيّة، كمصلّ نوى الصّلاة ودفع الغريم فإنّها تجزئه، لأنّ اشتغاله عن الغريم لا يفتقر إلى نيّة. والقول الثّاني يضرّ، لما في ذلك من التّشريك بين قربة وغيرها، فإن فقد النّيّة المعتبرة، كأن نوى التّبرّد أو نحوه وقد غفل عنها، لم يصحّ غسل ما غسله بنيّة التّبرّد ونحوه، ويلزمه إعادته دون استئناف الطّهارة. قال الزّركشيّ: وهذا الخلاف في الصّحّة. أمّا الثّواب فالظّاهر عدم حصوله، وقد اختار الغزاليّ فيما إذا شرّك في العبادة غيرها من أمر دنيويّ اعتبار الباعث على العمل، فإن كان القصد الدّنيويّ هو الأغلب لم يكن فيه أجر، إن كان القصد الدّينيّ أغلب فله بقدره، وإن تساويا تساقطا. واختار ابن عبد السّلام أنّه لا أجر فيه مطلقا، سواء أتساوى القصدان أم اختلفا. وانظر أيضا مصطلح: (نيّة). ب - تشريك عبادتين في نيّة: 5 - إن أشرك عبادتين في النّيّة، فإن كان مبناهما على التّداخل كغسلي الجمعة والجنابة، أو الجنابة والحيض، أو غسل الجمعة والعيد، أو كانت إحداهما غير مقصودة كتحيّة المسجد مع فرض أو سنّة أخرى، فلا يقدح ذلك في العبادة، لأنّ مبنى الطّهارة على التّداخل، والتّحيّة وأمثالها غير مقصودة بذاتها، بل المقصود شغل المكان بالصّلاة، فيندرج في غيره. أمّا التّشريك بين عبادتين مقصودتين بذاتها كالظّهر وراتبته، فلا يصحّ تشريكهما في نيّة واحدة، لأنّهما عبادتان مستقلّتان لا تندرج إحداهما في الأخرى. وانظر أيضا مصطلح: (نيّة). ج - التّشريك في المبيع: 6 - يجوز التّشريك في العقد، كأن يقول المشتري لعالم بالثّمن: أشركتك في هذا المبيع ويقبل الآخر، وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء فإن أشركه في قدر معلوم كالنّصف والرّبع فله ذلك في المبيع، وإن أطلق فله النّصف، لأنّ الشّركة المطلقة تقتضي المساواة، وهو كالبيع والتّولية في أحكامه وشروطه. د - التّشريك بين نسوة في طَلْقة: 7 - إذا قال لنسائه الأربع: أوقعت عليكنّ طلقة وقع على كلّ واحدة طلقة، لأنّ الطّلقة لا تتجزّأ. ولو قال: طلقتين أو ثلاثاً أو أربعاً، وقع على كلّ واحدة طلقة فقط، إلا أن يريد توزيع كلّ طلقة عليهنّ، فيقع في " طلقتين " على كلّ واحدة طلقتان، وفي " ثلاث وأربع "، ثلاث .
1 - من معاني التّشميت لغة: الدّعاء بالخير والبركة. وكلّ داع لأحد بخير فهو مُشَمِّت ومسمّت بالشّين والسّين، والشّين أعلى وأفشى في كلامهم. وكلّ دعاء بخير فهو تشميت. وفي حديث«تزويج عليّ بفاطمة رضي الله عنهما: شمّت عليهما»: أي دعا لهما بالبركة. وفي حديث العطاس: «فشمّت أحدهما ولم يشمّت الآخر». فالتّشميت والتّسميت: الدّعاء بالخير والبركة. وتشميت العاطس أو تَسْمِيته: أن يقول له متى كان مسلما: يرحمك اللّه. وهو لا يخرج في الاصطلاح الفقهيّ عن هذا المعنى.
2 - اتّفق العلماء على أنّه يشرع للعاطس عقب عطاسه أن يحمد اللّه، فيقول: الحمد للّه، ولو زاد: ربّ العالمين كان أحسن كفعل ابن مسعود. ولو قال: الحمد للّه على كلّ حال كان أفضل كفعل ابن عمر. وقيل يقول: الحمد للّه حمدا كثيرا طيّبا مباركا فيه، كفعل غيرهما. وروى أحمد والنّسائيّ من حديث سالم بن عبيد مرفوعا «إذا عَطَس أحدكم فليقل: الحمد للّه على كلّ حال أو الحمد للّه ربّ العالمين» وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد للّه على كلّ حال» ومتى حمد اللّه بعد عطسته كان حقّا على من سمعه من إخوانه المسلمين غير المصلّين أن يشمّته " يرحمك اللّه " فقد روى البخاريّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «إذا عطس أحدكم فحمد اللّه فحقّ على كلّ مسلم سمعه أن يقول: يرحمك اللّه». وفي صحيح البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد للّه. وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك اللّه. فإذا قال له: يرحمك اللّه فليقل: يهديكم اللّه ويصلح بالكم». وعن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «حقّ المسلم على المسلم خمس: ردّ السّلام، وعيادة المريض واتّباع الجنائز، وإجابة الدّعوة، وتشميت العاطس» وفي رواية لمسلم «حقّ المسلم على المسلم ستّ: إذا لقيته فسلّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد اللّه تعالى فشمّته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتّبعه». وإن لم يحمد اللّه بعد عطسته فلا يشمّت. فعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه مرفوعاً «إذا عطس أحدكم فحمد اللّه فشمّتوه، فإن لم يحمد اللّه فلا تشمّتوه». وعن أنس رضي الله عنه قال: «عطس رجلان عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فشمّت أحدهما ولم يشمّت الآخر. فقال الّذي لم يشمّته: عطس فلان فَشَمّتَّه، وعطست فلم تشمّتني فقال: إنّ هذا حمد اللّه تعالى، وإنّك لم تحمد اللّه تعالى» وهذا الحكم عامّ وليس مخصوصا بالرّجل الّذي وقع له ذلك. يؤيّد العموم ما جاء في حديث أبي موسى «إذا عطس أحدكم فحمد اللّه فشمّتوه، وإن لم يحمد اللّه فلا تشمّتوه». فالتّشميت قد شرع لمن حمد اللّه دون من لم يحمده، فإذا عرف السّامع أنّ العاطس حمد اللّه بعد عطسته شمّته، كأن سمعه يحمد اللّه، وإن سمع العطسة ولم يسمعه يحمد اللّه، بل سمع من شمّت ذلك العاطس، فإنّه يشرع له التّشميت لعموم الأمر به لمن عطس فحمد، وقال النّوويّ المختار أنّه يشمّته من سمعه دون غيره. وهذا التّشميت سنّة عند الشّافعيّة. وفي قول للحنابلة وعند الحنفيّة هو واجب. وقال المالكيّة، وهو المذهب عند الحنابلة بوجوبه على الكفاية. ونقل عن البيان أنّ الأشهر أنّه فرض عين، لحديث «كان حقّا على كلّ مسلم سمعه أن يقول له: يرحمك اللّه». فإن عطس ولم يحمد اللّه نسيانا استحبّ لمن حضره أن يذكّره الحمد ليحمد فيشمّته. وقد ثبت ذلك عن إبراهيم النّخعيّ. 3 - ويندب للعاطس أن يردّ على من شمّته: فيقول له: يغفر اللّه لنا ولكم، أو يهديكم اللّه ويصلح بالكم، وقيل: يجمع بينهما، فيقول: يرحمنا اللّه وإيّاكم ويغفر لنا ولكم. فقد روي عن ابن عمر أنّه كان إذا عطس فقيل له: يرحمك اللّه. قال:" يرحمنا اللّه وإيّاكم ويغفر اللّه لنا ولكم ". قال ابن أبي جمرة: في الحديث دليل على عظيم نعمة اللّه على العاطس. يؤخذ ذلك ممّا رتّب عليه من الخير. وفيه إشارة إلى عظيم فضل اللّه على عبده. فإنّه أذهب عنه الضّرر بنعمة العطس، ثمّ شرع له الحمد الّذي يثاب عليه، ثمّ الدّعاء بالخير بعد الدّعاء بالخير وشرع هذه النّعم المتواليات في زمن يسير فضلا منه وإحساناً. فإذا قيل للعاطس: يرحمك اللّه، فمعناه: جعل اللّه لك ذلك لتدوم لك السّلامة، وفيه إشارة إلى تنبيه العاطس على طلب الرّحمة والتّوبة من الذّنب، ومن ثَمَّ شرع به الجواب بقوله: غفر اللّه لنا ولكم وقوله: ويصلح بالكم أي شأنكم. وقوله تعالى: {سَيَهْدِيهمْ وَيُصْلِحُ بَالَهمْ} أي شأنهم. وهذا ما لم يكن في صلاته أو خلائه.
4 - من آداب العاطس: أن يخفض بالعطس صوته ويرفعه بالحمد. وأن يغطّي وجهه لئلّا يبدو من فيه أو أنفه ما يؤذي جليسه. ولا يلوي عنقه يميناً ولا شمالاً لئلا يتضرّر بذلك. قال ابن العربيّ: الحكمة في خفض الصّوت بالعطاس: أنّ رفعه إزعاجاً للأعضاء. وفي تغطية الوجه: أنّه لو بدر منه شيء آذى جليسه. ولو لوى عنقه صيانة لجليسه لم يأمن من الالتواء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه، وخفض أو غضّ بها صوته».
5 - قال ابن دقيق العيد: من فوائد التّشميت تحصيل المودّة، والتّأليف بين المسلمين، وتأديب العاطس بكسر النّفس عن الكبر، والحمل على التّواضع لما في ذكر الرّحمة من الإشعار بالذّنب الّذي لا يعرى عنه أكثر المكلّفين.
6 - كره الحنفيّة والمالكيّة التّشميت أثناء الخطبة، وعند الشّافعيّة في الجديد: أنّ الكلام عند الخطبة لا يحرم، ويسنّ الإنصات، ولا فرق في ذلك بين التّشميت وغيره، واستدلّ بما روى أنس رضي الله عنه قال: «دخل رجل والنّبيّ صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يوم الجمعة فقال: متى السّاعة؟ فأشار النّاس إليه أن اسكت فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عند الثّالثة: ما أعددت لها؟ قال: حبَّ اللّه ورسوله قال: إنّك مع من أحببتَ» وإذ جاز هذا في الخطبة جاز تشميت العاطس أثناءها. وعند المالكيّة، وهو القديم عند الشّافعيّة: أنّ الإنصات لسماع الخطبة واجب. لما روى جابر رضي الله عنه قال: «دخل ابن مسعود رضي الله عنه والنّبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس إلى أبيّ رضي الله عنه فسأله عن شيء فلم يردّ عليه، فسكت حتّى صلّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له: ما منعك أن تردّ عليّ؟ فقال: إنّك لم تشهد معنا الجمعة. قال: ولم؟ قال: لأنّك تكلّمت والنّبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب، فقام ابن مسعود فدخل على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر له، فقال: صدق أبيّ» وإذا كان الإنصات واجباً كان ما خالفه من تشميت العاطس أثناء الخطبة حراما. وللحنابلة روايتان: إحداهما: الجواز مطلقا أخذاً من قول الأثرم: سمعت أبا عبد اللّه أي الإمام أحمد - سئل: يردّ الرّجل السّلام يوم الجمعة؟ فقال: نعم. قال: ويشمّت العاطس؟ فقال: نعم. والإمام يخطب. وقال أبو عبد اللّه قد فعله غير واحد. قال ذلك غير مرّة، وممّن رخّص في ذلك الحسن والشّعبيّ والنّخعيّ وقتادة والثّوريّ وإسحاق. والثّانية: إن كان لا يسمع الخطبة شمّت العاطس، وإن كان يسمع لم يفعل، قال أبو طالب: قال أحمد: إذا سمعت الخطبة فاستمع وأنصت ولا تقرأ ولا تشمّت، وإذا لم تسمع الخطبة فاقرأ وشمّت وردّ السّلام. وقال أبو داود: قلت لأحمد: يردّ السّلام والإمام يخطب ويشمّت العاطس؟ قال: إذا كان ليس يسمع الخطبة فيردّ، وإذا كان يسمع فلا لقول اللّه تعالى: {فَاسْتَمِعُوا لَه وأَنْصِتُوا} وروي نحو ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما.
7 - يكره لمن في الخلاء لقضاء حاجته أن يشمّت عاطساً سمع عطسته. بذلك قال فقهاء المذاهب الأربعة. كما كرهوا له إن عطس في خلائه أن يحمد اللّه بلسانه، وأجازوا له ذلك في نفسه دون أن يحرّك به لسانه. وعن المهاجر بن قنفذ رضي الله عنه قال: «أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلّمت عليه، فلم يردّ حتّى توضّأ، ثمّ اعتذر إليّ وقال: إنّي كرهت أن أذكر اللّه تعالى إلا على طهر أو قال: على طهارة»
8 - إن كانت المرأة شابّة يخشى الافتنان بها كره لها أن تشمّت الرّجل إذا عطس، كما يكره لها أن تردّ على مشمّت لها لو عطست هي. بخلاف لو كانت عجوزاً ولا تميل إليها النّفوس فإنّها تشمّت وتشمّت متى حمدت اللّه، بذلك قال المالكيّة ومثلهم في ذلك الحنابلة. جاء في الآداب الشّرعيّة لابن مفلح عن ابن تميم: لا يشمّت الرّجل الشّابّة ولا تشمّته. وقال السّامريّ: يكره أن يشمّت الرّجل المرأة إذا عطست ولا يكره ذلك للعجوز. وقال ابن الجوزيّ: وقد روينا عن أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنّه كان عنده رجل من العبّاد فعطست امرأة أحمد، فقال لها العابد: يرحمك اللّه. فقال أحمد رحمه الله. عابد جاهل. وقال حرب: قلت لأحمد: الرّجل يشمّت المرأة إذا عطست؟ فقال: إن أراد أن يستنطقها ليسمع كلامها فلا، لأنّ الكلام فتنة، وإن لم يرد ذلك فلا بأس أن يشمّتهنّ. وقال أبو طالب: إنّه سأل أبا عبد اللّه: يشمّت الرّجل المرأة إذا عطست؟ قال: نعم قد شمّت أبو موسى امرأته. قلت: فإن كانت امرأة تمرّ أو جالسة فعطست أشمّتها؟ قال: نعم. وقال القاضي: ويشمّت الرّجل المرأة البرزة ويكره للشّابّة. وقال ابن عقيل: يشمّت المرأة البرزة وتشمّته ولا يشمّت الشّابّة ولا تشمّته، وقال الشّيخ عبد القادر: يجوز للرّجل تشميت المرأة البرزة والعجوز، ويكره للشّابّة، وفي هذا تفريق بين الشّابّة وغيرها. وعند الحنفيّة ذكر صاحب الذّخيرة: أنّه إذا عطس الرّجل فشمّتته المرأة، فإن عجوزاً ردّ عليها وإلا ردّ في نفسه. قال ابن عابدين: وكذا لو عطست هي كما في الخلاصة.
9 - لو عطس كافر وحمد اللّه عقيب عطاسه وسمعه مسلم كان عليه أن يشمّته بقوله: هداك اللّه أو عافاك اللّه، فقد أخرج أبو داود من حديث أبي موسى الأشعريّ قال: «كانت اليهود يتعاطسون عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول يرحمكم اللّه، فكان يقول: يهديكم اللّه ويصلح بالكم». وفي قوله: يهديكم اللّه ويصلح بالكم. تعريض لهم بالإسلام: أي اهتدوا وآمنوا يصلح اللّه بالكم. فلهم تشميت مخصوص، وهو الدّعاء لهم بالهداية وإصلاح البال. بخلاف تشميت المسلمين، فإنّهم أهل للدّعاء بالرّحمة بخلاف الكفّار. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «اجتمع اليهود والمسلمون فعطس النّبيّ صلى الله عليه وسلم فشمّته الفريقان جميعاً، فقال للمسلمين يغفر اللّه لكم ويرحمنا وإيّاكم. وقال لليهود: يهديكم اللّه ويصلح بالكم»
10 - من كان في الصّلاة وسمع عاطسا حمد اللّه عقب عطاسه فشمّته بطلت صلاته، لأنّ تشميته له بقوله: يرحمك اللّه يجري في مخاطبات النّاس، فكان من كلامهم، فقد روي عن معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال «: بينا أنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الصّلاة إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك اللّه، فحدّقني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أُمّاه، ما لكم تنظرون إليّ؟ فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم، فلمّا انصرف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دعاني بأبي وأمّي هو، ما رأيتُ معلّماً أحسن تعليماً منه، واللّه ما ضربني صلى الله عليه وسلم ولا كهرني ثمّ قال: إنّ صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميّين، إنّما هي التّسبيح والتّكبير وقراءة القرآن». هذا قول الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والمشهور عند الشّافعيّة، وإن كان تعبير الحنفيّة بالفساد وتعبير غيرهم بالبطلان، إلّا أنّ البطلان والفساد في ذلك بمعنى. فإن عطس هو في صلاته فحمد اللّه وشمّت نفسه في نفسه دون أن يحرّك بذلك لسانه بأن قال: يرحمك اللّه يا نفسي لا تفسد صلاته، لأنّه لمّا لم يكن خطابا لغيره لم يعتبر من كلام النّاس كما إذا قال: يرحمني اللّه. قال به الحنفيّة والحنابلة المالكيّة.
11 - من تكرّر عطاسه فزاد على الثّلاث فإنّه لا يشمّت فيما زاد عنها، إذ هو بما زاد عنها مزكوم. فعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: «شمّت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رجلاً عطس مرّتين بقوله: يرحمك اللّه ثمّ قال عنه في الثّالثة: هذا رجل مزكوم». وذكر ابن دقيق العيد عن بعض الشّافعيّة أنّه قال: يكرّر التّشميت إذا تكرّر العطاس، إلا أن يعرف أنّه مزكوم فيدعو له بالشّفاء. وعند هذا سقط الأمر بالتّشميت عند العلم بالزّكام، لأنّ التّعليل به يقتضي أن لا يشمّت من علم أنّ به زكاماً أصلاً، لكونه مرضاً، وليس عطاساً محموداً ناشئاً عن خفّة البدن وانفتاح المسامّ وعدم الغاية في الشّبع .
1 - للتّشمير في اللّغة معان: منها: الرّفع يقال: شمّر الإزار والثّوب تشميراً: إذا رفعه، ويقال: شمّر عن ساقه، وشمّر في أمره: أي خفّ فيه وأسرع، وشمّر الشّيء فتشمّر: قلّصه فتقلّص، وتشمّر أي: تهيّأ. وفي الاصطلاح لا يخرج عن معنى رفع الثّوب.
أ - السّدل: 2 - من معاني السّدل في اللّغة: إرخاء الثّوب. يقال: سدلت الثّوب سدلاً: إذا أرخيته وأرسلته من غير ضمّ جانبيه. وسدل الثّوب يسدله ويسدله سدلاً، وأسدله: أرخاه وأرسله. وعن عليّ رضي الله عنه:" أنّه خرج فرأى قوما يصلّون قد سدلوا ثيابهم، فقال: كأنّهم اليهود خرجوا من فهورهم " واصطلاحا: أن يجعل الشّخص ثوبه على رأسه، أو على كتفيه، ويرسل أطرافه من جوانبه من غير أن يضمّها، أو يردّ أحد طرفيه على الكتف الأخرى. وهو في الصّلاة مكروه بالاتّفاق. لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن السّدل في الصّلاة..». ب - الإسبال: 3 - الإسبال في اللّغة: الإرخاء والإطالة. يقال: أسبل إزاره: إذا أرخاه. وأسبل فلان ثيابه: إذا طوّلها وأرسلها إلى الأرض، وفي الحديث: «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة لا يكلّمهم اللّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم. قال: قلت: ومن هم؟ خابوا وخسروا. فأعادها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاث مرّات: المسبل، والمنّان، والمنفّق سلعته بالحلف الكاذب» قال ابن الأعرابيّ وغيره: المسبل: الّذي يطوّل ثوبه ويرسله إلى الأرض إذا مشى، وإنّما يفعل ذلك كبرا واختيالا. وهو في الاصطلاح لا يخرج عن هذا المعنى. وحكمه الكراهة، لما روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من جرّ ثوبه من الخيلاء لم ينظر اللّه إليه» وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من اللّه جلّ ذكره في حلّ ولا حرام». وحديث أبي سعيد الخدريّ يرفعه «لا ينظر اللّه يوم القيامة إلى من جرّ إزاره بطراً». وللتّفصيل ر: (صلاة - عورة - إسبال). 4 - التّشمير في الصّلاة مكروه اتّفاقاً، لما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «نهى عن كفّ الثّياب والشّعر». إلا أنّ المالكيّة قالوا بكراهته فيها إذا كان فعله لأجلها. وأمّا فعله خارجها، أو فيها لا لأجلها، فلا كراهة فيه. ومثل ذلك عندهم تشمير الذّيل عن السّاق: فإن فعله لأجل شغل، فحضرت الصّلاة، فصلّى وهو كذلك فلا كراهة. وظاهر المدوّنة أنّه سواء عاد لشغله، أم لا. وحملها الشّبيبيّ على ما إذا عاد لشغله، وصوّبه ابن ناجي. وللتّفصيل ر: (صلاة، عورة، لباس).
1 - التّشهّد في اللّغة: مصدر تشهّد، أي: تكلّم بالشّهادتين. ويطلق في اصطلاح الفقهاء على قول كلمة التّوحيد، وعلى التّشهّد في الصّلاة، وهي قراءة: التّحيّات للّه.. إلى آخره في الصّلاة. وصرّح ابن عابدين نقلا عن الحلية: أنّ التّشهّد اسم لمجموع الكلمات المرويّة عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره. سمّي به لاشتماله على الشّهادتين. من باب تسمية الشّيء باسم جزئه.
2 - ذهب الحنفيّة في الأصحّ، والمالكيّة في قول، وهو المذهب عند الحنابلة إلى: أنّ التّشهّد واجب في القعدة الّتي لا يعقبها السّلام، لأنّه يجب بتركه سجود السّهو. ويرى الحنفيّة في قول، والمالكيّة في المذهب، والشّافعيّة، والحنابلة في رواية: سنّيّة التّشهّد في هذه القعدة، لأنّه يسقط بالسّهو فأشبه السّنن. وأمّا التّشهّد في القعدة الأخيرة في الصّلاة فواجب عند الحنفيّة، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابيّ: «إذا رفعت رأسك من آخر سجدة، وقعدت قدر التّشهّد، فقد تَمَّتْ صلاتُك» علّق التّمام بالقعدة دون التّشهّد، فالفرض عند الحنفيّة في هذه القعدة هو الجلوس فقط، أمّا التّشهّد فواجب، يجبر بسجود السّهو إن ترك سهوا، وتكره الصّلاة بتركه تحريما، فتجب إعادتها. والمذهب عند المالكيّة أنّه سنّة، وفي قول واجب. ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّه ركن من أركان الصّلاة، وهذا ما يسمّيه بعضهم فرضاً أو واجباً وبعضهم ركناً، تشبيها له بركن البيت الّذي لا يقوم إلا به. وفي الفرق بين الفرض والواجب عند الحنفيّة، ومعنى الوجوب عند غيرهم تفصيل يرجع فيه إلى مظانّه في كتب الفقه والأصول. وانظر أيضا: (فرض، وواجب).
3 - يرى الحنفيّة والحنابلة أنّ أفضل التّشهّد، التّشهّد الّذي علّمه النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد اللّه بن مسعود رضي الله عنهما، وهو: «التّحيّات للّه، والصّلوات والطّيّبات، السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة اللّه وبركاته، السّلام علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين، أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله». ووجه اختيارهم لهذه الرّواية ما روي: أنّ حمّاداً أخذ بيد أبي حنيفة وعلّمه التّشهّد، وقال أخذ إبراهيم النّخعيّ بيديّ وعلّمني، وأخذ علقمة بيد إبراهيم وعلّمه، وأخذ عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه بيد علقمة وعلّمه، «وأخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بيد عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه وعلّمه التّشهّد فقال: قل: التّحيّات للّه...» إلى آخره. ويؤيّده ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «علّمني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم التّشهّد - كفّي بين كفّيه - كما يعلّمني سورة من القرآن، التّحيّات للّه...». لأنّ فيه زيادة واو العطف، وإنّه يوجب تعدّد الثّناء، لأنّ المعطوف غير المعطوف عليه، وبه يقول: الثّوريّ، وإسحاق، وأبو ثور. ويرى المالكيّة أنّ أفضل التّشهّد تشهّد عمر بن الخطّاب رضي الله عنه وهو: التّحيّات للّه، الزّاكيات للّه، الطّيّبات الصّلوات للّه، السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة اللّه وبركاته، السّلام علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين، أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله. وهذا لأنّ عمر رضي الله عنه قاله على المنبر، فلم ينكروه، فجرى مجرى الخبر المتواتر، وكان أيضاً إجماعاً. وأمّا الشّافعيّة فأفضل التّشهّد عندهم ما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعلّمنا التّشهّد، كما يعلّمنا السّورة من القرآن، فيقول: قولوا: التّحيّات المباركات، الصّلوات الطّيّبات للّه، السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة اللّه وبركاته، السّلام علينا وعلى عباد اللّه الصّالحين، أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأشهد أنّ محمّدا رسول اللّه». أخرجه مسلم والتّرمذيّ، إلا أنّه في رواية مسلم «وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله». والخلاف بين الأئمّة هنا خلاف في الأولويّة، فبأيّ تشهّد تشهّد ممّا صحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم جاز. ومن النّاس من اختار تشهّد أبي موسى الأشعريّ، وهو أن يقول: التّحيّات للّه، الطّيّبات، والصّلوات للّه... والباقي كتشهّد ابن مسعود وذكر ابن عابدين أنّ المصلّي يقصد بألفاظ التّشهّد معانيها، مرادة له على وجه الإنشاء، كأنّه يحيّي اللّه تعالى ويسلّم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى نفسه والأولياء، ولا يقصد الإخبار والحكاية عمّا وقع في المعراج منه صلى الله عليه وسلم ومن ربّه سبحانه وتعالى ومن الملائكة.
4 - اختلفت أقوال الفقهاء في هذه المسألة على النّحو الآتي: ذهب الحنفيّة إلى أنّه يكره تحريما أن يزيد في التّشهّد حرفا، أو يبتدئ بحرف قبل حرف. قال أبو حنيفة: ولو نقص من تشهّده أو زاد فيه. كان مكروها، لأنّ أذكار الصّلاة محصورة، فلا يزاد عليها. ثمّ أضاف ابن عابدين قائلا: والكراهة عند الإطلاق للتّحريم. ويكره كذلك عند المالكيّة الزّيادة على التّشهّد، واختلفوا في ترك بعض التّشهّد، فالظّاهر من كلام بعض شيوخهم عدم حصول السّنّة ببعض التّشهّد، خلافا لابن ناجي في كفاية بعضه، قياسا على السّورة. وأمّا الشّافعيّة فقد فصّلوا الكلام، وقالوا: إنّ لفظ المباركات والصّلوات، والطّيّبات والزّاكيات سنّة ليس بشرط في التّشهّد، فلو حذف كلّها واقتصر على الباقي أجزأه من غير خلاف عندهم. وأمّا لفظ: السّلام عليك... إلخ فواجب لا يجوز حذف شيء منه، إلّا لفظ ورحمة اللّه وبركاته. وفي هذين اللّفظين ثلاثة أوجه: أصحّها عدم جواز حذفهما. والثّاني: جواز حذفهما. والثّالث: يجوز حذف وبركاته، دون رحمة اللّه ". وكذلك التّرتيب بين ألفاظها مستحبّ عندهم على الصّحيح من المذهب، فلو قدّم بعضه على بعض جاز، وفي وجه لا يجوز كألفاظ الفاتحة. والحنابلة يرون أنّه إذا أسقط لفظة هي ساقطة في بضع التّشهّدات المرويّة صحّ تشهّده في الأصحّ. وفي رواية أخرى: لو ترك واوا أو حرفا أعاد الصّلاة، لقول الأسود: فكنّا نتحفّظه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كما نتحفّظ حروف القرآن.
5 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، وهو قول الطّحاويّ والكرخيّ من الحنفيّة إلى: أنّ الجلوس في التّشهّد الأوّل سنّة. والأصحّ عند الحنفيّة - وهو وجه عند الحنابلة - أنّه واجب. وأمّا في التّشهّد الثّاني فالجلوس بقدر التّشهّد ركن عند الأربعة، وهو ما عبّر عنه الحنفيّة بالفرضيّة، وغيرهم تارة بالوجوب وتارة بالفرضيّة. وأمّا هيئة الجلوس في التّشهّد، فتفصيله في مصطلح: (جلوس).
6 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز التّشهّد بغير العربيّة للعاجز، واختلفوا فيه للقادر عليها. والتّفصيل في مصطلح: (ترجمة).
7 - السّنّة في التّشهّد الإسرار، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر به، إذ لو جهر به لنقل كما نقلت القراءة، وقال عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه « من السّنّة إخفاء التّشهّد». قال صاحب المغني: ولا نعلم في هذا خلافاً.
8 - لا خلاف بين الفقهاء في مشروعيّة سجدة السّهو بترك التّشهّد في القعدة الأولى (قبل الأخيرة) إن كان تركه سهوا، على خلاف بينهم في الحكم. واختلفوا في تركه عمدا: فذهب الحنفيّة، والحنابلة في قول إلى: وجوب إعادة الصّلاة. ويرى المالكيّة والشّافعيّة، والحنابلة في رواية أخرى، أنّ على المصلّي أن يسجد للسّهو في هذه الحالة أيضا. وأمّا ترك التّشهّد في القعدة الأخيرة إن كان عمدا: فذهب الحنفيّة والمالكيّة في وجه، والشّافعيّة والحنابلة إلى وجوب الإعادة. وكذلك إن كان سهوا عند الشّافعيّة والحنابلة. ويرى الحنفيّة والمالكيّة أنّ عليه سجدة السّهو في هذه الحالة. وأمّا حكم الرّجوع إلى التّشهّد لمن قام إلى الثّالثة في ثنائيّة أو إلى الرّابعة في ثلاثيّة، أو إلى خامسة في رباعيّة، فقد فصّله الفقهاء في كتاب الصّلاة عند الكلام عن سجدة السّهو.
9 - يرى جمهور الفقهاء أنّ المصلّي لا يزيد على التّشهّد في القعدة الأولى بالصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وبهذا قال النّخعيّ والثّوريّ وإسحاق. وذهب الشّافعيّة في الأظهر من الأقوال إلى استحباب الصّلاة فيها، وبه قال الشّعبيّ. وأمّا إذا جلس في آخر صلاته فلا خلاف بين الفقهاء في مشروعيّة الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد التّشهّد. وأمّا صيغة الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في القعدة الأخيرة، وما روي في ذلك من الأدلّة، فقد فصّل الفقهاء الكلام عليه في موطنه من كتب الفقه. وانظر أيضا: " الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ".
1 - التّشهير في اللّغة مأخوذ من شهّره، بمعنى: أعلنه وأذاعه، وشهّر به: أذاع عنه السّوء، وشهّره تشهيرا فاشتهر. والشّهرة: وضوح الأمر. ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ.
أ - التّعزير: 2 - التّعزير: التّأديب والإهانة دون الحدّ. وهو أعمّ من التّشهير، إذ يكون بالتّشهير وبغيره. فالتّشهير نوع من أنواع التّعزير. ب - السّتر: 3 - السّتر: المنع والتّغطية. وهو ضدّ التّشهير.
3 - يختلف حكم التّشهير باعتبار من يصدر منه، وباعتبار المشهّر به. فالتّشهير قد يكون من النّاس بعضهم ببعض، على جهة العداوة أو الغيبة، أو على جهة النّصيحة والتّحذير. وقد يكون من الحاكم في الحدود أو في التّعازير. وبيان ذلك فيما يأتي:
الأصل أنّ تشهير النّاس بعضهم ببعض بذكر عيوبهم والتّنقّص منهم حرام. وقد يكون مباحاً أو واجباً. وذلك راجع إلى ما يتّصف به المشهّر به. 4 - فيكون حراماً في الأحوال الآتية: أ - إذا كان المشهّر به بريئا ممّا يشاع عنه ويقال فيه. والأصل في ذلك قوله تعالى: {إنَّ الّذينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ في الّذينَ آمَنُوا لهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ في الدّنيا والآخِرةِ واللّهُ يَعْلمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُون}. وقول النّبيّ: «أيّما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها بريء، يرى أن يشينه بها في الدّنيا، كان حقّا على اللّه تعالى أن يرميه بها في النّار. ثمّ تلا مصداقه من كتاب اللّه تعالى: {إنَّ الّذينَ يُحِبُّونَ أنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ}». وقد ذمّ اللّه سبحانه وتعالى الّذين فعلوا ذلك، وتوعّدهم بالعذاب العظيم، وذلك في الآيات الّتي نزلت في شأن السّيّدة عائشة رضي الله عنها حين رماها أهل الإفك والبهتان بما قالوه من الكذب والافتراء، وهي قوله تعالى: {إنَّ الّذينَ جَاءوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ...}. وقال ابن كثير في قوله تعالى: {وَالّذينَ يُؤْذُونَ المُؤمنينَ والمؤمنَاتِ بِغَيرِ ما اكْتَسَبُوا فقد احْتَمَلُوا بُهتَاناً وإِثماً مُبِينَاً} أي ينسبون إليهم ما هم برآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه، يحكون على المؤمنين والمؤمنات ذلك على سبيل العيب والتّنقّص منهم، وقد قال رسول اللّه فيه: «أربى الرّبا عند اللّه استحلالُ عِرض امرئ مسلم ثمّ قرأ: {وَالّذينَ يُؤْذُونَ المُؤْمنينَ وَالمُؤْمناتِ}» وقد قيل في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللّهُ به» أي من سمّع بعيوب النّاس وأذاعها أظهر اللّه عيوبه. ومن ذلك: الهجو بالشّعر. قال ابن قدامة: ما كان من الشّعر يتضمّن هجو المسلمين والقدح في أعراضهم فهو محرّم على قائله. ب - إذا كان المشهّر به يتّصف بما يقال عنه، ولكنّه لا يجاهر به، ولا يقع به ضرر على غيره. فالتّشهير به حرام أيضا، لأنّه يعتبر من الغيبة الّتي نهى اللّه سبحانه وتعالى عنها في قوله: {ولا يَغْتَبْ بَعْضُكم بَعْضَاً}. وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: اللّه ورسوله أعلم. قال: ذِكْرُكَ أخاكَ بما يَكْره. قيل: أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقولُ؟ قال: إن كان فيه ما تقولُ فقد اغْتَبْتَه، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّه». ومن ذلك: قول العالم: قال فلان كذا مريدا التّشنيع عليه. أو قول الإنسان: فعل كذا بعض النّاس، أو بعض من يدّعي العلم، أو بعض من ينسب إلى الصّلاح والزّهد، أو نحو ذلك إذا كان المخاطب يفهمه بعينه، ونحو ذلك. ومن المقرّر شرعاً: أنّ السّتر على المسلم واجب لمن ليس معروفاً بالأذى والفساد. فقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَتَرَ مُسْلماً سَتَرَه اللّه عزّ وجلّ يومَ القيامة» قال في شرح مسلم: وهذا السّتر في غير المشتهرين. وقال ابن العربيّ: إذا رأيت إنساناً على معصية فعظه فيما بينك وبينه، ولا تفضحه. ج - ويحرم كذلك تشهير الإنسان بنفسه، إذ المسلم مطالب بالسّتر على نفسه. ففي الصّحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «كلُّ أمّتي مُعَافى إلا المجاهرين، وإنّ من الإجهار أن يعمل العبد باللّيل عملاً، ثمّ يصبح وقد ستره عليه اللّه، فيقول: يا فلان، عملتُ البارحة كذا وكذا. وقد بات يستره اللّه عزّ وجلّ ويصبح يكشف ستر اللّه عزّ وجلّ عنه» والسّتر واجب على المسلم في خاصّة نفسه إذا أتى فاحشة، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر اللّه». 5 - ويكون التّشهير جائزاً لمن يجاهر بالمعصية في الأحوال الآتية: أ - بالنّسبة لمن يجاهر بالمعصية، فيجوز ذكر من يتجاهر بفسقه، لأنّ المجاهر بالفسق لا يستنكف أن يذكر به، ولا يعتبر هذا غيبة في حقّه، لأنّ من ألقى جلباب الحياء لا غيبة له. قال القرافيّ: المعلن بالفسوق - كقول امرئ القيس:" فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع " فإنّه يفتخر بالزّنا في شعره - فلا يضرّ أن يحكى ذلك عنه، لأنّه لا يتألّم إذا سمعه، بل قد يسرّ بتلك المخازي، وكثير من اللّصوص تفتخر بالسّرقة والاقتدار على التّسوّر على الدّور العظام والحصون الكبار، فذكر مثل هذا عن هذه الطّوائف لا يحرم. وفي الإكمال في شرح حديث مسلم: «مَنْ سَترَ مسلماً ستره اللّه» قال: وهذا السّتر في غير المشتهرين. وقال الخلال: أخبرني حرب: سمعت أحمد يقول: إذا كان الرّجل معلناً بفسقه فليست له غيبة. وذكر ابن عبد البرّ في كتاب بهجة المجالس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ثلاثةٌ لا غِيبة فيهم: الفاسقُ المعلن بفسقه، وشارب الخمر، والسّلطان الجائر». 6 - ب - إذا كان التّشهير على سبيل نصيحة المسلمين وتحذيرهم، وذلك كجرح الرّواة والشّهود والأمناء على الصّدقات والأوقاف والأيتام، والتّشهير بالمصنّفين والمتصدّين لإفتاء أو إقراء مع عدم أهليّة، أو مع نحو فسق أو بدعة يدعون إليها، وأصحاب الحديث وحملة العلم المقلّدين، هؤلاء يجب تجريحهم وكشف أحوالهم السّيّئة لمن عرفها ممّن يقلّد في ذلك ويلتفت إلى قوله، لئلا يغترّ بهم ويقلّد في دين اللّه من لا يجوز تقليده، وليس السّتر هنا بمرغّب فيه ولا مباح. على هذا اجتمع رأي الأمّة قديماً وحديثاً. يقول القرافيّ: أرباب البدع والتّصانيف المضلّة ينبغي أن يشهّر النّاس فسادها وعيبها. وأنّهم على غير الصّواب، ليحذرها النّاس الضّعفاء فلا يقعوا فيها، وينفر عن تلك المفاسد ما أمكن، بشرط أن لا يتعدّى فيها الصّدق، ولا يفتري على أهلها من الفسوق والفواحش ما لم يفعلوه، بل يقتصر على ما فيهم من المنفّرات خاصّة، فلا يقال في المبتدع: إنّه يشرب الخمر، ولا أنّه يزني، ولا غير ذلك ممّا ليس فيه. ويجوز وضع الكتب في جرح المجروحين من رواة الحديث والأخبار بذلك لطلبة العلم الحاملين لذلك لمن ينتفع به وينقله، بشرط أن تكون النّيّة خالصة للّه تعالى في نصيحة المسلمين في ضبط الشّريعة. أمّا إذا كان لأجل عداوة أو تَفَكُّهٍ بالأعراض وجرياً مع الهوى فذلك حرام، وإن حصلت به المصلحة عند الرّواة. ويقول الخطيب الشّربينيّ: لو قال العالم لجماعة من النّاس: لا تسمعوا الحديث من فلان فإنّه يخلط أو لا تستفتوا منه فإنّه لا يحسن الفتوى فهذا نصح للنّاس. نصّ عليه في الأمّ. قال: وليس هذا بغيبة إن كان يقوله لمن يخاف أن يتبعه ويخطئ باتّباعه. ومثله في الفواكه الدّواني. ويقول النّوويّ: يجوز تحذير المسلمين من الشّرّ ونصيحتهم، وذلك من وجوه منها: جرح المجروحين من الرّواة للحديث والشّهود، وذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة. ومنها: إذا استشارك إنسان في مصاهرته أو مشاركته أو إيداعه أو الإيداع عنده أو معاملته بغير ذلك،وجب عليك أن تذكر له ما تعلمه منه على جهة النّصيحة. وفي مغني المحتاج: ينكر على من تصدّى للتّدريس والفتوى والوعظ وليس هو من أهله، ويشهّر أمره لئلّا يغترّ به.
تشهير الحاكم لبعض النّاس يكون في الحدود أو في التّعزير. أ - بالنّسبة للحدود: 7 - قال الفقهاء: ينبغي أن تقام الحدود في ملأ من النّاس، لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهما طَائِفَةٌ من المُؤْمنين}، قال الكاسانيّ: والنّصّ وإن ورد في حدّ الزّنى، لكنّ النّصّ الوارد فيه يكون واردا في سائر الحدود دلالة، لأنّ المقصود من الحدود كلّها واحد، وهو زجر العامّة، وذلك لا يحصل إلّا وأن تكون الإقامة على رأس العامّة، لأنّ الحضور ينزجرون بأنفسهم بالمعاينة، والغائبين ينزجرون بإخبار الحضور، فيحصل الزّجر للكلّ. وقال عبد الملك بن حبيب: ينبغي أن يكون إقامة الحدّ علانية وغير سرّ، ليتناهى النّاس عمّا حرّم اللّه عليهم. وقال مطرّف: ومن أمر النّاس عندنا الشّهر لأهل الفسق رجالا ونساء، والإعلام بجلدهم في الحدود وما يلزمهم من العقوبة وكشف وجه المرأة. وسئل الإمام مالك عن المجلود في الخمر والفِرية: أترى أن يطاف بهم وبشُرّاب الخمر؟ قال: إذا كان فاسقاً مدمناً فأرى أن يطاف بهم، ونعلن أمرهم ويفضحون. وفي حدّ السّرقة قال الفقهاء: يندب أن يعلّق العضو المقطوع في عنق المحدود، لأنّ في ذلك ردعا للنّاس، وقد روى فضالة بن عبيد رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أُتيَ بسارق قطعت يده، ثمّ أمر بها فعلّقت في عنقه» وفعل ذلك عليّ رضي الله عنه. وذكر في الدّرّ المختار حديث: «ما بالُ العاملِ نبعثه، فيأتي فيقول: هذا لك وهذا لي. فهلا جلس في بيت أبيه وأمّه فينظرُ أيهدى له أم لا؟ والّذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رُغاء، أو بقرة لها خُوار، أو شاة تَيْعَرُ». قال ابن عابدين: ويؤخذ من هذا الحديث - كما قال ابن المنير - أنّ الحكّام أخذوا بالتّجريس بالسّارق ونحوه من هذا الحديث. كذلك قال الفقهاء في قاطع الطّريق إذا صلب: يصلب ثلاثة أيّام ليشتهر الحال ويتمّ النّكال. قال ابن قدامة: إنّما شرع الصّلب ردعا لغيره ليشتهر أمره. ب - بالنّسبة للتّعزير: 8 - التّشهير نوع من أنواع التّعزير، أي أنّه عقوبة تعزيريّة. ومعلوم أنّ التّعزير يرجع في تحديد جنسه وقدره إلى نظر الحاكم، فقد يكون بالضّرب أو الحبس أو التّوبيخ أو التّشهير أو غير ذلك، حسب اختلاف مراتب النّاس، واختلاف المعاصي، واختلاف الأعصار والأمصار. وعلى ذلك فالتّعزير بالتّشهير جائز إذا علم الحاكم أنّ المصلحة فيه، وهذا الحكم هو بالنّسبة لكلّ معصية لا حدّ فيها ولا كفّارة في الجملة. يقول الماورديّ: للأمير إذا رأى من الصّلاح في ردع السّفلة: أن يشهّرهم وينادي عليهم بجرائمهم، ساغ له ذلك. ويقول: يجوز في نكال التّعزير أن يجرّد من ثيابه، إلا قدر ما يستر عورته، ويشهّر في النّاس، وينادى عليه بذنبه إذا تكرّر منه ولم يتب. وفي التّبصرة لابن فرحون: إن رأى القاضي المصلحة في قمع السّفلة بإشهارهم بجرائمهم فعل. ويقول ابن فرحون أيضا: إذا حكم القاضي بالجور، وثبت ذلك عليه بالبيّنة، فإنّه يعاقب العقوبة الموجعة، وعزل ويشهّر ويفضح. وفي كشّاف القناع: القوّادة - الّتي تفسد النّساء والرّجال - أقلّ ما يجب فيها الضّرب البليغ، وينبغي شهرة ذلك بحيث يستفيض في الرّجال والنّساء لتجتنب. غير أنّه يلاحظ أنّ الفقهاء دائما يذكرون التّشهير في تعزير شاهد الزّور ممّا يوحي بأنّ التّشهير واجب بالنّسبة لشاهد الزّور، وذلك لاعتبار هذه المعصية من الكبائر. قال الإمام أبو حنيفة في شاهد الزّور في المشهور: يطاف به ويشهّر، ولا يضرب استنادا إلى ما فعله القاضي شريح، وزاد الصّاحبان ضربه وحبسه. ويذكر ابن قدامة حديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «ألا أُنَبِّئكُم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللّه قال: الإشراكُ باللّه وعقوق الوالدين، وكان متّكئاً فجلس، فقال: ألا وقولُ الزّور وشهادة الزّور. فما زال يكرّرها حتّى قلنا: ليته سكت». ثمّ يقول ابن قدامة: فمتى ثبت عند الحاكم عن رجل أنّه شهد بزور عمدا عزّره وشهّره في قول أكثر أهل العلم. روي ذلك عن عمر رضي الله عنه، وبه يقول شريح والقاسم بن محمّد وسالم بن عبد اللّه والأوزاعيّ وابن أبي ليلى ومالك والشّافعيّ وعبد الملك بن يعلى قاضي البصرة. وفي كشّاف القناع: إذا عزّر من وجب عليه التّعزير وجب على الحاكم أن يشهّره لمصلحة كشاهد زور ليجتنب. وجاء في التّبصرة: التّعزير لا يختصّ بالسّوط واليد والحبس، وإنّما ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام. قال أبو بكر الطّرطوشيّ في أخبار الخلفاء المتقدّمين: إنّهم كانوا يعاملون الرّجل على قدره وقدر جنايته، فمنهم من يضرب، ومنهم من يحبس، ومنهم من يقام واقفاً على قدميه في المحافل، ومنهم من تنزع عمامته. قال القرافيّ: إنّ التّعزير يختلف باختلاف الأعصار والأمصار، فربّ تعزير في بلد يكون إكراماً في بلد آخر، كقطع الطّيلسان ليس تعزيراً في الشّام فإنّه إكرام، وكشف الرّأس بالأندلس ليس هواناً وبمصر والعراق هوان. ثمّ قال صاحب التّبصرة: والتّعزير لا يختصّ بفعل معيّن ولا قول معيّن، فقد «عزّر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالهجر»، وذلك في حقّ الثّلاثة الّذين ذكرهم اللّه تعالى في القرآن الكريم، فهجروا خمسين يوماً لا يكلّمهم أحد. «وعزّر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالنّفي، فأمر بإخراج المخنّثين من المدينة ونفيهم». وفي مغني المحتاج: يجتهد الإمام في جنس التّعزير وقدره، لأنّه غير مقدّر شرعاً، فيجتهد في سلوك الأصحّ، فله أن يشهّر في النّاس من أدّى اجتهاده إليه. ويجوز له حلق رأسه، ويجوز أن يصلب حيّاً، وهو ربطه في مكان عال لما لا يزيد عن ثلاثة أيّام ثمّ يرسل، ولا يمنع في تلك المدّة عن الطّعام والشّراب والصّلاة. وهذه النّصوص تدلّ على أنّه يجوز أن يكتفى بالتّشهير كعقوبة تعزيريّة إذا رأى الإمام ذلك، ويجوز أن يضمّ إليه عقوبة أخرى كالضّرب والحبس. وقد كان أبو بكر البحتريّ - وهو أمير المدينة - إذا أتي برجل، قد أخذ معه الجرّة من المسكر، أمر به فصبّ على رأسه عند بابه، كيما يعرف بذلك ويشهّر به.
|