الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)
.الْمَسْأَلَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ الشُّرُوطِ [تَرْتِيبُ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ]: فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ سُنَّةٌ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ عَنِ الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَدَاوُدُ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ فَرِيضَةٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي تَرْتِيبِ الْمَفْرُوضِ مَعَ الْمَفْرُوضِ، وَأَمَّا تَرْتِيبُ الْأَفْعَالِ الْمَفْرُوضَةِ مَعَ الْأَفْعَالِ الْمَسْنُونَةِ، فَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ مُسْتَحَبٌّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ سُنَّةٌ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا الِاشْتِرَاكُ الَّذِي فِي وَاوِ الْعَطْفِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُعْطَفُ بِهَا الْأَشْيَاءُ الْمُرَتَّبَةُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَقَدْ يُعْطَفُ بِهَا غَيْرُ الْمُرَتَّبَةِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنِ اسْتِقْرَاءِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلِذَلِكَ انْقَسَمَ النَّحْوِيُّونَ فِيهَا قِسْمَيْنِ، فَقَالَ نُحَاةُ الْبَصْرَةِ: لَيْسَ تَقْتَضِي نَسَقًا وَلَا تَرْتِيبًا، وَإِنَّمَا تَقْتَضِي الْجَمْعَ فَقَطْ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: بَلْ تَقْتَضِي النَّسَقَ وَالتَّرْتِيبَ، فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْوَاوَ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ قَالَ بِإِيجَابِ التَّرْتِيبِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ لَمْ يَقُلْ بِإِيجَابِهِ. وَالسَّبَبُ الثَّانِي اخْتِلَافُهُمْ فِي أَفْعَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَلْ هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ عَلَى النَّدْبِ؟ فَمَنْ حَمَلَهَا عَلَى الْوُجُوبِ قَالَ بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ قَطُّ إِلَّا مُرَتَّبًا، وَمَنْ حَمَلَهَا عَلَى النَّدْبِ قَالَ إِنَّ التَّرْتِيبَ سُنَّةٌ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمَسْنُونِ وَالْمَفْرُوضِ مِنَ الْأَفْعَالِ قَالَ: إِنَّ التَّرْتِيبَ الْوَاجِبَ إِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْأَفْعَالِ الْوَاجِبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ قَالَ: إِنَّ الشُّرُوطَ الْوَاجِبَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي لَيْسَتْ وَاجِبَةً. .الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ الشُّرُوطِ [الْمُوَالَاةُ فِي أَفْعَالِ الْوُضُوءِ]: وَقَدْ يَدْخُلُ الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا فِي الِاخْتِلَافِ فِي حَمْلِ الْأَفْعَالِ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ عَلَى النَّدْبِ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ مَالِكٌ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ لِأَنَّ النَّاسِيَ الْأَصْلُ فِيهِ فِي الشَّرْعِ أَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ إِلَى أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ»، وَكَذَلِكَ الْعُذْرُ يَظْهَرُ مِنْ أَمْرِ الشَّرْعِ أَنَّ لَهُ تَأْثِيرًا فِي التَّخْفِيفِ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ مِنْ فُرُوضِ الْوُضُوءِ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ» وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ، وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النِّيَّةُ، وَبَعْضُهُمْ حَمَلَهُ عَلَى النَّدْبِ فِيمَا أَحْسَبُ. فَهَذِهِ مَشْهُورَاتُ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَجْرِي مِنْ هَذَا الْبَابِ مَجْرَى الْأُصُولِ، وَهِيَ كَمَا قُلْنَا مُتَعَلِّقَةٌ إِمَّا بِصِفَاتِ أَفْعَالِ هَذِهِ الطَّهَارَةِ، وَإِمَّا بِتَحْدِيدِ مَوَاضِعِهَا، وَإِمَّا بِتَعْرِيفِ شُرُوطِهَا، وَأَرْكَانِهَا، وَسَائِرِ مَا ذُكِرَ، وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ مَسْحُ الْخُفَّيْنِ إِذْ كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ. .الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ: .الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: [حُكْمُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ]: وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَوَازُهُ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: مَنْعُ جَوَازِهِ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ أَشَدُّهَا. وَالْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَعَنْ مَالِكٍ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مَا يُظَنُّ مِنْ مُعَارَضَةِ آيَةِ الْوُضُوءِ الْوَارِدِ فِيهَا الْأَمْرُ بِغَسْلِ الْأَرْجُلِ لِلْآثَارِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْمَسْحِ مَعَ تَأَخُّرِ آيَةِ الْوُضُوءِ، وَهَذَا الْخِلَافُ كَانَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ آيَةَ الْوُضُوءِ نَاسِخَةٌ لِتِلْكَ الْآثَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِهِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَنَّهُ كَانَ يُعْجِبُهُمْ حَدِيثُ جَرِيرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَوَى أَنَّهُ رَأَى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَقِيلَ لَهُ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، فَقَالَ: مَا أَسْلَمْتُ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ. وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِهِ: لَيْسَ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْآثَارِ تَعَارُضٌ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْغَسْلِ إِنَّمَا هُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَنْ لَا خُفَّ لَهُ، وَالرُّخْصَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلَابِسِ الْخُفِّ، وَقِيلَ: إِنَّ تَأْوِيلَ قِرَاءَةِ الْأَرْجُلِ بِالْخَفْضِ هُوَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ فَلِأَنَّ أَكْثَرَ الْآثَارِ الصِّحَاحِ الْوَارِدَةِ فِي مَسْحِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا كَانَتْ فِي السَّفَرِ، مَعَ أَنَّ السَّفَرَ مُشْعِرٌ بِالرُّخْصَةِ وَالتَّخْفِيفِ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ هُوَ مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ، فَإِنَّ نَزْعَهُ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى الْمُسَافِرِ. .الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَيْفِيَّةُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ: وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ تَعَارُضُ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَتَشْبِيهُ الْمَسْحِ بِالْغَسْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَثَرَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ، أَحَدُهُمَا حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَفِيهِ: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى الْخُفِّ وَبَاطِنِهِ» وَالْآخَرُ حَدِيثُ عَلِيٍّ: «لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ»، فَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ حَمَلَ حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَحَدِيثَ عَلِيٍّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ حَسَنَةٌ. وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ أَخَذَ إِمَّا بِحَدِيثِ عَلِيٍّ، وَإِمَّا بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ، فَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ الْمُغِيرَةِ عَلَى حَدِيثِ عَلِيٍّ رَجَّحَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِيَاسِ (أَعْنِي قِيَاسَ الْمَسْحِ عَلَى الْغَسْلِ) وَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ عَلِيٍّ رَجَّحَهُ مِنْ قِبَلِ مُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ أَوْ مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ، وَالْأَسْعَدُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ مَالِكٌ. وَأَمَّا مَنْ أَجَازَ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَسْحِ الْبَاطِنِ فَقَطْ فَلَا أَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً، لِأَنَّهُ لَا هَذَا الْأَثَرَ اتَّبَعَ، وَلَا هَذَا الْقِيَاسَ اسْتَعْمَلَ، (أَعْنِي قِيَاسَ الْمَسْحِ عَلَى الْغَسْلِ). .الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: [كَيْفِيَّةُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ]: وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي صِحَّةِ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ. وَاخْتِلَافُهُمْ أَيْضًا فِي: هَلْ يُقَاسُ عَلَى الْخُفِّ غَيْرُهُ أَمْ هِيَ عِبَادَةٌ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا وَلَا يُتَعَدَّى بِهَا مَحَلُّهَا؟ فَمَنْ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ الْحَدِيثُ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَمَنْ لَمْ يَرَ الْقِيَاسَ عَلَى الْخُفِّ قَصَرَ الْمَسْحَ عَلَيْهِ، وَمَنْ صَحَّ عِنْدَهُ الْأَثَرُ، أَوْ جَوَّزَ الْقِيَاسَ عَلَى الْخُفِّ أَجَازَ الْمَسْحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، وَهَذَا الْأَثَرُ لَمْ يُخَرِّجْهُ الشَّيْخَانِ (أَعْنِي الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا) وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَلِتَرَدُّدِ الْجَوْرَبَيْنِ الْمُجَلَّدَيْنِ بَيْنَ الْخُفِّ وَالْجَوْرَبِ غَيْرِ الْمُجَلَّدِ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمَسْحِ عَلَيْهِمَا رِوَايَتَانِ: إِحْدَاهُمَا بِالْمَنْعِ وَالْأُخْرَى بِالْجَوَازِ. .الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: [صِفَةُ الْخُفِّ]: وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ: اخْتِلَافُهُمْ فِي انْتِقَالِ الْفَرْضِ مِنَ الْغَسْلِ إِلَى الْمَسْحِ هَلْ هُوَ لِمَوْضِعِ السِّتْرِ (أَعْنِي سِتْرَ خُفِّ الْقَدَمَيْنِ) أَمْ هُوَ لِمَوْضِعِ الْمَشَقَّةِ فِي نَوْعِ الْخُفَّيْنِ؟ فَمَنْ رَآهُ لِمَوْضِعِ السِّتْرِ لَمْ يُجِزِ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ الْمُنْخَرِقِ، لِأَنَّهُ إِذَا انْكَشَفَ مِنَ الْقَدَمِ شَيْءٌ انْتَقَلَ فَرْضُهُمَا مِنَ الْمَسْحِ إِلَى الْغَسْلِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ الْمَشَقَّةُ لَمْ يَعْتَبِرِ الْخَرْقَ مَا دَامَ يُسَمَّى خُفًّا. وَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْخَرْقِ الْكَثِيرِ وَالْيَسِيرِ فَاسْتِحْسَانٌ وَرَفْعٌ لِلْحَرَجِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: كَانَتْ خِفَافُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَا تَسْلَمُ مِنَ الْخُرُوقِ كَخِفَافِ النَّاسِ، فَلَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ حَظْرٌ لَوَرَدَ وَنُقِلَ عَنْهُمْ. قُلْتُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ مَسْكُوتٌ عَنْهَا، فَلَوْ كَانَ فِيهَا حُكْمٌ مَعَ عُمُومِ الِابْتِلَاءِ بِهِ لَبَيَّنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}. .الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: [مُدَّةُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ]: قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَوْمًا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَيَوْمَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَثَلَاثَةً؟ قَالَ نَعَمْ حَتَّى بَلَغَ سَبْعًا، ثُمَّ قَالَ: امْسَحْ مَا بَدَا لَكَ» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالطَّحَاوِيُّ. وَالثَّالِثُ حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: «كُنَّا فِي سَفَرٍ فَأُمِرْنَا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ مِنْ بَوْلٍ أَوْ نَوْمٍ أَوْ غَائِطٍ». قُلْتُ: أَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فَصَحِيحٌ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ عِمَارَةَ فَقَالَ فِيهِ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهُ حَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ وَلَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ قَائِمٌ، وَلِذَلِكَ لَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَارَضَ بِهِ حَدِيثُ عَلِيٍّ. وَأَمَّا حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُخْرِجْهُ الْبُخَارِيُّ وَلَا مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّحَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ، وَهُوَ بِظَاهِرِهِ مُعَارِضٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ لِحَدِيثِ أُبَيٍّ كَحَدِيثِ عَلِيٍّ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ حَدِيثَ صَفْوَانَ وَحَدِيثَ عَلِيٍّ خَرَجَا مَخْرَجَ السُّؤَالِ عَنِ التَّوْقِيتِ، وَحَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ عِمَارَةَ نَصٌّ فِي تَرْكِ التَّوْقِيتِ، لَكِنَّ حَدِيثَ أُبَيٍّ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ، فَعَلَى هَذَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِحَدِيثَيْ عَلِيٍّ وَصَفْوَانَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ إِلَّا أَنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ فِيهِمَا يُعَارِضُهُ الْقِيَاسُ، وَهُوَ كَوْنُ التَّوْقِيتِ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي نَقْضِ الطَّهَارَةِ، لِأَنَّ النَّوَاقِضَ هِيَ الْأَحْدَاثُ. .الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ [شُرُوطُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ]: فَمَنْ لَمْ يَرَ أَنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ وَرَأَى أَنَّ الطَّهَارَةَ تَصِحُّ لِكُلِّ عُضْوٍ قَبْلَ أَنْ تَكْمُلَ الطَّهَارَةُ لِجَمِيعِ الْأَعْضَاءِ قَالَ بِجَوَازِ ذَلِكَ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ، وَأَنَّهُ لَا تَصِحُّ طَهَارَةُ الْعُضْوِ إِلَّا بَعْدَ طَهَارَةِ جَمِيعِ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ، وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَبِالْقَوْلِ الثَّانِي قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ التَّرْتِيبِ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَرَى أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تُوجَدُ لِلْعُضْوِ إِلَّا بَعْدَ كَمَالِ جَمِيعِ الطَّهَارَةِ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَهُمَا طَاهِرَتَانِ» فَأَخْبَرَ عَنِ الطَّهَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْمُغِيرَةِ: «إِذَا أَدْخَلْتَ رِجْلَيْكَ فِي الْخُفِّ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ فَامْسَحْ عَلَيْهِمَا» وَعَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ يَتَفَرَّعُ الْجَوَابُ فِيمَنْ لَبِسَ أَحَدَ خُفَّيْهِ بَعْدَ أَنْ غَسَلَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ وَقَبْلَ أَنْ يَغْسِلَ الْأُخْرَى، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ، لِأَنَّهُ لَابِسٌ لِلْخُفِّ قَبْلَ تَمَامِ الطَّهَارَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْمُزِّيُّ وَالطَّبَرِيُّ وَدَاوُدُ: يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، مِنْهُمْ مُطَرِّفٌ وَغَيْرُهُ، وَكُلُّهُمْ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ نَزَعَ الْخُفَّ الْأَوَّلَ بَعْدَ غَسْلِ الرِّجْلِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ لَبِسَهَا جَازَ لَهُ الْمَسْحُ، وَهَلْ مِنْ شَرْطِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى خُفٍّ آخَرَ عَنْ مَالِكٍ فِيهِ قَوْلَانِ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلْ كَمَا تَنْتَقِلُ طَهَارَةُ الْقَدَمِ إِلَى الْخُفِّ إِذَا سَتَرَهُ الْخُفُّ، كَذَلِكَ تَنْتَقِلُ طَهَارَةُ الْخُفِّ الْأَسْفَلِ الْوَاجِبَةُ إِلَى الْخُفِّ الْأَعْلَى؟ فَمَنْ شَبَّهَ النَّقْلَةَ الثَّانِيَةَ بِالْأُولَى أَجَازَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ الْأَعْلَى، وَمَنْ لَمْ يُشَبِّهْهَا بِهَا وَظَهَرَ لَهُ الْفَرْقُ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ. .الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ [نَوَاقِضُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ]: فَقَالَ قَوْمٌ: إِنْ نَزَعَهُ وَغَسَلَ قَدَمَيْهِ فَطَهَارَتُهُ بَاقِيَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَغْسِلْهُمَا وَصَلَّى أَعَادَ الصَّلَاةَ بَعْدَ غَسْلِ قَدَمَيْهِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا رَأَى أَنَّهُ إِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ اسْتَأْنَفَ الْوُضُوءَ عَلَى رَأْيِهِ فِي وُجُوبِ الْمُوَالَاةِ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي تَقَدَّمَ. وَقَالَ قَوْمٌ: طَهَارَتُهُ بَاقِيَةٌ حَتَّى يُحْدِثَ حَدَثًا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَسْلٌ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ دَاوُدُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: إِذَا نَزَعَ خُفَّيْهِ فَقَدْ بَطَلَتْ طَهَارَتُهُ، وَبِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ مَسْكُوتٌ عَنْهَا. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ هُوَ أَصْلٌ بِذَاتِهِ فِي الطَّهَارَةِ أَوْ بَدَلٌ مِنْ غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ عِنْدَ غَيْبُوبَتِهِمَا فِي الْخُفَّيْنِ؟ فَإِنْ قُلْنَا هُوَ أَصْلٌ بِذَاتِهِ فَالطَّهَارَةُ بَاقِيَةٌ وَإِنْ نَزَعَ الْخُفَّيْنِ كَمَنْ قُطِعَتْ رِجْلَاهُ بَعْدَ غَسْلِهِمَا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ بَدَلٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِذَا نَزَعَ الْخُفَّ بَطَلَتِ الطَّهَارَةُ وَإِنْ كُنَّا نَشْتَرِطُ الْفَوْرَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنْ غَسَلَهُمَا أَجَزَأَتِ الطَّهَارَةُ إِذَا لَمْ يُشْتَرَطِ الْفَوْرُ. وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْفَوْرِ مِنْ حِينِ نَزْعِ الْخُفِّ فَضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُتَخَيَّلُ. فَهَذَا مَا رَأَيْنَا أَنَّ نُثْبِتَهُ فِي هَذَا الْبَابِ. .الْبَابُ الثَّالِثُ فِي الْمِيَاهِ: وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي سِتِّ مَسَائِلَ تَجْرِي مَجْرَى الْقَوَاعِدِ وَالْأُصُولِ لِهَذَا الْبَابِ. .الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: [الْمَاءُ الْمُتَنَجِّسُ حكمه فى الوضوء]: وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ هُوَ تَعَارُضُ ظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ» الْحَدِيثَ، يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِهِ أَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ يُنَجِّسُ قَلِيلَ الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ» فَإِنَّهُ يُوهِمُ بِظَاهِرِهِ أَيْضًا أَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ يُنَجِّسُ قَلِيلَ الْمَاءِ. وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ اغْتِسَالِ الْجُنُبِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ الثَّابِتُ: «أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَبَالَ فِيهَا، فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُ، فَلَمَّا فَرَغَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَنُوبِ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَى بَوْلِهِ» فَظَاهِرُهُ أَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ لَا يُفْسِدُ قَلِيلَ الْمَاءِ، إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ قَدْ طُهِّرَ مِنْ ذَلِكَ الذَّنُوبِ. وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ كَذَلِكَ أَيْضًا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُ إِنَّهُ يُستَقَى مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ، وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا لُحُومُ الْكِلَابِ وَالْمَحَائِضُ وَعَذِرَةُ النَّاسِ، فَقَالَ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ الْمَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» فَرَامَ الْعُلَمَاءُ الْجَمْعَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَاخْتَلَفُوا فِي طَرِيقِ الْجَمْعِ فَاخْتَلَفَتْ لِذَلِكَ مَذَاهِبُهُمْ، فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ بِظَاهِرِ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: إِنَّ حَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ غَيْرُ مَعْقُولَيِ الْمَعْنَى، وَامْتِثَالُ مَا تَضَمَّنَاهُ عِبَادَةٌ، لَا لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ يَنْجُسُ. حَتَّى إِنَّ الظَّاهِرِيَّةَ أَفْرَطَتْ فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ: لَوْ صَبَّ الْبَوْلَ إِنْسَانٌ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ مِنْ قَدَحٍ لَمَا كُرِهَ الْغُسْلُ بِهِ وَالْوُضُوءُ، فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، وَمَنْ كَرِهَ الْمَاءَ الْقَلِيلَ تَحُلُّهُ النَّجَاسَةُ الْيَسِيرَةُ جَمَعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، فَإِنَّهُ حَمَلَ حَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ على الْكَرَاهِيَةِ، وَحَمَلَ حَدِيثَ الْأَعْرَابِيِّ وَحَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى ظَاهِرِهِمَا (أَعْنِي عَلَى الْإِجْزَاءِ). وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، فَجَمَعَا بَيْنَ حَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ بِأَنْ حَمَلَا حَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى الْمَاءِ الْقَلِيلِ، وَحَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ عَلَى الْمَاءِ الْكَثِيرِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ فِي ذَلِكَ الَّذِي يَجْمَعُ الْأَحَادِيثَ هُوَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَاءِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ سَرَيَانَ النَّجَاسَةِ فِي جَمِيعِ الْمَاءِ بِسَرَيَانِ الْحَرَكَةِ، فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ بِحَيْثُ يُظَنُّ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا يُمْكِنُ فِيهَا أَنْ تَسْرِيَ فِي جَمِيعِهِ فَالْمَاءُ طَاهِرٌ. لَكِنْ مَنْ ذَهَبَ هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ، فَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الْمَشْهُورُ مُعَارِضٌ لَهُ وَلَا بُدَّ، فَلِذَلِكَ لَجَأَتِ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنْ فَرَّقَتْ بَيْنَ وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَوُرُودِهَا عَلَى الْمَاءِ، فَقَالُوا: إِنْ وَرَدَ عَلَيْهَا الْمَاءُ كَمَا فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ لَمْ يَنْجُسْ، وَإِنْ وَرَدَتِ النَّجَاسَةُ عَلَى الْمَاءِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَجُسَ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: هَذَا تَحَكُّمٌ. وَلَهُ إِذَا تُؤُمِّلَ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا صَارُوا إِلَى الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ الْيَسِيرَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ إِذَا كَانَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ بِحَيْثُ يُتَوَهَّمُ أَنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَسْرِي فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَيْنُهَا عَنِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَا يَبْعُدُ أَنَّ قَدْرًا مَا مِنَ الْمَاءِ لَوْ حَلَّهُ قَدْرٌ مَا مِنَ النَّجَاسَةِ لَسَرَتْ فِيهِ وَلَكَانَ نَجِسًا، فَإِذَا وَرَدَ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَى النَّجَاسَةِ جُزْءًا فَجُزْءًا فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ تَفْنَى عَيْنُ تِلْكَ النَّجَاسَةِ، وَتَذْهَبُ قَبْلَ فَنَاءِ ذَلِكَ الْمَاءِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ آخِرُ جُزْءٍ وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ قَدْ طَهَّرَ الْمَحَلَّ، لِأَنَّ نِسْبَتَهُ إِلَى مَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِمَّا بَقِيَ مِنَ النَّجَاسَةِ نِسْبَةُ الْمَاءِ الْكَثِيرِ إِلَى الْقَلِيلِ مِنَ النَّجَاسَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْعِلْمُ يَقَعُ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِذَهَابِ عَيْنِ النَّجَاسَةِ (أَعْنِي: فِي وُقُوعِ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ الطَّاهِرِ عَلَى آخِرِ جُزْءٍ يَبْقَى مِنْ عَيْنِ النَّجَاسَةِ) وَلِهَذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِقْدَارَ مَا يُتَوَضَّأُ بِهِ يُطَهِّرُ قَطْرَةَ الْبَوْلِ الْوَاقِعَةَ فِي الثَّوْبِ أَوِ الْبَدَنِ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا وَقَعَتِ الْقَطْرَةُ مِنَ الْبَوْلِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْمَاءِ. وَأَوْلَى الْمَذَاهِبِ عِنْدِي وَأَحْسَنُهَا طَرِيقَةً فِي الْجَمْعِ، هُوَ أَنْ يُحْمَلَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ وَأَنَسٍ عَلَى الْجَوَازِ، لِأَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يُبْقِي مَفْهُومَ الْأَحَادِيثِ عَلَى ظَاهِرِهَا (أَعْنِي حَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا تَأْثِيرُ النَّجَاسَةِ فِي الْمَاءِ). وَحَدُّ الْكَرَاهِيَةِ عِنْدِي هُوَ مَا تَعَافُهُ النَّفْسُ وَتَرَى أَنَّهُ مَاءٌ خَبِيثٌ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا يَعَافُ الْإِنْسَانُ شُرْبَهُ يَجِبُ أَنْ يَجْتَنِبَ اسْتِعْمَالَهُ فِي الْقُرْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَعَافَ وُرُودَهُ عَلَى ظَاهِرِ بَدَنِهِ كَمَا يَعَافُ وُرُودَهُ عَلَى دَاخِلِهِ، وَأَمَّا مَنِ احْتَجَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَلِيلُ النَّجَاسَةِ يُنَجِّسُ قَلِيلَ الْمَاءِ لَمَا كَانَ الْمَاءُ يُطَهِّرُ أَحَدًا أَبَدًا، إِذْ كَانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمُنْفَصِلُ مِنَ الْمَاءِ عَنِ الشَّيْءِ النَّجِسِ الْمَقْصُودِ تَطْهِيرُهُ أَبَدًا نَجِسًا - فَقَوْلٌ لَا مَعْنًى لَهُ، لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ نِسْبَةَ آخِرِ جُزْءٍ يَرِدُ مِنَ الْمَاءِ عَلَى آخِرِ جُزْءٍ يَبْقَى مِنَ النَّجَاسَةِ فِي الْمَحَلِّ نِسْبَةُ الْمَاءِ الْكَثِيرِ إِلَى النَّجَاسَةِ الْقَلِيلَةِ، وَإِنْ كَانَ يُعْجَبُ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَإِنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ يُحِيلُ النَّجَاسَةَ وَيَقْلِبُ عَيْنَهَا إِلَى الطَّهَارَةِ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ لَا تُفْسِدُهُ النَّجَاسَةُ الْقَلِيلَةُ، فَإِذَا تَابَعَ الْغَاسِلُ صَبَّ الْمَاءِ عَلَى الْمَكَانِ النَّجِسِ أَوِ الْعُضْوِ النَّجِسِ، فَيُحِيلُ الْمَاءُ ضَرُورَةً عَيْنَ النَّجَاسَةِ بِكَثْرَتِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَاءِ الْكَثِيرِ أَنْ يَرِدَ عَلَى النَّجَاسَةِ الْوَاحِدَةِ بِعَيْنِهَا دُفْعَةً، أَوْ يَرِدَ عَلَيْهَا جُزْءًا بَعْدَ جُزْءٍ، فَإِذًا هَؤُلَاءِ إِنَّمَا احْتَجُّوا بِمَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَشْعُرُوا بِذَلِكَ، وَالْمَوْضِعَانِ فِي غَايَةِ التَّبَايُنِ. فَهَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ سَبَبِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهَا، وَتَرْجِيحِ أَقْوَالِهِمْ فِيهَا، وَلَوَدِدْنَا لَوْ أَنْ سَلَكْنَا فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ هَذَا الْمَسْلَكَ، لَكِنْ رَأَيْنَا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي طُولًا، وَرُبَّمَا عَاقَ الزَّمَانُ عَنْهُ، وَأَنَّ الْأَحْوَطَ هُوَ أَنْ نَؤُمَّ الْغَرَضَ الْأَوَّلَ الَّذِي قَصَدْنَاهُ، فَإِنْ يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ وَكَانَ لَنَا انْفِسَاحٌ مِنَ الْعُمْرِ فَسَيَتِمُّ هَذَا الْغَرَضُ. .الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [الْمَاءُ الْمُتَغَيِّرُ]: وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ خَفَاءُ تَنَاوُلِ اسْمِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ لِلْمَاءِ الَّذِي خَالَطَهُ أَمْثَالُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، (أَعْنِي: هَلْ يَتَنَاوَلُهُ أَوْ لَا يَتَنَاوَلُهُ؟ ) فَمَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَإِنَّمَا يُضَافُ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي خَالَطَهُ فَيُقَالُ: مَاءُ كَذَا لَا مَاءٌ مُطْلَقٌ - لَمْ يُجِزِ الْوُضُوءَ بِهِ، إِذْ كَانَ الْوُضُوءُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ أَجَازَ بِهِ الْوُضُوءَ، وَلِظُهُورِ عَدَمِ تَنَاوُلِ اسْمِ الْمَاءِ لِلْمَاءِ الْمَطْبُوخِ مَعَ شَيْءٍ طَاهِرٍ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ، وَكَذَلِكَ فِي مِيَاهِ النَّبَاتِ الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْهُ إِلَّا مَا فِي كِتَابِ ابْنِ شَعْبَانَ مِنْ إِجَازَةِ طُهْرِ الْجُمُعَةِ بِمَاءِ الْوَرْدِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الِاخْتِلَاطَ يَخْتَلِفُ بِالْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ، فَقَدْ يَبْلُغُ مِنَ الْكَثْرَةِ إِلَى حَدٍّ لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ مِثْلَ مَا يُقَالُ مَاءُ الْغُسْلِ، وَقَدْ لَا يَبْلُغُ إِلَى ذَلِكَ الْحَدِّ، وَبِخَاصَّةٍ مَتَى تَغَيَّرَتْ مِنْهُ الرِّيحُ فَقَطْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْتَبِرِ الرِّيحَ قَوْمٌ مِمَّنْ مَنَعُوا الْمَاءَ الْمُضَافَ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأُمِّ عَطِيَّةَ عِنْدَ أَمْرِهِ إِيَّاهَا بِغَسْلِ ابْنَتِهِ: «اغْسِلْنَهَا بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الْأَخِيرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ» فَهَذَا مَاءٌ مُخْتَلِطٌ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ الِاخْتِلَاطِ بِحَيْثُ يُسْلَبُ عَنْهُ اسْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ اعْتِبَارُ الْكَثْرَةِ فِي الْمُخَالَطَةِ وَالْقِلَّةِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، فَأَجَازَهُ مَعَ الْقِلَّةِ وَإِنْ ظَهَرَتِ الْأَوْصَافُ، وَلَمْ يُجِزْهُ مَعَ الْكَثْرَةِ. .الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: [الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ]: وَشَذَّ أَبُو يُوسُفَ فَقَالَ إِنَّهُ نَجِسٌ. وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي هَذَا أَيْضًا مَا يُظَنُّ مِنْ أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ غَلَا فَظَنَّ أَنَّ اسْمَ الْغُسَالَةِ أَحَقُّ بِهِ مِنِ اسْمِ الْمَاءِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَصْحَابُهُ يَقْتَتِلُونَ عَلَى فَضْلِ وُضُوئِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مِنَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْإِنَاءِ الَّذِي بَقِيَ فِيهِ الْفَضْلُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مَاءٌ مُطْلَقٌ، لِأَنَّهُ فِي الْأَغْلَبِ لَيْسَ يَنْتَهِي إِلَى أَنْ يَتَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ بِدَنَسِ الْأَعْضَاءِ الَّتِي تُغْسَلُ بِهِ، فَإِنِ انْتَهَى إِلَى ذَلِكَ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَاءِ الَّذِي تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ بِشَيْءٍ طَاهِرٍ، وَإِنْ كَانَ هَذَا تَعَافُهُ النُّفُوسُ أَكْثَرَ، وَهَذَا لَحْظُ مَنْ كَرِهَهُ، وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ نَجِسٌ فَلَا دَلِيلَ مَعَهُ. .الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: [حُكْمُ الْأَسْآرِ]: وَأَمَّا سُؤْرُ الْمُشْرِكِ فَقِيلَ: إِنَّهُ نَجِسٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَكْرُوهٌ إِذَا كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ جَمِيعُ أَسْآرِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا تَتَوَقَّى النَّجَاسَةَ غَالِبًا مِثْلَ الدَّجَاجِ الْمُخَلَّاةِ، وَالْإِبِلِ الْجَلَّالَةِ، وَالْكِلَابِ الْمُخَلَّاةِ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ هُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ. وَالثَّانِي مُعَارَضَتُهُ لِظَاهِرِ الْآثَارِ. وَالثَّالِثُ مُعَارَضَةُ الْآثَارِ بَعْضِهَا بَعْضًا فِي ذَلِكَ. أَمَّا الْقِيَاسُ: فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَوْتُ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ هُوَ سَبَبَ نَجَاسَةِ عَيْنِ الْحَيَوَانِ بِالشَّرْعِ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْحَيَاةُ هِيَ سَبَبَ طَهَارَةِ عَيْنِ الْحَيَوَانِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَكُلُّ حَيٍّ طَاهِرُ الْعَيْنِ، وَكُلُّ طَاهِرِ الْعَيْنِ فَسُؤْرُهُ طَاهِرٌ. وَأَمَّا ظَاهِرُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ عَارَضَ هَذَا الْقِيَاسَ فِي الْخِنْزِيرِ وَالْمُشْرِكِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي الْخِنْزِيرِ: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ}. وَمَا هُوَ رِجْسٌ فِي عَيْنِهِ فَهُوَ نَجِسٌ لِعَيْنِهِ، وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى قَوْمٌ مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ الْخِنْزِيرَ فَقَطْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَثْنِهِ حَمَلَ قَوْلَه: {رِجْسٌ} عَلَى جِهَةِ الذَّمِّ لَهُ. وَأَمَّا الْمُشْرِكُ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} فَمَنْ حَمَلَ هَذَا أَيْضًا عَلَى ظَاهِرِهِ اسْتَثْنَى مِنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الذَّمِّ لَهُمْ طَرَّدَ قِيَاسَهُ. وَأَمَّا الْآثَارُ فَإِنَّهَا عَارَضَتْ هَذَا الْقِيَاسَ فِي الْكَلْبِ وَالْهِرِّ وَالسِّبَاعِ. أَمَّا الْكَلْبُ: فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ وَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» وَفِي بَعْضِ طُرُقِه: «أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» وَفِي بَعْضِهَا: «وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ». وَأَمَّا الْهِرُّ سؤر الهر: فَمَا رَوَاهُ قُرَّةُ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَهُورُ الْإِنَاءِ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْهِرُّ أَنْ يُغْسَلَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ» وَقُرَّةُ ثِقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا السِّبَاعُ سؤر السباع فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَاءِ وَمَا يَنُوبُهُ مِنَ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا». وَأَمَّا تَعَارُضُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَمِنْهَا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ تَرِدُهَا الْكِلَابُ وَالسِّبَاعُ، فَقَالَ: «لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ مَا غَبَرَ شَرَابًا وَطَهُورًا» وَنَحْوَ هَذَا حَدِيثُ عُمَرَ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ لَا تُخْبِرْنَا فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ، وَتَرِدُ عَلَيْنَا» وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ أَيْضًا الَّذِي خَرَّجَهُ مَالِكٌ: أَنَّ كَبْشَةَ سَكَبَتْ لَهُ وَضُوءًا فَجَاءَتْ هِرَّةٌ لِتَشْرَبَ مِنْهُ فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسٍ إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوِ الطَّوَّافَاتِ» فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآثَارِ وَوَجْهِ جَمْعِهَا مَعَ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ فِي الْأَمْرِ بِإِرَاقَةِ سُؤْرِ الْكَلْبِ وَغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْهُ، إِلَى أَنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ، وَأَنَّ الْمَاءَ الَّذِي يَلِغُ فِيهِ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَلَمْ يَرَ إِرَاقَةَ مَا عَدَا الْمَاءَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَلِغُ فِيهَا الْكَلْبُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَذَلِكَ كَمَا قُلْنَا لِمُعَارَضَةِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ لَهُ، وَلِأَنَّهُ ظَنَّ أَيْضًا أَنَّهُ إِنْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْكَلْبَ نَجِسُ الْعَيْنِ عَارَضَهُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} يُرِيدُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ لَنَجَّسَ الصَّيْدَ بِمُمَاسَّتِهِ، وَأَيَّدَ هَذَا التَّأْوِيلَ بِمَا جَاءَ فِي غَسْلِهِ مِنَ الْعَدَدِ، وَالنَّجَاسَاتُ لَيْسَ يُشْتَرَطُ فِي غَسْلِهَا الْعَدَدُ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْغَسْلَ إِنَّمَا هُوَ عِبَادَةٌ، وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى سَائِرِ تِلْكَ الْآثَارِ لِضَعْفِهَا عِنْدَهُ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَاسْتَثْنَى الْكَلْبَ مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ وَرَأَى أَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ يُوجِبُ نَجَاسَةَ سُؤْرِهِ، وَأَنَّ لُعَابَهُ هُوَ النَّجِسُ لَا عَيْنُهُ فِيمَا أَحْسَبُ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُغْسَلَ الصَّيْدُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ اسْتَثْنَى الْخِنْزِيرَ لِمَكَانِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ: فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ بِنَجَاسَةِ سُؤْرِ السِّبَاعِ وَالْهِرِّ وَالْكَلْبِ هُوَ مِنْ قِبَلِ تَحْرِيمِ لُحُومِهَا، وَأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ فَقَالَ: الْأَسْآرُ تَابِعَةٌ لِلُحُومِ الْحَيَوَانِ، وَأَمَّا بَعْضُ النَّاسِ فَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْكَلْبَ وَالْهِرَّ وَالسِّبَاعَ عَلَى ظَاهِرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا بَعْضُهُمْ فَحَكَمَ بِطَهَارَةِ سُؤْرِ الْكَلْبِ وَالْهِرِّ، فَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ السِّبَاعَ فَقَطْ. أَمَّا سُؤْرُ الْكَلْبِ فَلِلْعَدَدِ الْمُشْتَرَطِ فِي غَسْلِهِ، وَلِمُعَارَضَةِ ظَاهِرِ الْكِتَابِ لَهُ، وَلِمُعَارَضَةِ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ لَهُ، إِذْ عَلَّلَ عَدَمَ نَجَاسَةِ الْهِرَّةِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ، وَالْكَلْبُ طَوَّافٌ. وَأَمَّا الْهِرَّةُ فَمَصِيرًا إِلَى تَرْجِيحِ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ عَلَى حَدِيثِ قُرَّةَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَتَرْجِيحِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى حَدِيثِ عُمَرَ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ، لِمُعَارَضَةِ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ لَهُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا عَلَّلَ عَدَمَ النَّجَاسَةِ فِي الْهِرَّةِ بِسَبَبِ الطَّوَافِ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ مَا لَيْسَ بِطَوَّافٍ وَهِيَ السِّبَاعُ فَأَسْآرُهَا مُحَرَّمَةٌ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ هَذَا الْمَذْهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ كَمَا قُلْنَا بِنَجَاسَةِ سُؤْرِ الْكَلْبِ، وَلَمْ يَرَ الْعَدَدَ فِي غَسْلِهِ شَرْطًا فِي طَهَارَةِ الْإِنَاءِ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ، لِأَنَّهُ عَارَضَ ذَلِكَ عِنْدَهُ الْقِيَاسُ فِي غَسْلِ النَّجَاسَاتِ، (أَعْنِي: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ إِزَالَةُ الْعَيْنِ فَقَطْ) وَهَذَا عَلَى عَادَتِهِ فِي رَدِّ أَخْبَارِ الْآحَادِ لِمَكَانِ مُعَارَضَةِ الْأُصُولِ لَهَا. قَالَ الْقَاضِي: فَاسْتَعْمَلَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بَعْضًا، وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ بَعْضًا (أَعْنِي أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ مِنْهُ مَا لَمْ تُعَارِضْهُ عِنْدَهُ الْأُصُولُ، وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ مَا عَارَضَتْهُ مِنْهُ الْأُصُولُ) وَعَضَّدَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مَذْهَبُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي رَوَى الْحَدِيثَ. فَهَذِهِ هِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي حَرَّكَتِ الْفُقَهَاءَ إِلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الْكَثِيرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَادَتْهُمْ إِلَى الِافْتِرَاقِ فِيهَا، وَالْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ مَحْضَةٌ يَعْسُرُ أَنْ يُوجَدَ فِيهَا تَرْجِيحٌ، وَلَعَلَّ الْأَرْجَحَ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ طَهَارَةِ أَسْآرِ الْحَيَوَانِ الْكَلْبُ وَالْخِنْزِيرُ وَالْمُشْرِكُ لِصِحَّةِ الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي الْكَلْبِ وَلِأَنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ أَوْلَى أَنْ يُتَّبَعَ فِي الْقَوْلِ بِنَجَاسَةِ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ وَالْمُشْرِكِ مِنَ الْقِيَاسِ، وَكَذَلِكَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ (أَعْنِي: عَلَى الْقَوْلِ بِنَجَاسَةِ سُؤْرِ الْكَلْبِ) فَإِنَّ الْأَمْرَ بِإِرَاقَةِ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ مُخَيِّلٌ وَمُنَاسِبٌ فِي الشَّرْعِ لِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ (أَعْنِي: أَنَّ الْمَفْهُومَ بِالْعَادَةِ فِي الشَّرْعِ مِنَ الْأَمْرِ بِإِرَاقَةِ الشَّيْءِ وَغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْهُ هُوَ لِنَجَاسَةِ الشَّيْءِ) وَمَا اعْتَرَضُوا بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لِنَجَاسَةِ الْإِنَاءِ لَمَا اشْتُرِطَ فِيهِ الْعَدَدُ، فَغَيْرُ نَكِيرٍ أَنْ يَكُونَ الشَّرْعُ يَخُصُّ نَجَاسَةً دُونَ نَجَاسَةٍ بِحُكْمٍ دُونَ حُكْمٍ تَغْلِيظًا لَهَا. قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ ذَهَبَ جَدِّي رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْمُقَدِّمَاتِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُعَلَّلٌ مَعْقُولُ الْمَعْنَى لَيْسَ مِنْ سَبَبِ النَّجَاسَةِ. بَلْ مِنْ سَبَبِ مَا يُتَوَقَّعُ أَنْ يَكُونَ الْكَلْبُ الَّذِي وَلَغَ فِي الْإِنَاءِ كَلِبًا، فَيُخَافُ مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ. قَالَ: وَلِذَلِكَ جَاءَ هَذَا الْعَدَدُ الَّذِي هُوَ السَّبْعُ فِي غَسْلِهِ، فَإِنَّ هَذَا الْعَدَدَ قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الشَّرْعِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فِي الْعِلَاجِ وَالْمُدَاوَاةِ مِنَ الْأَمْرَاضِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَالِكِيَّةِ، فَإِنَّهُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ غَيْرُ نَجِسٍ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُعْطَى عِلَّةً فِي غَسْلِهِ مِنْ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ غَيْرُ مُعَلَّلٍ، وَهَذَا طَاهِرٌ بِنَفْسِهِ، وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِيمَا بَلَغَنِي بَعْضُ النَّاسِ بِأَنْ قَالَ: إِنَّ الْكَلْبَ الْكَلِبَ لَا يَقْرَبُ الْمَاءَ فِي حِينِ كَلَبِهِ، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ هُوَ عِنْدَ اسْتِحْكَامِ هَذِهِ الْعِلَّةِ بِالْكِلَابِ، لَا فِي مَبَادِيهَا وَفِي أَوَّلِ حُدُوثِهَا، فَلَا مَعْنًى لِاعْتِرَاضِهِمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ الْمَاءِ، وَإِنَّمَا فِيهِ ذِكْرُ الْإِنَاءِ، وَلَعَلَّ فِي سُؤْرِهِ خَاصِّيَّةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ضَارَّةً (أَعْنِي: قَبْلَ أَنْ يَسْتَحْكِمَ بِهِ الْكَلَبُ) وَلَا يُسْتَنْكَرُ وُرُودُ مِثْلِ هَذَا فِي الشَّرْعِ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ مَا وَرَدَ فِي الذُّبَابِ إِذَا وَقَعَ فِي الطَّعَامِ أَنْ يُغْمَسَ، وَتَعْلِيلُ ذَلِكَ بِأَنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ دَوَاءً. وَأَمَّا مَا قِيلَ فِي الْمَذْهَبِ مِنْ أَنَّ هَذَا الْكَلْبَ هُوَ الْكَلْبُ الْمَنْهِيُّ عَنِ اتِّخَاذِهِ أَوِ الْكَلْبُ الْحَضَرِيُّ فَضَعِيفٌ وَبَعِيدٌ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ ذَلِكَ (أَعْنِي النَّهْيَ) مِنْ بَابِ التَّحْرِيجِ فِي اتِّخَاذِهِ. |