الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَدْ بَيَّنَا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (الم) وَذَكَرْنَا أَقْوَالَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ، وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ عِنْدَنَا بِشَوَاهِدِهِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} فَإِنَّ مَعْنَاهُ: أَظَنَّ الَّذِينَ خَرَجُوا يَا مُحَمَّدُ مِنْ أَصْحَابِكَ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ أَنْ نَتْرُكَهُمْ بِغَيْرِ اخْتِبَارٍ وَلَا ابْتِلَاءِ امْتِحَانٍ، بِأَنْ قَالُوا: آمَنَّا بِكَ يَا مُحَمَّدُ فَصَدَّقْنَاكَ فِيمَا جِئْتَنَا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، كَلَّا لِنَخْتَبِرَهُمْ، لِيَتَبَيَّنَ الصَّادِقُ مِنْهُمْ مَنَ الْكَاذِبِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} قَالَ: يُبْتَلُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مَثَلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} أَيْ: لَا يُبْتَلُونَ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا مُؤَمِّلٌ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} قَالَ: لَا يُبْتَلُونَ. فَإِنَّ الْأُوْلَى مَنْصُوبَةٌ بِحَسِبَ، وَالثَّانِيَةَ مَنْصُوبَةٌ فِي قَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ بِتَعَلُّقِ يُتْرَكُوا بِهَا وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} لِأَنَّ يَقُولُوا آمِنًا؛ فَلَمَّا حُذِفَتِ اللَّامُ الْخَافِضَةُ مَنْ لِأَنَّ نُصِبَتْ عَلَى مَا ذَكَرْتُ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ فَهِيَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِإِضْمَارِ الْخَافِضِ، وَلَا تَكَادُ الْعَرَبُ تَقُولُ تَرَكْتُ فُلَانًا أَنْ يَذْهَبَ، فَتُدْخِلُ أَنْ فِي الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا تَقُولُ تَرَكْتُهُ يَذْهَبُ، وَإِنَّمَا أُدْخِلَتْ أَنْ هَاهُنَا لِاكْتِفَاءِ الْكَلَامِ بِقَوْلِهِ: {أَنْ يُتْرَكُوا} إِذْ كَانَ مَعْنَاهُ: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا، فَكَانَ قَوْلُهُ: {أَنْ يُتْرَكُوا} مُكْتَفِيَةً بِوُقُوعِهَا عَلَى النَّاسِ دُونَ أَخْبَارِهِمْ. وَإِنْ جُعِلَتْ "أَنْ" فِي قَوْلِهِ: (أَنْ يَقُولُوا) مَنْصُوبَةً بِنِيَّةِ تَكْرِيرِ أَحَسِبَ، كَانَ جَائِزًا، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَحَسِبُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدِ اخْتَبَرْنَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، مِمَّنْ أَرْسَلَنَا إِلَيْهِمْ رُسُلَنَا، فَقَالُوا مِثْلَ مَا قَالَتْهُ أُمَّتُكَ يَا مُحَمَّدُ بِأَعْدَائِهِمْ، وَتَمْكِينِنَا إِيَّاهُمْ مِنْ أَذَاهُمْ، كَمُوسَى إِذَ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَابْتَلَيْنَاهُمْ بِفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ، وَكَعِيسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَابْتَلَيْنَا مَنِ اتَّبَعَهُ بِمَنْ تَوَلَّى عَنْهُ، فَكَذَلِكَ ابْتَلَيْنَا أَتْبَاعَكَ بِمُخَالِفِيكَ مِنْ أَعْدَائِكَ {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} مِنْهُمْ فِي قِيْلِهِمْ آمَنَّا {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} مِنْهُمْ فِي قِيْلِهِمْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ عَالِمٌ بِذَلِكَ مِنْهُمْ قَبْلَ الِاخْتِبَارِ، وَفِي حَالِ الِاخْتِبَارِ، وَبَعْدَ الِاخْتِبَارِ، وَلَكِنْ مَعْنى ذَلِكَ: وَلَيُظْهِرَنَّ اللَّهُ صِدْقَ الصَّادِقِ مِنْهُمْ فِي قِيلِهِ: آمَنَّا بِاللَّهِ مِنْ كَذِبِ الْكَاذِبُ مِنْهُمْ بِابْتِلَائِهِ إِيَّاهُ بِعَدُوِّهِ، لِيَعْلَمَ صِدْقَهُ مِنْ كَذِبِهِ أَوْلِيَاؤُهُ، عَلَى نَحْوِ مَا قَدْ بَيَّنَاهُ فِيمَا مَضَى قَبْلُ. وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَذَّبَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَفُتِنَ بَعْضُهُمْ، وَصَبْرَ بَعْضُهُمْ عَلَى أَذَاهُمْ حَتَّى أَتَاهُمُ اللَّهُ بِفَرَجٍ مِنْ عِنْدِهِ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ يَقُولُ: نَزَلَتْ، يَعْنِي هَذِهِ الْآيَةَ {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، إِذْ كَانَ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ قَوْمٍ كَانُوا قَدْ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ بِمَكَّةَ، وَتَخَلَّفُوا عَنِ الْهِجْرَةِ، وَالْفِتْنَةِ الَّتِي فُتِنَ بِهَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَى مَقَالَةِ هَؤُلَاءِ هِيَ الْهِجْرَةُ الَّتِي امْتُحِنُوا بِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ مَطَرٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ، يَعْنِي {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} الْآيَتَيْنِ فِي أُنَاسٍ كَانُوا بِمَكَّةَ أَقَرُّوا بِالْإِسْلَامِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ: إِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ إِقْرَارًا بِالْإِسْلَامِ حَتَّى تُهَاجِرُوا، فَخَرَجُوا عَامِدِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَاتَّبَعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَرَدُّوهُمْ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِمْ: إِنَّهُ قَدْ نَزَلَتْ فِيكُمْ آيَةُ كَذَا وَكَذَا، فَقَالُوا: نَخْرُجُ، فَإِنِ اتَّبَعَنَا أَحَدٌ قَاتَلْنَاهُ، قَالَ: فَخَرَجُوا فَاتَّبَعَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَقَاتَلُوهُمْ ثَمَّ، فَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَجَا، فَأَنْزَلَهُ اللَّهُ فِيهِمْ {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {وَلَقَدْ فَتَنَّا} قَالَ: ابْتَلَيْنَا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مَثَلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا مُؤَمِّلٌ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} قَالَ: ابْتَلَيْنَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مَثَلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ:
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ فَيَعْبُدُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَهُمُ الْمَعْنِيُّونَ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} يَقُولُ: أَنْ يُعْجِزُونَا فَيَفُوتُونَا بِأَنْفُسِهِمْ فَلَا نَقْدِرُ عَلَيْهِمْ فَنَنْتَقِمُ مِنْهُمْ لِشِرْكِهِمْ بِاللَّهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} أَيِ: الشِّرْكَ أَنْ يَسْبِقُونَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {أَنْ يَسْبِقُونَا} أَنْ يُعْجِزُونَا. وَقَوْلُهُ: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: سَاءَ حُكْمُهُمُ الَّذِي يَحْكُمُونَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ يَسْبِقُونَنَا بِأَنْفُسِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ يَوْمَ لِقَائِهِ، وَيَطْمَعُ فِي ثَوَابِهِ، فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ الَّذِي أَجَّلَهُ لِبَعْثِ خَلْقِهِ لِلْجَزَاءِ وَالْعِقَابِ لِآتٍ قَرِيبًا، (وَهُوَ السَّمِيعُ) يَقُولُ: وَاللَّهُ الَّذِي يَرْجُو هَذَا الرَّاجِي بِلِقَائِهِ ثَوَابَهُ، السَّمِيعُ لِقَوْلِهِ: آمَنَّا بِاللَّهِ، الْعَلِيمُ بِصِدْقِ قِيلِهِ: إِنَّهُ قَدْ آمَنَ مِنْ كَذِبِهِ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} يَقُولُ: وَمَنْ يُجَاهِدُ عَدُوَّهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ عَلَى جِهَادِهِ، وَالْهَرَبِ مِنَ الْعِقَابِ، فَلَيْسَ بِاللَّهِ إِلَى فِعْلِهِ ذَلِكَ حَاجَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، لَهُ الْمُلْكُ وَالْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَصَحَّ إِيمَانُهُمْ عِنْدَ ابْتِلَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَفِتْنَتِهِ لَهُمْ، وَلَمْ يَرْتَدُّوا عَنْ أَدْيَانِهِمْ بِأَذَى الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمُ} الَّتِي سَلَفَتْ مِنْهُمْ فِي شِرْكِهِمْ {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} يَقُولُ: وَلَنُثِيبَنَّهُمْ عَلَى صَالِحَاتِ أَعْمَالِهِمْ فِي إِسْلَامِهِمْ، أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي حَالِ شِرْكِهِمْ مَعَ تَكْفِيرِنَا سَيِّئَاتِ أَعْمَالِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ} فِيمَا أَنْزَلْنَا إِلَى رَسُولِنَا (بِوَالِدَيْهِ) أَنْ يَفْعَلَ بِهِمَا (حُسْنًا). وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ نَصْبِ الْحُسْنِ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: نُصِبَ ذَلِكَ عَلَى نِيَّةِ تَكْرِيرِ وَصَّيْنَا. وَكَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ، وَوَصَّيْنَاهُ حُسْنًا. وَقَالَ: قَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ وَصَّيْتُهُ خَيْرًا: أَيْ بِخَيْرٍ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ أَنْ يَفْعَلَ حُسْنًا، وَلَكِنَّ الْعَرَبَ تُسْقِطُ مِنَ الْكَلَامِ بَعْضَهُ إِذَا كَانَ فِيمَا بَقِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى مَا سَقَطَ، وَتُعْمِلُ مَا بَقِيَ فِيمَا كَانَ يَعْمَلُ فِيهِ الْمَحْذُوفُ، فَنُصِبَ قَوْلُهُ: (حُسْنًا) وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى مَا وَصَفْتُ وَصَّيْنَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَابَ عَنِ السَّاقِطِ، وَأَنْشَدَ فِي ذَلِكَ: عَجِـبْتُ مِـنْ دَهْمَاءَ إِذْ تَشْـكُونَا *** وَمِـنْ أَبـِي دَهْمَاءَ إِذْ يُوصِينـَا خَيْرًا بِهَا كَأَنَّنَا جَافُونَا وَقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: يُوصِينَا خَيْرًا: أَنْ نَفْعَلَ بِهَا خَيْرًا، فَاكْتَفَى بِيُوصِيْنَا مِنْهُ، وَقَالَ: ذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِهِ: {فَطَفِقَ مَسْحًا} أَيْ يَمْسَحُ مَسْحًا. وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} يَقُولُ: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ}، فَقُلْنَا لَهُ: إِنْ جَاهَدَاكَ وَالِدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أَنَّهُ لَيْسَ لِي شَرِيكٌ، فَلَا تُطِعْهُمَا فَتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِمَا، وَلَكِنْ خَالِفْهُمَا فِي ذَلِكَ {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِلَيَّ مَعَادُكُمْ وَمَصِيرُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يَقُولُ: فَأَخْبَرَكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ صَالِحِ الْأَعْمَالِ وَسَيِّئَاتِهَا، ثُمَّ أُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا الْمُحْسِنَ بِالْإِحْسَانِ، وَالْمُسِيءَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ. وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشَرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} إِلَى قَوْلِهِ: {فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قَالَ: نَزَلَتْ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ لِمَّا هَاجَرَ، قَالَتْ أُمُّهُ: وَاللَّهِ لَا يُظِلُّنِي بَيْتٌ حَتَّى يَرْجِعَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِمَا، وَلَا يُطِيعَهُمَا فِي الشِّرْكِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) مِنَ الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ أَنْ يُؤَدُّوا فَرَائِضَ اللَّهِ، وَيَجْتَنِبُوا مَحَارِمَهُ {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} فِي مَدْخَلِ الصَّالِحِينَ، وَذَلِكَ الْجَنَّةُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: أَقْرَرْنَا بِاللَّهِ فَوَحَّدْنَاهُ، فَإِذَا آذَاهُ الْمُشْرِكُونَ فِي إِقْرَارِهِ بِاللَّهِ، جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ إِيَّاهُ فِي الدُّنْيَا، كَعَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ، فَارْتَدَّ عَنْ إِيمَانِهِ بِاللَّهِ رَاجِعًا عَلَى الْكُفْرِ بِهِ {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ} يَا مُحَمَّدُ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِهِ (لَيَقُولُنَّ) هَؤُلَاءِ الْمُرْتَدُّونَ عَنْ إِيمَانِهِمْ، الْجَاعِلُونَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ (إِنَّا كُنَّا) أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ (مَعَكُمْ) نَنْصُرُكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، كَذِبًا وَإِفْكًا، يَقُولُ اللَّهُ: {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ} أَيُّهَا الْقَوْمُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ {بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} جَمِيعِ خَلْقِهِ، الْقَائِلَيْنِ آمَنَا بِاللَّهِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ ارْتَدَّ عَنْ دِينِ اللَّهِ فَكَيْفَ يُخَادِعُ مَنْ كَانَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَلَا يَسْتَتِرُ عَنْهُ سِرٌّ وَلَا عَلَانِيَةٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} قَالَ: فِتْنَتُهُ أَنْ يَرْتَدَّ عَنْ دِينِ اللَّهِ إِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} قَالَ: أُنَاسٌ يُؤْمِنُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَإِذَا أَصَابَهُمْ بَلَاءٌ مِنَ اللَّهِ أَوْ مُصِيبَةٌ فِي أَنْفُسِهِمُ افْتَتَنُوا، فَجَعَلُوا ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا كَعَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ: قَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِمَكَّةَ كَانُوا يُؤْمِنُونَ، فَإِذَا أُوذُوا وَأَصَابَهُمْ بَلَاءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، رَجَعُوا إِلَى الْكُفْرِ مَخَافَةَ مَنْ يُؤْذِيهِمْ، وَجَعَلُوا أَذَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا كَعَذَابِ اللَّهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} قَالَ: هُوَ الْمُنَافِقُ إِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ رَجَعَ عَنِ الدِّينِ وَكَفَرَ، وَجَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ. وَذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ كَانُوا بِمَكَّةَ، فَخَرَجُوا مُهَاجِرِينَ، فَأُدْرِكُوا وَأُخِذُوا فَأَعْطَوْا الْمُشْرِكِينَ لَمَّا نَالَهُمْ أَذَاهُمْ مَا أَرَادُوا مِنْهُمْ. ذِكْرُ الْخَبَرِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا، وَكَانُوا يَسْتَخْفُونَ بِإِسْلَامِهِمْ، فَأَخْرَجَهُمُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَهُمْ، فَأُصِيبَ بَعْضُهُمْ وَقُتِلَ بَعْضٌ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: كَانَ أَصْحَابُنَا هَؤُلَاءِ مُسْلِمِينَ وَأُكْرِهُوا، فَاسْتَغْفِرُوا لَهُمْ، فَنَزَلَتْ {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، قَالَ: فَكَتَبَ إِلَى مَنْ بَقِيَ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ لَا عُذْرَ لَهُمْ، فَخَرَجُوا. فَلَحِقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَأَعْطَوْهُمُ الْفِتْنَةَ، فَنََزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، فَكَتَبَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ، فَخَرَجُوا وَأَيِسُوا مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، ثُمَّ نَزَلَتْ فِيهِمْ {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فَكَتَبُوا إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ مَخْرَجًا، فَخَرَجُوا، فَأَدْرَكَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَقَاتَلُوهُمْ، حَتَّى نَجَا مَنْ نَجَا، وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} قَالَ: هَذِهِ الْآيَاتُ أَنْزِلَتْ فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ رَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ إِلَى مَكَّةَ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْعَشْرُ مَدَنِيَّةٌ إِلَى هَهُنَا وَسَائِرُهَا مَكِّيٌّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، وَحِزْبَهُ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ، وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ مِنْكُمْ حَتَّى يُمَيِّزُوا كُلَّ فَرِيقٍ مِنْكُمْ مِنَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، بِإِظْهَارِ اللَّهِ ذَلِكَ مِنْكُمْ بِالْمِحَنِ وَالِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ وَبِمُسَارَعَةِ الْمُسَارِعِ مِنْكُمْ إِلَى الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَتَثَاقُلِ الْمُتَثَاقِلِ مِنْكُمْ عَنْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ مَنْ قُرَيْشٍ لِلَّذِينِ آمَنُوا بِاللَّهِ مِنْهُمْ {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا} يَقُولُ: قَالُوا: كُونُوا عَلَى مِثِلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ وَجُحُودِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْأَعْمَالِ {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} يَقُولُ: قَالُوا فَإِنَّكُمْ إِنْ اتَّبَعْتُمْ سَبِيلَنَا فِي ذَلِكَ، فَبُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ الْمَمَاتِ، وَجُوزِيتُمْ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَإِنَّا نَتَحَمَّلُ آثَامَ خَطَايَاكُمْ حِينَئِذٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} قَالَ: قَوْلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ، يَقُولُ: قَالُوا: لَا نُبْعَثُ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ، فَاتَّبِعُونَا، إِنْ كَانَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ فَهُوَ عَلَيْنَا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعَتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} هُمُ الْقَادَةُ مِنَ الْكُفَّارِ، قَالُوا لِمَنْ آمَنَ مِنَ الْأَتْبَاعِ: اتْرُكُوا دِينَ مُحَمَّدٍ وَاتَّبِعُوا دِينَنَا، وَهَذَا أَعْنِي قَوْلَهُ: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} وَإِنْ كَانَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْأَمْرِ، فَإِنَّ فِيهِ تَأْوِيلُ الْجَزَاءِ، وَمَعْنَاهُ مَا قُلْتُ: إِنْ اتَّبَعْتُمْ سَبِيلَنَا حَمَلْنَا خَطَايَاكُمْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: فَقُلْـتُ ادْعِـي وَأَدْعُ فـإنَّ أنْـدَى *** لِصَـوْتٍ أَنْ يُنـادِيَ دَاعيـانِ يُرِيدُ: ادْعِي وَلْأَدْعُ، وَمَعْنَاهُ: إِنْ دَعَوْتِ دَعَوْتُ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وَهَذَا تَكْذِيبٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُشْرِكِينَ الْقَائِلِينَ لِلَّذِينِ آمَنُوا {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَكَذَبُوا فِي قَيْلِهِمْ ذَلِكَ لَهُمْ، مَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ آثَامِ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ، إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ فِيمَا قَالُوا لَهُمْ وَوَعَدُوهُمْ، مِنْ حَمْلِ خَطَايَاهُمْ إِنْ هُمُ اتَّبَعُوهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَيَحْمِلُنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ الْقَائِلُونَ لِلَّذِينِ آمَنُوا بِهِ اتَّبَعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ أَوْزَارَ أَنْفُسِهِمْ وَآثَامِهَا، وَأَوْزَارَ مَنْ أَضَلُّوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ أَوْزَارِهِمْ، وَلِيُسْأَلُنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَكْذِبُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِوَعْدِهِمْ إِيَّاهُمُ الْأَبَاطِيلَ، وَقِيْلِهِمْ لَهُمُ: اتَّبَعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ فَيَفْتَرُونَ الْكَذِبَ بِذَلِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} أَي أَوْزَارَهُمْ {وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} يَقُولُ: أَوْزَارَ مَنْ أَضَلُّوا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ}. وَقَرَأَ قَوْلَهُ: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} قَالَ: فَهَذَا قَوْلُهُ: {وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}. وَهَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، الْقَائِلِينَ لِلَّذِينِ آمَنُوا: اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا، وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ، يَقُولُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يُحْزِنَنَّكَ يَا مُحَمَّدُ مَا تَلْقَى مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ مِنَ الْأَذَى، فَإِنِّي وَإِنْ أَمْلَيْتُ لَهُمْ فَأَطَلْتُ إِمْلَاءَهُمْ، فَإِنَّ مَصِيرَ أَمْرِهِمْ إِلَى الْبَوَارِ، وَمَصِيرَ أَمْرِكَ وَأَمْرِ أَصْحَابِكَ إِلَى الْعُلُوِّ وَالظَّفَرِ بِهِمْ، وَالنَّجَاةِ مِمَّا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ، كَفِعْلِنَا ذَلِكَ بِنُوحٍ، إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى قَوْمِهِ، فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَفِرَاقِ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ مِنْ دُعَائِهِ إِيَّاهُمْ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْإِقْبَالِ إِلَيْهِ، وَقَبُولِ مَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنَ النَّصِيحَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَّا فِرَارًا. وَذُكِرَ أَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَى قَوْمِهِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِ مِئَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةٍ. كَمَا حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، قَالَ: ثَنَا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، قَالَ: ثَنَا عَوْنُ بْنُ أَبِي شَدَّادٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِينَ وَثَلَاثِ مِئَةِ سَنَةٍ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ خَمْسِينَ وَثَلَاثَ مِئَةِ سَنَةٍ، فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَهْلَكَهُمُ الْمَاءُ الْكَثِيرُ، وَكُلُّ مَاءٍ كَثِيرٍ فَاشٍ طَامٍ فَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ طُوفَانٌ، سَيْلًا كَانَ أَوْ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ الْمَوْتُ إِذَا كَانَ فَاشِيًا كَثِيرًا، فَهُوَ أَيْضًا عِنْدَهُمْ طُوفَانٌ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: أَفْنَاهُـمُ طُوفَان مَوْتٍ جَارِفٍ وَبِنَحْوِ قَوْلِنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} قَالَ: هُوَ الْمَاءُ الَّذِي أُرْسِلَ عَلَيْهِمْ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ: الطُّوفَانُ: الْغَرَقُ. وَقَوْلُهُ: {وَهُمْ ظَالِمُونَ} يَقُولُ: وَهُمْ ظَالِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَنْجَيْنَا نُوحًا وَأَصْحَابَ سَفِينَتِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ حَمَلَهُمْ فِي سَفِينَتِهِ مَنْ وَلَدِهِ وَأَزْوَاجِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، وَذَكَرْنَا الرِّوَايَاتِ فِيهِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} يَقُولُ: وَجَعَلْنَا السَّفِينَةَ الَّتِي أَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَهُ فِيهَا عِبْرَةً وَعِظَةً لِلْعَالَمِينَ، وَحُجَّةً عَلَيْهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} الْآيَةَ. قَالَ: أَبْقَاهَا اللَّهُ آيَةً لِلنَّاسِ بِأَعْلَى الْجُودِيِّ. وَلَوْ قِيلَ: مَعْنَى {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} وَجَعَلْنَا عُقُوبَتَنَا إِيَّاهُمْ آيَةً لِلْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ الْهَاءَ وَالْأَلْفَ فِي قَوْلِهِ: (وَجَعَلْنَاهَا) كِنَايَةً عَنِ الْعُقُوبَةِ أَوِ السُّخْطِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، إِذْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} كَانَ وَجْهًا مِنَ التَّأْوِيلِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاذْكُرْ أَيْضًا يَا مُحَمَّدُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ، إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ أَيُّهَا الْقَوْمُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، فَإِنَّهُ لَا إِلَهَ لَكُمْ غَيْرُهُ، (وَاتَّقُوهُ) يَقُولُ: وَاتَّقَوْا سُخْطَهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِمَّا هُوَ شَرٌّ لَكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبَرًا عَنْ قِيلِ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ أَيُّهَا الْقَوْمُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا، يَعْنِي مُثُلًا. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} أَصْنَامًا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: وَتَصْنَعُونَ كَذِبًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} يَقُولُ: تَصْنَعُونَ كَذِبًا. وَقَالَ آخَرُونَ: وَتَقُولُونَ كَذِبًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} يَقُولُ: وَتَقُولُونَ إِفْكًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} يَقُولُ: تَقُولُونَ كَذِبًا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: وَتَنْحِتُونَ إِفْكًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} قَالَ: تَنْحِتُونَ تُصَوِّرُونَ إِفْكًا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} أَيْ: تَصْنَعُونَ أَصْنَامًا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} الْأَوْثَانَ الَّتِي يَنْحِتُونَهَا بِأَيْدِيهِمْ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: وَتَصْنَعُونَ كَذِبًا. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْخُلُقِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا، وَتَصْنَعُونَ كَذِبًا وَبَاطِلًا. وَإِنَّمَا فِي قَوْلِهِ: (إِفْكًا) مَرْدُودٌ عَلَى إِنَّمَا، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: إِنَّمَا تَفْعَلُونَ كَذَا، وَإِنَّمَا تَفْعَلُونَ كَذَا. وَقَرَأَ جَمِيعُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} بِتَخْفِيفِ الْخَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: (وَتَخْلُقُونَ) وَضَمِّ اللَّامِ: مِنَ الْخَلْقِ. وَذُكِرَ عَنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُلَمِيُّ أَنَّهُ قَرَأَ {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، مِنَ التَّخْلِيقِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا مَا عَلَيْهِ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّ أَوْثَانَكُمُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا، لَا تَقْدِرُ أَنْ تُرْزَقَكُمْ شَيْئًا {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} يَقُولُ: فَالْتَمَسُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ لَا مِنْ عِنْدِ أَوْثَانِكُمْ، تُدْرِكُوا مَا تَبْتَغُونَ مِنْ ذَلِكَ (وَاعْبُدُوهُ) يَقُولُ: وَذِلُّوا لَهُ (وَاشْكُرُوا لَهُ) عَلَى رِزْقِهِ إِيَّاكُمْ، وَنِعَمِهُ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْكُمْ، يُقَالُ: شَكَرْتُهُ، وَشَكَرْتُ لَهُ أَفْصَحُ مَنْ شَكَرْتُهُ. وَقَوْلُهُ: (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يَقُولُ: إِلَى اللَّهِ تُرَدُّونَ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِكُمْ، فَيَسْأَلُكُمْ عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَتِكُمْ غَيْرِهِ وَأَنْتُمْ عِبَادُهُ وَخَلْقُهُ، وَفِي نِعَمِهِ تَتَقَلَّبُونَ، وَرِزْقَهُ تَأْكُلُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنْ تُكَذِّبُوا أَيُّهَا النَّاسُ رَسُولَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ الْأَوْثَانِ، فَقَدْ كَذَّبَتْ جَمَاعَاتٌ مِنْ قَبْلِكُمْ رُسُلَهَا فِيمَا دَعَتْهُمْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ مِنَ الْحَقِّ، فَحَلَّ بِهَا مِنَ اللَّهِ سُخْطُهُ، وَنَزَلَ بِهَا مَنْ عَاجِلِ عُقُوبَتِهِ، فَسَبِيلُكُمْ سَبِيلُهَا فِيمَا هُوَ نَازِلٌ بِكُمْ بِتَكْذِيبِكُمْ إِيَّاهُ {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} يَقُولُ: وَمَا عَلَى مُحَمَّدٍ إِلَّا أَنْ يُبَلِّغَكُمْ عَنِ اللَّهِ رِسَالَتَهُ، وَيُؤَدِّيَ إِلَيْكُمْ مَا أَمَرَهُ بِأَدَائِهِ إِلَيْكُمْ رَبُّهُ. وَيَعْنِي بِالْبَلَاغِ الْمُبَيِّنِ: الَّذِي يُبَيِّنُ لِمَنْ سَمِعَهُ مَا يُرَادُ بِهِ، وَيُفْهَمُ بِهِ مَا يَعْنِي بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَوْلَمَ يَرَوْا كَيْفَ يَسْتَأْنِفُ اللَّهُ خَلْقَ الْأَشْيَاءِ طِفْلًا صَغِيرًا، ثُمَّ غُلَامًا يَافِعًا، ثُمَّ رَجُلًا مُجْتَمِعًا، ثُمَّ كَهْلًا يُقَالُ مِنْهُ: أَبْدَأَ وَأَعَادَ وَبَدَأَ وَعَادَ، لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَوْلُهُ: (ثُمَّ يُعِيدُهُ) يَقُولُ: ثُمَّ هُوَ يُعِيدُهُ مِنْ بَعْدِ فَنَائِهِ وَبِلَاهُ، كَمَا بَدَأَهُ أَوَّلَ مَرَّةً خَلْقًا جَدِيدًا، لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} سَهْلٌ كَمَا كَانَ يَسِيرًا عَلَيْهِ إِبْدَاؤُهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}: بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَوْلُهُ: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ، الْجَاحِدِينَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ: {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ} اللَّهُ الْأَشْيَاءَ وَكَيْفَ أَنْشَأَهَا وَأَحْدَثَهَا؛ وَكَمَا أَوْجَدَهَا وَأَحْدَثَهَا ابْتِدَاءً، فَلَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَيْهِ إِحْدَاثُهَا مُبْدِئًا، فَكَذَلِكَ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إِنْشَاؤُهَا مُعِيدًا {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} يَقُولُ: ثُمَّ اللَّهُ يُبْدِئُ تِلْكَ الْبَدْأَةَ الْآخِرَةَ بَعْدَ الْفَنَاءِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ}: أى الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} قَالَ: هِيَ الْحَيَاةُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُوَ النُّشُورُ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ اللَّهَ عَلَى إِنْشَاءِ جَمِيعِ خَلْقِهِ بَعْدَ إِفْنَائِهِ كَهَيْئَتِهِ قَبْلَ فَنَائِهِ، وَعَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَشَاءُ فِعْلَهُ قَادِرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ أَرَادَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} خَلْقَهُ مِنْ بَعْدِ فَنَائِهِمْ، فـ {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} مِنْهُمْ عَلَى مَا أَسْلَفَ مِنْ جُرْمِهِ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِ، {وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} مِنْهُمْ مِمَّنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} يَقُولُ: وَإِلَيْهِ تَرْجِعُونَ وَتَرُدُّونَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} فَإِنَّ ابْنَ زَيْدٍ قَالَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} قَالَ: لَا يُعْجِزُهُ أَهْلُ الْأَرَضِينَ فِي الْأَرَضِينَ، وَلَا أَهْلَ السَّمَوَاتِ فِي السَّمَوَاتِ إِنْ عَصَوْهُ، وَقَرَأَ {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}. وَقَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا} مَنْ (فِي السَّمَاءِ) مُعْجِزِينَ قَالَ: وَهُوَ مِنْ غَامِضِ الْعَرَبِيَّةِ لِلضَّمِيرِ الَّذِي لَمَّ يَظْهَرْ فِي الثَّانِي، قَالَ: وَمِثْلُهُ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: أمَـنْ يَهْجُـو رَسُـولَ اللـهِ مِنْكُـمْ *** وَيَمْدَحُـهُ وَيَنْصُـرُه سَـواءُ؟ أَرَادَ: وَمَنْ يَنْصُرُهُ وَيَمْدَحُهُ، فَأَضْمَرَ"مَنْ". قَالَ: وَقَدْ يَقَعُ فِي وَهْمِ السَّامِعِ أَنَّ النَّصْرَ وَالْمَدْحَ لِمَنْ هَذِهِ الظَّاهِرَةِ، وَمِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ: أَكْرِمْ مَنْ أَتَاكَ وَأَتَى أَبَاكَ، وَأَكْرَمْ مَنْ أَتَاكَ وَلَمْ يَأْتِ زَيْدًا. تُرِيدُ: وَمَنْ لَمْ يَأْتِ زَيْدًا، فَيَكْتَفِي بِاخْتِلَافِ الْأَفْعَالِ مِنْ إِعَادَةِ (مَنْ)، كَأَنَّهُ قَالَ: أَمَنْ يَهْجُو، وَمَنْ يَمْدَحُهُ، وَمَنْ يَنْصُرُهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ عِنْدِي فِي الْمَعْنَى مِنَ الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: مَعْنَاهُ: وَلَا أَنْتُمْ بِمُعَجِزِينِ فِي الْأَرْضِ، وَلَا أَنْتُمْ لَوْ كُنْتُمْ فِي السَّمَاءِ بِمُعَجِّزَيْنِ- كَانَ مَذْهَبًا. وَقَوْلُهُ: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} يَقُولُ: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يَلِي أُمُورَكُمْ، وَلَا نُصَيْرٍ يَنْصُرُكُمْ مِنَ اللَّهُ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا وَلَا يَمْنَعُكُمْ مِنْهُ إِنْ أَحَلَّ بِكُمْ عُقُوبَتَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا حُجَجَ اللَّهِ، وَأَنْكَرُوا أَدِلَّتَهُ، وَجَحَدُوا لِقَاءَهُ وَالْوُرُودَ عَلَيْهِ، يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ: {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي فِي الْآخِرَةِ لِمَا عَايَنُوا مَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُوجِعٌ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ اعْتَرَضَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وَتَركَ ضَمِيرَ قَوْلِهِ: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} وَهُوَ مِنْ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. قِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ عَنْ أَمْرِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِمَا، وَسَائِرِ مَنْ ذَكَرَ اللَّهُ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأُمَمِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، إِنَّمَا هُوَ تَذْكِيرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِهِ الَّذِينَ يَبْتَدِئُ بِذِكْرِهِمْ قَبْلَ الِاعْتِرَاضِ بِالْخَبَرِ، وَتَحْذِيرٌ مِنْهُ لَهُمْ أَنَّ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِهِمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: فَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تَرْجِعُونَ، فَكَذَّبْتُمْ أَنْتُمْ مَعْشَرَ قُرَيْشٍ رَسُولَكُمْ مُحَمَّدًا، كَمَا كَذَّبَ أُولَئِكَ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ جَعَلَ مَكَانَ: فَكَذَّبْتُمْ: وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْخَبَرِ عَنْ تَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُمْ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْخَبَرِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمِهِ، وَتَتْمِيمِ قِصَّتِهِ وَقِصَّتِهِمْ بِقَوْلِهِ: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمْ يَكُنْ جَوَابَ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ لَهُ إِذْ قَالَ لَهُمْ: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إِلَّا أَنْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: {اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} بِالنَّارِ، فَفَعَلُوا، فَأَرَادُوا إِحْرَاقَهُ بِالنَّارِ، فَأَضْرَمُوا لَهُ النَّارَ، فَأَلْقَوْهُ فِيهَا، فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنْهَا، وَلَمْ يُسَلِّطْهَا عَلَيْهِ، بَلْ جَعَلَهَا عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: (فَمَا كَانَ جَوَابَ) قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ {إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} قَالَ: قَالَ كَعْبٌ: مَا حَرَقَتْ مِنْهُ إِلَّا وِثَاقَهُ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ فِي إِنْجَائِنَا لِإِبْرَاهِيمَ مِنَ النَّارِ، وَقَدْ أُلْقِيَ فِيهَا وَهِيَ تَسَعَّرُ، وَتَصْيِيرِهَا عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا لَأَََدِلَّةً وَحُجَجًا لِقَوْمٍ يُصَدِّقُونَ بِالْأَدِلَّةِ وَالْحُجَجِ إِذَا عَايَنُوا وَرَأَوْا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبَرًا عَنْ قِيلِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ: (وَقَالَ) إِبْرَاهِيمُ لِقَوْمِهِ: يَا قَوْمِ {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا}. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالشَّأْمُ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: (مَوَدَّةً) بِنَصْبِ "مَوَدَّةً" بِغَيْرِ إِضَافَةٍ (بَيْنَكُمْ) بِنَصْبِهَا. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ: {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} بِنَصْبِ "الْمَوَدَّةِ" وَإِضَافَتِهَا إِلَى قَوْلِهِ: (بَيْنِكُمْ)، وَخَفْضِ (بَيْنِكُمْ). وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَرَءُوا قَوْلَهُ: (مَوَدَّةَ) نَصْبًا، وَجَّهُوا مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ} أَيُّهَا الْقَوْمُ {أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ}، فَجَعَلُوا إِنَّمَا حَرْفَا وَاحِدًا، وَأَوْقَعُوا قَوْلَهُ: (اتَّخَذْتُمْ) عَلَى الْأَوْثَانِ، فَنَصَبُوهَا بِمَعْنَى: اتَّخَذْتُمُوهَا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، تَتَحَابُّونَ عَلَى عِبَادَتِهَا، وَتَتَوَادُّونَ عَلَى خِدْمَتِهَا، فَتَتَوَاصَلُونَ عَلَيْهَا، وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قُرَّاءِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْبَصْرَةَ: {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} بِرَفْعِ الْمَوَدَّةِ وَإِضَافَتِهَا إِلَى الْبَيْنِ، وَخَفْضِ الْبَيْنِ، وَكَأَنَّ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ كَذَلِكَ، جَعَلُوا "إِنَّ مَا" حَرْفَيْنِ، بِتَأْوِيلِ: إِنْ الَّذِينَ اتَّخَذْتُمْ مَنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا إِنَّمَا هُوَ مَوَدَّتُكُمْ لِلدُّنْيَا، فَرَفَعُوا "مَوَدَّةُ" عَلَى خَبَرِ إِنَّ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى قِرَاءَتِهِمْ ذَلِكَ رَفْعًا بِقَوْلِهِ: "إِنَّمَا" أَنْ تَكُونُ حَرْفًا وَاحِدًا، وَيَكُونُ الْخَبَرُ مُتَنَاهِيًا عِنْدَ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا} ثُمَّ يَبْتَدِئُ الْخَبَرُ فَيُقَالُ: مَا مَوَدَّتُكُمْ تِلْكَ الْأَوْثَانَ بِنَافِعَتِكُمْ، إِنَّمَا مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا، ثُمَّ هِيَ مُنْقَطِعَةٌ، وَإِذَا أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى كَانَتْ الْمَوَدَّةُ مَرْفُوعَةٌ بِالصِّفَةِ بِقَوْلِهِ: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا أَرَادُوا بِرَفْعِ الْمَوَدَّةِ، رَفْعَهَا عَلَى ضَمِيرِ هِيَ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ الثَّلَاثُ مُتَقَارِبَاتُ الْمَعَانِي، لِأَنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْأَوْثَانَ آلِهَةً يَعْبُدُونَهَا، اتَّخَذُوهَا مَوَدَّةَ بَيْنِهِمْ، وَكَانَتْ لَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَوَدَّةٌ، ثُمَّ هِيَ عَنْهُمْ مُنْقَطِعَةٌ، فَبِأَيِّ ذَلِكَ قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ؛ لِتَقَارُبِ مَعَانِي ذَلِكَ، وَشُهْرَةِ الْقِرَاءَةِ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} قَالَ: صَارَتْ كُلُّ خُلَّةٍ فِي الدُّنْيَا عَدَاوَةً عَلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا خُلََّةَ الْمُتَّقِينَ. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيُّهَا الْمُتَوَادُّونَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ، وَالْمُتَوَاصِلُونَ عَلَى خِدْمَاتِهَا عِنْدَ وُروْدِكُمْ عَلَى رَبِّكُمْ، وَمُعَايَنَتِكُمْ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكُمْ عَلَى التَّوَاصُلِ وَالتَّوَادِّ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَلِيمِ الْعَذَابِ، {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} يَقُولُ: يَتَبَرَّأُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَقَوْلُهُ: {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَمَصِيرُ جَمِيعِكُمْ أَيُّهَا الْعَابِدُونَ الْأَوْثَانَ وَمَا تَعْبُدُونَ- النَّارُ {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} يَقُولُ: وَمَا لَكَمَ أَيُّهَا الْقَوْمُ الْمُتَّخِذُو الْآلِهَةِ، مِنْ دُونِ اللَّهِ {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} مِنْ أَنْصَارٍ يَنْصُرُونَكُمْ مِنَ اللَّهِ حِينَ يُصْلِيكُمْ نَارَ جَهَنَّمَ، فَيُنْقِذُونَكُمْ مِنْ عَذَابِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَصَدَّقَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ اللَّهِ لُوطٌ {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} يَقُولُ: وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنِّي مُهَاجِرٌ دَارَ قَوْمِي إِلَى رَبِّي إِلَى الشَّامِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} قَالَ: صَدَقَ لُوطٌ {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} قَالَ: هُوَ إِبْرَاهِيمُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} أَيْ فَصَدَّقَهُ لُوطٌ {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} قَالَ: هَاجَرَا جَمِيعًا مِنْ كُوثَى، وَهِيَ مِنْ سَوَادِ الْكُوفَةِ إِلَى الشَّامِ. قَالَ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «"إِنَّهَا سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ يَنْحَازُ أَهْلُ الْأَرْضِ إِلَى مَهَاجِرِ إِبْرَاهِيمَ وَيَبْقَي فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا، حَتَّى تَلْفِظَهُمْ وَتَقْذِرَهُمُ، وَتَحْشُرَهُمُ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ"». حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} قَالَ: صَدَّقَهُ لُوطٌ، صَدَّقَ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَرَأَيْتَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَيْسَ آمَنُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ بِهِ؟ قَالَ: فَالْإِيمَانُ: التَّصْدِيقُ. وَفِي قَوْلِهِ: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} قَالَ: كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الشَّأْمِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي حَدِيثِ الذِّئْبِ الَّذِي كَلَّمَ الرَّجُلَ، فَأَخْبَرَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَآمَنْتُ لَهُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ "، وَلَيْسَ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمْرُ مَعَهُ يَعْنِي: آمَنْتُ لَهُ: صَدَّقْتُهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، فِي قَوْلِهِ: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} قَالَ: إِلَى حَرَّانَ، ثُمَّ أُمِرَ بَعْدُ بِالشَّأْمِ الَّذِي هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ يَقُولُ: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ} إِبْرَاهِيمُ (إِنِّي مُهَاجِرٌ...) الْآيَةَ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} إِبْرَاهِيمُ الْقَائِلُ: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}. وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} يَقُولُ: إِنَّ رُبِّي هُوَ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يُذِلُّ مِنْ نَصَرَهُ، وَلَكِنَّهُ يَمْنَعُهُ مِمَّنْ أَرَادَهُ بِسُوءٍ، وَإِلَيْهِ هِجْرَتُهُ، الْحَكِيمُ فِي تَدْبِيرِهِ خَلْقَهُ، وَتَصْرِيفِهِ إِيَّاهُمْ فِيمَا صَرَفَهُمْ فِيهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَرَزَقْنَاهُ مَنْ لَدُنَّا إِسْحَاقَ وَلَدًا، وَيَعْقُوبَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدَ وَلَدٍ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} قَالَ: هُمَا وَلَدَا إِبْرَاهِيمَ. وَقَوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} بِمَعْنَى الْجَمْعِ، يُرَادُ بِهِ الْكُتُبُ، وَلَكِنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ قَوْلِهِمْ: كَثُرَ الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ عِنْدَ فُلَانٍ. وَقَوْلُهُ: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَعْطَيْنَاهُ ثَوَابَ بَلَائِهِ فِينَا فِي الدُّنْيَا (وَإِنَّهُ) مَعَ ذَلِكَ {فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} فَلَهُ هُنَاكَ أَيْضًا جَزَاءُ الصَّالِحِينَ، غَيْرُ مُنْتَقَصٍ حَظَّهُ بِمَا أُعْطِى فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَجْرِ عَلَى بَلَائِهِ فِي اللَّهِ عَمَّا لَهُ عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَجْرَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ آتَاهُ إِبْرَاهِيمَ فِي الدُّنْيَا هُوَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ يَمَانَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} قَالَ: الثَّنَاءُ. حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ لَيْثٍ قَالَ: أَرْسَلَ مُجَاهِدٌ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: قَاسِمٌ، إِلَى عِكْرِمَةَ يَسْأَلُهُ عَنْ قَوْلِهِ: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} قَالَ: قَالَ: أَجْرُهُ فِي الدُّنْيَا، أَنَّ كُلَّ مِلَّةٍ تَتَوَلَّاهُ، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الصَّالِحِينَ، قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى مُجَاهِدٍ، فَقَالَ: أَصَابَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ يَمَانَ، عَنْ مِنْدَلٍ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} قَالَ: الْوَلَدُ الصَّالِحُ وَالثَّنَاءُ. حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} يَقُولُ: الذَّكَرُ الْحَسَنُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} قَالَ: عَافِيَةٌ وَعَمَلًا صَالِحًا، وَثَنَاءً حَسَنًا، فَلَسْتَ بِلَاقٍّ أَحَدًا مِنَ الْمِلَلِ إِلَّا يَرَى إِبْرَاهِيمَ وَيَتَوَلَّاهُ {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاذْكُرْ لُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ: (إِنَّكُمْ لَتَأتُونَ) الذُّكْرَانَ {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا} يَعْنِي بِالْفَاحِشَةِ الَّتِي كَانُوا يَأْتُونَهَا، وَهِيَ إِتْيَانُ الذُّكْرَانِ {مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَا: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، فِي قَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} قَالَ: مَا نَزَا ذَكَرٌ عَلَى ذَكَرٍ حَتَّى كَانَ قَوْمُ لُوطٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبَرًا عَنْ قِيلِ لُوطٍ لِقَوْمِهِ (أَئِنَّكُمْ) أَيُّهَا الْقَوْمُ، {لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} فِي أَدْبَارِهِمْ {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} يَقُولُ: وَتَقْطَعُونَ الْمُسَافِرِينَ عَلَيْكُمْ بِفِعْلِكُمُ الْخَبِيثِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِمَنْ مَرَّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُسَافِرِينَ، مَنْ وَرَدَ بِلَادَهُمْ مِنَ الْغُرَبَاءِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} قَالَ: السَّبِيلُ: الطَّرِيقُ. الْمُسَافِرُ إِذَا مَرَّ بِهِمْ، وَهُوَ ابْنُ السَّبِيلِ قَطَعُوا بِهِ، وَعَمِلُوا بِهِ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْخَبِيثَ. وَقَوْلُهُ: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمُنْكَرِ الَّذِي عَنَاهُ اللَّهُ، الَّذِي كَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ يَأْتُونَهُ فِي نَادِيهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَضَارَطُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدَ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ، قَالَ: ثَنَا رَوْحُ بْنُ عُطيفةَ الثَّقَفِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُصْعَبٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَة، فِي قَوْلِهِ: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} قَالَ: الضُّرَاطُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْذِفُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيبٍ وَابْنُ وَكِيعٍ قَالَا ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْأُمِّ هَانِئٍ، قَالَتْ: «سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} قَالَ: "كَانُوا يَحْذِفُونَ أَهْلَ الطَّرِيقِ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُم ْ" فَهُوَ الْمُنْكَرُ الَّذِي كَانُوا يَأْتُون». حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ، قَالَ: ثَنَا أَسَدٌ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبَدَةَ الضَّبِّيُّ، قَالَ: ثَنَا سَلِيمُ بْنُ أَخْضَرَ، قَالَ: ثَنَا أَبُو يُونُسَ القُشَيريُّ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ، «أَنَّأُمَّ هَانِئٍسُئِلَتْ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} فَقَالَتْ: سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "كَانُوا يَحْذِفُونَ أَهْلَ الطَّرِيقِ، وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ"». حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} قَالَ: كَانُوا يُؤْذُونَ أَهْلَ الطَّرِيقِ يَحْذِفُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ قَالَ: الْحَذْفُ. حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمْرٌو، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} قَالَ: كَانَ كُلُّ مِنْ مَرَّ بِهِمْ حَذَفُوهُ، فَهُوَ الْمُنْكَرُ. حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ، قَالَ: ثَنَا أَسَدٌ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ، قَالَ: ثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ بَاذَامَ، عَنِ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ، عَنْأُمِّ هَانِئٍ، قَالَتْ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} قَالَ: "كَانُوا يَجْلِسُونَ بِالطَّرِيقِ، فَيَحْذِفُونَ أَبْنَاءَ السَّبِيلِ، وَيَسْخَرُونَ مِنْهُم». وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ إِتْيَانَهُمُ الْفَاحِشَةَ فِي مَجَالِسِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كَانَ يَأْتِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي مَجَالِسِهِمْ، يَعْنِي قَوْلَهُ: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ}. حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: ثَنَا ثَابِتُ بْنُ مُحَمَّدٍ اللَّيْثِيُّ، قَالَ: ثَنَا فَضِيلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} قَالَ: كَانَ يُجَامِعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْمَجَالِسِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} قَالَ: كَانَ يَأْتِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْمَجَالِسِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كَانُوا يُجَامِعُونَ الرِّجَالَ فِي مَجَالِسِهِمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} قَالَ: الْمَجَالِسُ و (الْمُنْكَرُ): إِتْيَانُهُمُ الرِّجَالَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} قَالَ: كَانُوا يَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ فِي نَادِيهِمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} قَالَ: نَادِيهِمْ: الْمَجَالِسُ، و (الْمُنْكَرُ): عَمَلُهُمُ الْخَبِيثُ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ، كَانُوا يَعْتَرِضُونَ بِالرَّاكِبِ، فَيَأْخُذُونَهُ وَيَرْكَبُونَهُ. وَقَرَأَ {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}، وَقَرَأَ {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ}. حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} يَقُولُ: فِي مَجَالِسِكُمْ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ: وَتَحْذِفُونَ فِي مَجَالِسِكُمُ الْمَارَّةَ بِكُمْ، وَتَسْخَرُونَ مِنْهُمْ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَوْلُهُ: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمْ يَكُنْ جَوَابُ قَوْمِ لُوطٍ إِذْ نَهَاهُمْ عَمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ مِنْ إِتْيَانِ الْفَوَاحِشِ الَّتِي حَرَمَهَا اللَّهُ إِلَّا قَيْلُهُمْ: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ} الَّذِي تَعِدُنَا، {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فِيمَا تَقُولُ، وَالْمُنْجِزِينَ لِمَا تَعِدُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} مِنَ اللَّهِ بِإِسْحَاقَ، وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} يَقُولُ: قَالَتْ رُسُلُ اللَّهِ لِإِبْرَاهِيمَ: إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَرْيَةِ سَدُومَ، وَهِيَ قَرْيَةُ قَوْمِ لُوطٍ {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} يَقُولُ: إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ؛ بِمَعْصِيَتِهِمُ اللَّهَ، وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} إِلَى قَوْلِهِ: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} قَالَ: فَجَادَلَ إِبْرَاهِيمُ الْمَلَائِكَةَ فِي قَوْمِ لُوطٍ أَنْ يُتْرَكُوا، قَالَ: فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ فِيهَا عَشَرَةُ أَبْيَاتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَتَتْرُكُونَهُمْ؟ فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: لَيْسَ فِيهَا عَشَرَةُ أَبْيَاتٍ، وَلَا خَمْسَةٌ، وَلَا أَرْبَعَةٌ، وَلَا ثَلَاثَةٌ، وَلَا اثْنَانِ، قَالَ: فَحَزِنَ عَلَى لُوطٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، فَقَالَ: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} فَبَعْثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ جِبْرَائِيلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَانْتَسَفَ الْمَدِينَةَ وَمَا فِيهَا بِأَحَدِ جَنَاحَيْهِ، فَجَعْل عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَتَتَبُّعَهُمْ بِالْحِجَارَةِ بِكُلِّ أَرْضٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِلرُّسُلِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِذْ قَالُوا لَهُ: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} فِلْم يَسْتَثْنُوا مِنْهُمْ أَحَدًا، إِذْ وَصَفُوهُمْ بِالظُّلْمِ: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا}، وَلَيْسَ مِنَ الظَّالِمِينَ، بَلْ هُوَ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ، وَأَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَالطَّاعَةِ لَهُ، فَقَالَتْ الرُّسُلُ لَهُ: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} مِنَ الظَّالِمِينَ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ مِنْكَ، وَإِنَّ لُوطًا لَيْسَ مِنْهُمْ، بَلْ هُوَ كَمَا قُلْتَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} مِنَ الْهَلَاكِ الَّذِي هُوَ نَازِلٌ بِأَهْلِ قَرْيَتِهِ {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} الَّذِينَ أَبْقَتْهُمُ الدُّهُورُ وَالْأَيَّامُ، وَتَطَاوَلَتْ أَعْمَارُهُمْ وَحَيَاتُهُمْ، وَإِنَّهَا هَالِكَةٌ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ لُوطٍ مَعَ قَوْمِهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا} مِنَ الْمَلَائِكَةِ {سِيءَ بِهِمْ} يَقُولُ: سَاءَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِمَجِيئِهِمْ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ تَضَيَّفُوهُ، فَسَاءُوهُ بِذَلِكَ، فَقَوْلُهُ: {سِيءَ بِهِمْ}: فُعِلَ بِهِمْ مِنْ سَاءَهُ بِذَلِكَ. وَذُكِرَ عَنْ قَتَادَةُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: سَاءَ ظَنُّهُ بِقَوْمِهِ، وَضَاقَ بِضَيْفِهِ ذَرْعًا. حَدَّثَنَا بِذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْهُ {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} يَقُولُ: وَضَاقَ ذَرْعُهُ بِضِيَافَتِهِمْ لِمَا عَلِمَ مِنْ خُبْثِ فِعْلِ قَوْمِهِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} قَالَ: بِالضِّيَافَةِ مَخَافَةً عَلَيْهِمْ مِمَّا يَعْلَمُ مِنْ شَرِّ قَوْمِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَتِ الرُّسُلُ لِلُوطٍ: لَا تَخَفْ عَلَيْنَا أَنْ يَصِلَ إِلَيْنَا قَوْمُكَ، وَلَا تَحْزَنَ مِمَّا أَخْبَرْنَاكَ مِنْ أَنَّا مُهْلِكُوهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ قَالَتْ لَهُ: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ}، {إِنَّا مُنَجُّوكَ} مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي هُوَ نَازِلٌ بِقَوْمِكَ (وَأَهْلَكَ) يَقُولُ: وَمُنَجُّو أَهْلِكَ مَعَكَ {إِلَّا امْرَأَتَكَ} فَإِنَّهَا هَالِكَةٌ فِيمَنْ يَهْلَكُ مِنْ قَوْمِهَا، كَانَتْ مِنَ الْبَاقِينَ الَّذِينَ طَالَتْ أَعْمَارُهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبَرًا عَنْ قِيلِ الرُّسُلِ لِلُوطٍ: {إِنَّا مُنْزِلُونَ} يَا لُوطُ {عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} سَدُومَ {رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} يَعْنِي عَذَابًا. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا}: أَيْ عَذَابًا. وَقَدْ بَيَّنَا مَعْنَى الرِّجْزِ وَمَا فِيهِ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} يَقُولُ: بِمَا كَانُوا يَأْتُونَ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَيَرْكَبُونَ مِنَ الْفَاحِشَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ أَبْقَيْنَا مِنْ فَعْلَتِنِا الَّتِي فَعَلْنَا بِهِمْ آيَةً، يَقُولُ: عِبْرَةٌ بَيِّنَةٌ وَعِظَةٌ وَاعِظَةٌ، (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) عَنِ اللَّهِ حُجَجَهُ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي مَوَاعِظِهِ، وَتِلْكَ الْآيَةُ الْبَيِّنَةُ هِيَ عِنْدِي عُفُوُّ آثَارِهِمْ، وَدُرُوسِ مَعَالِمِهِمْ. وَذُكِرَ عَنْ قَتَادَةَ فِي ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} قَالَ: هِيَ الْحِجَارَةُ الَّتِي أُمْطِرَتْ عَلَيْهِمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ: {مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً} قَالَ: عِبْرَةً.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَرْسَلَتُ إِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا، فَقَالَ لَهُمْ: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} وَحْدَهُ، وَذِلُّوا لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَاخْضَعُوا لَهُ بِالْعِبَادَةِ {وَارْجُوَا الْيَوْمَ الْآخِرَ} يَقُولُ: وَارْجُوَا بِعِبَادَتِكُمْ إِيَّايَ جَزَاءَ الْيَوْمِ الْآخِرِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} يَقُولُ: وَلَا تُكْثِرُوا فِي الْأَرْضِ مَعْصِيَةَ اللَّهِ، وَلَا تُقِيمُوا عَلَيْهَا، وَلَكِنْ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ مِنْهَا وَأَنِيبُوا. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ: {وَارْجُوَا الْيَوْمَ الْآخِرَ} بِمَعْنَى: وَاخْشَوُا الْيَوْمَ الْآخِرَ، وَكَانَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَقُولُ: لَمْ نَجِدِ الرَّجَاءَ بِمَعْنَى الْخَوْفِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِلَّا إِذَا قَارَنَهُ الْجَحْدُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَكَذَّبَ أَهْلُ مَدْيَنَ شُعَيْبًا فِيمَا أَتَاهُمْ بِهِ عَنِ اللَّهِ مِنَ الرِّسَالَةِ، فَأَخَذَتْهُمْ رَجْفَةُ الْعَذَابِ {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} جُثُومًا، بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَوْتَى. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}: أَيُّ مَيِّتِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاذْكُرُوا أَيُّهَا الْقَوْمُ عَادًا وَثَمُودَ، {وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} خَرَابُهَا وَخَلَاؤُهَا مِنْهُمْ بِوَقَائِعِنَا بِهِمْ، وَحُلُولِ سَطْوَتِنَا بِجَمِيعِهِمْ {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} يَقُولُ: وَحَسَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ كُفْرَهُمْ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبَهُمْ رُسُلَهُ {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} يَقُولُ: فَرَدَّهُمْ بِتَزْيِينِهِ لَهُمْ، مَا زَيَّنَ لَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، الَّتِي هِيَ الْإِيمَانُ بِهِ وَرُسُلِهِ، وَمَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} يَقُولُ: وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ فِي ضَلَالَتِهِمْ، مُعْجَبِينَ بِهَا، يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى وَصَوَابٍ، وَهُمْ عَلَى الضَّلَالِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} يَقُولُ: كَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ فِي دِينِهِمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} فِي الضَّلَالَةِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} فِي ضَلَالَتِهِمْ مُعْجَبِينَ بِهَا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعَتْ الضَّحَّاكَ يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} يَقُولُ: فِي دِينِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ، قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ، وَلِقَدْ جَاءَ جَمِيعَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ، يَعْنِي بِالْوَاضِحَاتِ مِنَ الْآيَاتِ، {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ} عَنِ التَّصْدِيقِ مِنَ الْآيَاتِ، وَعَنِ اتِّبَاعِ مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ {وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمَا كَانُوا سَابِقِينَا بِأَنْفُسِهِمْ، فَيَفُوتُونَنَا، بَلْ كُنَّا مُقْتَدِرِينَ عَلَيْهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَخَذْنَا جَمِيعَ هَذِهِ الْأُمَمِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا لَكَ يَا مُحَمَّدُ بِعَذَابِنَا {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} وَهُمْ قَوْمُ لُوطٍ الَّذِينَ أَمْطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الرِّيحَ الْعَاصِفَ الَّتِي فِيهَا الْحَصَى الصِّغَارُ أَوِ الثَّلْجُ أَوِ الْبَرَدُ وَالْجَلِيدُ حَاصِبًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَخْطَلِ: وَلقدْ عَلِمْـتُ إِذَا العِشارُ تَرَوَّحَـتْ *** هَدَجَ الرِّئَالُ يَكُبُّهُنَّ شَـمَالَا تَرْمي العِضَـاهَ بحـاصِبٍ مِنْ ثَلْجِهَا *** حَتَّى يَبِيتَ عَلَى العِضَاهِ جُفـَالَا وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: مُسْـتَقْبِلِينَ شَمَالَ الشَّأْمِ تَضْرِبُنـَا *** بِحَاصِبٍ كَنَـدِيفِ القُطْـنِ مَنْثُـورِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} قَوْمُ لُوطٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا} وَهُمْ قَوْمُ لُوطٍ {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِينَ عُنُوا بِذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ ثَمُودُ قَوْمُ صَالِحٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} ثَمُودُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ} قَوْمُ شُعَيْبٍ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ عَنْ ثَمُودَ وَقَوْمِ شُعَيْبٍ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ أَنَّهُ أَهْلَكَهُمْ بِالصَّيْحَةِ فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، ثُمَّ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمِنَ الْأُمَمِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا، {وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ}، فَلَمْ يُخَصِّصِ الْخَبَرَ بِذَلِكَ عَنْ بَعْضِ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ مِنَ الْأُمَمِ دُونَ بَعْضٍ، وَكِلَا الْأُمَّتَيْنِ أَعْنِي ثَمُودَ وَمَدْيَنَ قَدْ أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ. وَقَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} يَعْنِي بِذَلِكَ قَارُونَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} قَارُونُ {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} يَعْنِي: قَوَّمَ نُوحٍ وَفِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِذَلِكَ: قَوْمُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} قَوْمُ نُوحٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُمْ قَوْمُ فِرْعَوْنَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} قَوْمُ فِرْعَوْنَ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ، أَنْ يُقَالَ: عُنِيَ بِهِ قَوْمُ نُوحٍ وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُخَصِّصْ بِذَلِكَ إِحْدَى الْأُمَّتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى، وَقَدْ كَانَ أَهْلَكَهُمَا قَبْلَ نُزُولِ هَذَا الْخَبَرِ عَنْهُمَا، فَهُمَا مَعْنِيَّتَانِ بِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيُهْلِكَ هَؤُلَاءِ الْأُمَمَ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمْ، بِذُنُوبِ غَيْرِهِمْ، فَيَظْلِمَهُمْ بِإِهْلَاكِهِ إِيَّاهُمْ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، بَلْ إِنَّمَا أَهْلَكَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَجُحُودِهِمْ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ، مَعَ تَتَابُعِ إِحْسَانِهِ عَلَيْهِمْ، وَكَثْرَةِ أَيَادِيهِ عِنْدَهُمْ، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بِتَصَرُّفِهِمْ فِي نِعَمِ رَبِّهِمْ، وَتَقَلُّبِهِمْ فِي آلَائِهِ وَعِبَادَتِهِمْ غَيْرَهُ، وَمَعْصِيَتِهِمْ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ.
|