الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَقَرُبَ مِنْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَدَنَا، فَلَا تَسْتَعْجِلُوا وُقُوعَهُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي أَعْلَمَ اللَّهُ عِبَادَهُ مَجِيئَهُ وَقُرْبَهُ مِنْهُمْ مَا هُوَ، وَأَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ فَرَائِضُهُ وَأَحْكَامُهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} قَالَ: الْأَحْكَامُ وَالْحُدُودُ وَالْفَرَائِضُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِأَهْلِ الشِّرْكِ بِهِ، أَخْبَرَهُمْ أَنَّ السَّاعَةَ قَدْ قَرُبَتْ وَأَنَّ عَذَابَهُمْ قَدْ حَضَرَ أَجْلُهُ فَدَنَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: لَمَّا نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، يَعْنِي {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} قَالَ رِجَالٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ أَتَى، فَأَمْسِكُوا عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ حَتَّى تَنْظُرُوا مَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَنْـزِلُ شَيْءٌ، قَالُوا: مَا نَرَاهُ نَـزَلَ شَيْءٌ فَنَـزَلَتْ {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ مِثْلَهَا أَيْضًا، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَنْـزِلُ شَيْءٌ، قَالُوا: مَا نَرَاهُ نَـزَلَ شَيْءٌ فَنَـزَلَتْ {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}. حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبَى بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، قَالَ: لَمَّا نَـزَلَتْ {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} رَفَعُوا رُءُوسَهُمْ، فَنَـزَلَتْ {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ}.
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ شُعَيْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَادِقٍ يَقْرَأُ {يَا عِبَادِي أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ}. وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ تَهْدِيدٌ مِنَ اللَّهِ أَهْلَ الْكَفْرِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، وَإِعْلَامٌ مِنْهُ لَهُمْ قُرْبَ الْعَذَابِ مِنْهُمْ وَالْهَلَاكِ وَذَلِكَ أَنَّهُ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {عَمَّا يُشْرِكُونَ} فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى تَقْرِيعِهِ الْمُشْرِكِينَ وَوَعِيدِهِ لَهُمْ. وَبَعْدُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْجَلَ فَرَائِضَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ فَيُقَالُ لَهُمْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ: قَدْ جَاءَتْكُمْ فَرَائِضُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهَا. وَأَمَّا مُسْتَعْجِلُو الْعَذَابِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَدْ كَانُوا كَثِيرًا. وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {عَمَّا يُشْرِكُونَ} يَقُولُ تَعَالَى تَنْـزِيهًا لِلَّهِ وَعُلُوًّا لَهُ عَنِ الشِّرْكِ الَّذِي كَانَتْ قُرَيْشُ وَمَنْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى مِثْلِ مَا هُمْ عَلَيْهِ يَدِينُ بِهِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى {عَمَّا يُشْرِكُونَ} فَقَرَأَ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ {عَمَّا يُشْرِكُونَ} بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ عَنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَتَوْجِيهٍ لِلْخِطَابِ بِالِاسْتِعْجَالِ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ قَرَءُوا الثَّانِيَةَ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ بِالتَّاءِ عَلَى تَوْجِيهِ الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى " {عَمَّا يُشْرِكُونَ} " إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَالْقِرَاءَةُ بِالتَّاءِ فِي الْحَرْفَيْنِ جَمِيعًا عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ لِلْمُشْرِكِينَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ لِمَا بَيَّنْتُ مِنَ التَّأْوِيلِ، أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُشْرِكِينَ، ابْتَدَأَ أَوَّلَ الْآيَةِ بِتَهْدِيدِهِمْ، وَخَتَمَ آخِرَهَا بِنَكِيرِ فِعْلِهِمْ وَاسْتِعْظَامِ كُفْرِهِمْ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ لَهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُنَـزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}. اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ {يُنَـزِّلُ الْمَلَائِكَةَ} فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ {يُنَـزِّلُ الْمَلَائِكَةَ} بِالْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ وَنَصْبِ الْمَلَائِكَةِ، بِمَعْنَى يُنَـزِّلُ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالرَّوْحِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ وَبَعْضُ الْمَكِّيِّينَ: " {يُنَـزِّلُ الْمَلَائِكَةَ} "بِالْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الزَّايِ وَنَصْبِ الْمَلَائِكَةِ. وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُ: " تَنَـزَّلُ الْمَلَائِكَةُ" بِالتَّاءِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ وَالْمَلَائِكَةُ بِالرَّفْعِ، عَلَى اخْتِلَافٍ عَنْهُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مُوَافَقَةُ سَائِرِ قُرَّاءِ بَلَدِهِ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَاتِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ {يُنَـزِّلُ الْمَلَائِكَةَ} بِمَعْنَى: يُنَـزِّلُ اللَّهُ مَلَائِكَةً. وَإِنَّمَا اخْتَرْتُ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنَـزِّلُ مَلَائِكَتَهُ بِوَحْيِهِ إِلَى رُسُلِهِ، فَإِضَافَةُ فِعْلِ ذَلِكَ إِلَيْهِ أَوْلَى وَأَحَقُّ وَاخْتَرْتُ يُنَـزِّلُ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّخْفِيفِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ كَانَ يُنَـزِّلُ مِنَ الْوَحْيِ عَلَى مَنْ نَـزَّلَهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَالتَّشْدِيدُ بِهِ إِذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، أَوْلَى مِنَ التَّخْفِيفِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: يُنَـزِّلُ اللَّهُ مَلَائِكَتَهُ بِمَا يَحْيَا بِهِ الْحَقُّ وَيَضْمَحِلُّ بِهِ الْبَاطِلُ مِنْ أَمْرِهِ {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} يَعْنِي عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ رُسُلِهِ {أَنْ أَنْذِرُوا} فَإِنَّ الْأُولَى فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، رَدًا عَلَى الرُّوحِ، وَالثَّانِيَةَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِأَنْذِرُوا. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: يُنَـزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مَنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، بِأَنْ أَنْذَرُوا عِبَادِي سَطْوَتِي عَلَى كُفْرِهِمْ بِي وَإِشْرَاكِهِمْ فِي اتِّخَاذِهِمْ مَعِي الْآلِهَةَ وَالْأَوْثَانَ، فَإِنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، يَقُولُ: لَا تَنْبَغِي الْأُلُوهَةُ إِلَّا لِي، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُعْبَدَ شَيْءٌ سِوَايَ، فَاتَّقَوْنِ: يَقُولُ: فَاحْذَرُونِي بِأَدَاءِ فَرَائِضِي وَإِفْرَادِ الْعِبَادَةِ وَإِخْلَاصِ الرُّبُوبِيَّةِ لِي، فَإِنَّ ذَلِكَ نَجَاتُكُمْ مِنَ الْهَلَكَةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ {يُنَـزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ} يَقُولُ: بِالْوَحْيِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ {يُنَـزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} يَقُولُ: يُنَـزِّلُ الْمَلَائِكَةَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ {بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} أَنَّهُ لَا يَنْـزِلُ مَلَكٌ إِلَّا وَمَعَهُ رُوحٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: قَوْلُهُ {يُنَـزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} قَالَ: لَا يَنْـزِلُ مَلَكٌ إِلَّا مَعَهُ رُوحٌ {يُنَـزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} قَالَ: بِالنُّبُوَّةِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَسَمِعْتُ أَنَّ الرُّوحَ خَلْقٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، فِي قَوْلِهِ {يُنَـزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} قَالَ: كُلُّ كَلِمٍ تُكَلَّمَ بِهِ رَبُّنَا فَهُوَ رُوحٌ مِنْهُ {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}... إِلَى قَوْلِهِ {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ {يُنَـزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} يَقُولُ: يَنْـزِلُ بِالرَّحْمَةِ وَالْوَحْيِ مِنْ أَمْرِهِ، {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فَيَصْطَفِي مِنْهُمْ رُسُلًا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {يُنَـزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} قَالَ: بِالْوَحْيِ وَالرَّحْمَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ {أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} فَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ {أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} إِنَّمَا بَعَثَ اللَّهُ الْمُرْسَلِينَ أَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ وَحْدَهُ، وَيُطَاعَ أَمْرُهُ، وَيُجْتَنَبُ سُخْطُهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُعَرِّفًا خَلْقَهُ حُجَّتَهُ عَلَيْهِمْ فِي تَوْحِيدِهِ، وَأَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْأُلُوهَةُ إِلَّا لَهُ: خَلَقَ رَبُّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْعَدْلِ وَهُوَ الْحَقُّ مُنْفَرِدًا بِخَلْقِهَا لَمْ يُشْرِكْهُ فِي إِنْشَائِهَا وَإِحْدَاثِهَا شَرِيكٌ وَلَمْ يُعِنْهُ عَلَيْهِ مُعِينٌ، فَأَنَّى يَكُونُ لَهُ شَرِيكٌ {تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: عَلَا رَبُّكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ عَنْ شِرْكِكُمْ وَدَعْوَاكُمْ إِلَهًا دُونَهُ، فَارْتَفَعَ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ أَوْ شَرِيكٌ أَوْ ظَهِيرٌ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَهًا إِلَّا مَنْ يَخْلُقُ وَيُنْشِئُ بِقُدْرَتِهِ مِثْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَبْتَدِعُ الْأَجْسَامَ فَيُحْدِثُهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي قُدْرَةِ أَحَدٍ سِوَى اللَّهِ الْوَاحِدِ الْقَّهارِ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وَلَا تَصْلُحُ الْأُلُوهَةُ لِشَيْءٍ سِوَاهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ حُجَجِهِ عَلَيْكُمْ أَيْضًا أَيُّهَا النَّاسُ، أَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ، فَأَحْدَثَ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ خَلْقًا عَجِيبًا، قَلَّبَهُ تَارَاتٍ خَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثُلَاثٍ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ إِلَى ضِيَاءِ الدُّنْيَا بَعْدَ مَا تَمَّ خَلْقُهُ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، فَغَذَّاهُ وَرَزَقَهُ الْقُوتَ وَنَمَّاهُ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ كَفَرَ بِنِعْمَةِ رَبِّهِ وَجَحَدَ مُدَبِّرَهُ وَعَبَدَ مَنْ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَخَاصَمَ إِلَهَهُ، فَقَالَ {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} وَنَسِيَ الَّذِي خَلَقَهُ فَسَوَّاهُ خَلْقًا سَوِيًّا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، وَيَعْنِي بِالْمُبِينِ: أَنَّهُ يُبِينُ عَنْ خُصُومَتِهِ بِمَنْطِقِهِ، وَيُجَادِلُ بِلِسَانِهِ، فَذَلِكَ إِبَانَتُهُ، وَعَنَى بِالْإِنْسَانِ: جَمِيعَ النَّاسِ، أُخْرِجَ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْجَمِيعِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ حُجَجِهِ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مَا خَلَقَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ، فَسَخَّرَهَا لَكُمْ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا مَلَابِسَ تُدْفَئُونَ بِهَا، وَمَنَافِعَ مِنْ أَلْبَانِهَا، وَظُهُورِهَا تَرْكَبُونَهَا {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} يَقُولُ: وَمِنَ الْأَنْعَامِ مَا تَأْكُلُونَ لَحْمَهُ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَسَائِرِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَحُذِفَتْ مَا مِنَ الْكَلَامِ لِدَلَالَةِ مَنْ عَلَيْهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، وَعَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: الْمُثَنَّى أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ دَاوُدَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَهُ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} يَقُولُ: الثِّيَابُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ. {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} يَعْنِي بِالدِّفْءِ: الثِّيَابَ، وَالْمَنَافِعَ: مَا يُنْفَعُونَ بِهِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} قَالَ: لِبَاسٌ يُنْسَجُ، وَمِنْهَا مَرْكَبٌ وَلَبَنٌ وَلَحْمٌ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} لِبَاسٌ يُنْسَجُ وَمَنَافِعُ، مَرْكَبٌ وَلَحْمٌ وَلَبَنٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَهُ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} قَالَ: نَسَلُ كُلِّ دَابَّةٍ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ بِإِسْنَادِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} يَقُولُ: لَكُمْ فِيهَا لِبَاسٌ وَمَنْفَعَةٌ وَبِلُغَةٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} قَالَ: هُوَ مَنَافِعُ وَمَآكِلُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} قَالَ: دِفْءٌ اللُّحُفُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ مِنْهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: بَلَغَنِي، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} قَالَ: نِتَاجُهَا وَرُكُوبُهَا وَأَلْبَانُهَا وَلُحُومُهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَكُمْ فِي هَذِهِ الْأَنْعَامِ وَالْمَوَاشِي الَّتِي خَلَقَهَا لَكُمْ {جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ} يَعْنِي: تَرُدُّونَهَا بِالْعَشِيِّ مِنْ مَسَارِحِهَا إِلَى مَرَاحِهَا وَمَنَازِلِهَا الَّتِي تَأْوِي إِلَيْهَا وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْمَكَانُ الْمَرَاحُ، لِأَنَّهَا تُرَاحُ إِلَيْهِ عَشِيًّا فَتَأْوِي إِلَيْهِ، يُقَالُ مِنْهُ: أَرَاحَ فُلَانٌ مَاشِيَتَهُ فَهُوَ يُرِيحُهَا إِرَاحَةً، وَقَوْلُهُ {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} يَقُولُ: وَفِي وَقْتِ إِخْرَاجِكُمُوهَا غَدْوَةً مِنْ مَرَاحِهَا إِلَى مَسَارِحِهَا، يُقَالُ مِنْهُ: سَرَّحَ فُلَانٌ مَاشِيَتَهُ يُسَرِّحُهَا تَسْرِيحًا، إِذَا أَخْرَجَهَا لِلرَّعْيِ غَدْوَةً، وَسَرَحَتِ الْمَاشِيَةُ: إِذَا خَرَجَتْ لِلْمَرْعَى تَسْرَحُ سَرَحَا وَسُرُوحًا، فَالسَّرْحُ بِالْغَدَاةِ، وَالْإِرَاحَةُ بِالْعَشِيِّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: كَـأَنَّ بَقَايَـا الْأُتْـنِ فَـوْقَ مُتُونِـهِ *** مَـدَبُّ الـدُّبَى فَـوْقَ النَّقَا وَهْوَ سَارِحُ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} وَذَلِكَ أَعْجَبُ مَا يَكُونُ إِذَا رَاحَتْ عِظَامًا ضُرُوعُهَا، طِوَالًا أَسْنِمَتُهَا، وَحِينَ تَسْرَحُونَ إِذَا سَرَحَتْ لِرَعْيِهَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} قَالَ: إِذَا رَاحَتْ كَأَعْظَمِ مَا تَكُونُ أَسْنِمَةً، وَأَحْسَنِ مَا تَكُونُ ضُرُوعًا. وَقَوْلُهُ {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} يَقُولُ: وَتَحْمِلُ هَذِهِ الْأَنْعَامُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ لَمْ تَكُونُوا بَالِغَيْهِ إِلَّا بِجُهْدٍ مِنْ أَنْفُسِكُمْ شَدِيدٍ، وَمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ. كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا شَرِيكٌ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} قَالَ: لَوْ تُكَلَّفُونَهُ لَمْ تَبْلُغُوهُ إِلَّا بِجُهْدٍ شَدِيدٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ {إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} قَالَ: لَوْ كُلِّفْتُمُوهُ لَمْ تَبْلُغُوهُ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا الْحُمَّانِيُّ، قَالَ: ثنا شَرِيكٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ {إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} قَالَ: الْبَلَدُ: مَكَّةَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ {إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} قَالَ: مَشَقَّةٌ عَلَيْكُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} يَقُولُ: بِجُهْدِ الْأَنْفُسِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، بِنَحْوِهِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ بِكَسْرِ الشِّينِ {إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} سِوَى أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِئِ، فَإِنَّ الْمُثَنَّى حَدَّثَنِي، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَمَّادٍ، قَالَ: ثني أَبُو سَعِيدٍ الرَّازِيُّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَارِئِ الْمَدِينَةِ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ " {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِ الْأَنْفُسِ} " بِفَتْحِ الشِّينِ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا الشِّقُّ: شِقُّ النَّفْسِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَمَّادٍ: وَكَانَ مُعَاذٌ الْهَرَّاءُ يَقُولُ: هِيَ لُغَةٌ، تَقُولُ الْعَرَبُ بِشِقِّ وَبِشَقّ، وَبِرَقٍّ وَبِرِقٍّ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا مَا عَلَيْهِ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ وَهِيَ كَسْرُ الشِّينِ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ وَشُذُوذِ مَا خَالَفَهُ، وَقَدْ يُنْشَدُ هَذَا الْبَيْتُ بِكَسْرِ الشِّينِ وَفَتْحِهَا، وَذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَذِي إبِـلٍ يَسْـعَى وَيَحْسِـبُهَا لَـهُ *** أَخِـي نَصَـبٍ مِـنْ شَـقِّهَا وَدُءُوبِ وَ "مِنْ شَقِّهَا" أَيْضًا بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْعَجَاجِ: أَصْبَحَ مَسْحُولٌ يُوَازِي شَقًّا *** وَ "شَقًّا" بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ "يُوَازِي شَقًّا": يُقَاسِي مَشَقَّةً. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَذْهَبُ بِالْفَتْحِ إِلَى الْمَصْدَرِ مَنْ شَقَقْتُ عَلَيْهِ أَشُقُّ شَقًّا، وَبِالْكَسْرِ إِلَى الِاسْمِ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ قَرَءُوا بِالْكَسْرِ أَرَادُوا إِلَّا بِنَقْصٍ مِنَ الْقُوَّةِ وَذَهَابِ شَيْءٍ مِنْهَا حَتَّى لَا يَبْلُغَهُ إِلَّا بَعْدَ نَقْصِهَا، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ عِنْدَ ذَلِكَ: لَمْ تَكُونُوا بَالِغَيْهِ إِلَّا بِشَقِّ قُوَى أَنْفُسِكُمْ، وَذَهَابِ شَقِّهَا الْآخَرِ، وَيُحْكَى عَنِ الْعَرَبِ: خُذْ هَذَا الشِّقَّ: لِشِقَّةِ الشَّاةِ بِالْكَسْرِ، فَأَمَّا فِي شَقَّتْ عَلَيْكَ شَقًّا فَلَمْ يُحْكَ فِيهِ إِلَّا النَّصْبُ. وَقَوْلُهُ {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ رَبَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ذُو رَأْفَةٍ بِكُمْ، وَرَحْمَةٍ، مِنْ رَحْمَتِهِ بِكُمْ، خَلَقَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِمَنَافِعِكُمْ وَمَصَالِحِكُمْ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَدِلَّةً لَكُمْ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ رَبِّكُمْ وَمَعْرِفَةِ إِلَهِكُمْ، لِتَشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ، فَيَزِيدُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَخَلَقَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لَكُمْ أَيْضًا لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً: يَقُولُ: وَجَعَلَهَا لَكُمْ زِينَةً تَتَزَيَّنُونَ بِهَا مَعَ الْمَنَافِعِ الَّتِي فِيهَا لَكُمْ، لِلرُّكُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَنَصَبَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ عَطْفًا عَلَى الْهَاءِ وَالْأَلْفِ فِي قَوْلِهِ (خَلَقَهَا)، وَنَصْبُ الزِّينَةِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ عَلَى مَا بَيَّنْتُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَاوٌ وَكَأَنَّ الْكَلَامَ: لِتَرْكَبُوهَا زِينَةً، كَانَتْ مَنْصُوبَةً بِالْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا الَّذِي هِيَ بِهِ مُتَّصِلَةٌ، وَلَكِنَّ دُخُولَ الْوَاوِ آذَنَتْ بِأَنَّ مَعَهَا ضَمِيرَ فِعْلٍ، وَبِانْقِطَاعِهَا عَنِ الْفِعْلِ الَّذِي قَبْلَهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} قَالَ: جَعَلَهَا لِتَرْكَبُوهَا، وَجَعَلَهَا زِينَةً لَكُمْ، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلُ الْعِلْمِ يَرَى أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةً عَلَى تَحْرِيمِأَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثنا أَبُو ضَمْرَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} قَالَ: هَذِهِ لِلرُّكُوبِ. {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} قَالَ: هَذِهِ لِلْأَكْلِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: ثنا هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مَوْلَى نَافِعِ بْنِ عَلْقَمَةَ: أَنَّابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَكْرَهُ لُحُومَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَكَانَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} فَهَذِهِ لِلْأَكْلِ، {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} فَهَذِهِ لِلرُّكُوبِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لُحُومِ الْخَيْلِ، فَكَرِهَهَا وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا}... الْآيَةَ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لُحُومِ الْخَيْلِ، فَقَالَ: اقْرَأِ الَّتِي قَبْلَهَا {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} فَجَعَلَ هَذِهِ لِلْأَكْلِ، وَهَذِهِ لِلرُّكُوبِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي غَنِيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَكَمِ {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} فَجَعَلَ مِنْهُ الْأَكْلَ. ثُمَّ قَرَأَ حَتَّى بَلَغَ {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} قَالَ: لَمْ يُجْعَلْ لَكُمْ فِيهَا أَكْلًا. قَالَ: وَكَانَ الْحَكَمُ يَقُولُ: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ حَرَامٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي غَنِيَّةَ، عَنِ الْحَكَمِ، قَالَ: لُحُومُ الْخَيْلِ حَرَامٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ}... إِلَى قَوْلِهِ {لِتَرْكَبُوهَا}. وَكَانَ جَمَاعَةَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُخَالِفُونَهُمْ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ، وَيَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى تَحْرِيمِ شَيْءٍ، وَأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا عَرَّفَ عِبَادَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَسَائِرِ مَا فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ وَنَبَّهَهُمْ بِهِ عَلَى حُجَجِهِ عَلَيْهِمْ، وَأَدِلَّتِهِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَخَطَأِ فِعْلِ مَنْ يُشْرِكُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ. ذِكْرُ بَعْضِ مَنْ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا بِأَكْلِ لَحْمِ الْفَرَسِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ: أَنَّهُ أَكَلَ لَحْمَ الْفَرَسِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: نَحَرَ أَصْحَابُنَا فَرَسًا فِي النَّجْعِ وَأَكَلُوا مِنْهُ، وَلَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا مَا قَالَهُ أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّانِي، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ (لِتَرْكَبُوهَا) دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ، إِذْ كَانَتْ لِلرُّكُوبِ- لِلْأَكْلِ لَكَانَ فِي قَوْلِهِ {فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} دَلَالَة عَلَى أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ إِذْ كَانَتْ لِلْأَكْلِ وَالدِّفْءِ- لِلرُّكُوبِ. وَفِي إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ رُكُوبَ مَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} جَائِزٌ حَلَالٌ غَيْرُ حَرَامٍ، دَلِيل وَاضِح عَلَى أَنَّ أَكْلَ مَا قَالَ (لِتَرْكَبُوهَا) جَائِزٌ حَلَالٌ غَيْرُ حَرَامٍ، إِلَّا بِمَا نُصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ وُضِعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ دَلَالَةٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ وَحَيٍّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَمَّا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَلَا يَحْرُمُ أَكْلُ شَيْءٍ. وَقَدْ وَضَعَ الدَّلَالَةَ عَلَىتَحْرِيمِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِبِوَحْيهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى الْبِغَالِ بِمَا قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا، كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ مَوَاضِعِ الْبَيَانِ عَنْ تَحْرِيمٍ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مَا ذَكَرْنَا لِيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ لَحْمِ الْفَرَسِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، ثنا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: ثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: «كُنَّا نَأْكُلُ لَحْمَ الْخَيْلِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: فَالْبِغَالُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبِغَالُ فَلَا». وَقَوْلُهُ {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَيَخْلُقُ رَبُّكُمْ مَعَ خَلْقِهِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي ذَكَرَهَا لَكُمْ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِمَّا أَعَدَّ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِهَا وَفِي النَّارِ لِأَهْلِهَا مِمَّا لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ وَلَا سَمِعَتْهُ أُذُنٌ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَعَلَى اللَّهِ أَيُّهَا النَّاسُ بَيَانُ طَرِيقِ الْحَقِّ لَكُمْ، فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، وَالسَّبِيلُ: هِيَ الطَّرِيقُ، وَالْقَصْدُ مِنَ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: فَصُدَّ عَنْ نَهْجِ الطَّرِيقِ الْقَاصِدِ وَقَوْلُهُ {وَمِنْهَا جَائِرٌ} يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنَ السَّبِيلِ جَائِرٌ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ مُعْوَجٌ، فَالْقَاصِدُ مِنَ السَّبِيلِ: الْإِسْلَامُ، وَالْجَائِرُ مِنْهَا: الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ مَلَلِ الْكُفْرِ كُلُّهَا جَائِرٌ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَقَصْدِهَا، سِوَى الْحَنِيفِيَّةِ الْمُسْلِمَةِ، وَقِيلَ: وَمِنْهَا جَائِرٌ، لِأَنَّ السَّبِيلَ يُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ، فَأُنِّثَتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: وَإِنَّمَا قِيلَ: وَمِنْهَا، لِأَنَّ السَّبِيلَ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهَا لَفْظُ وَاحِدٍ فَمَعْنَاهَا الْجَمْعُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}يَقُولُ: الْبَيَانُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} يَقُولُ: عَلَى اللَّهِ الْبَيَانُ، أَنْ يُبَيِّنَ الْهُدَى وَالضَّلَالَةَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ. قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٍ وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} قَالَ: طَرِيقُ الْحَقِّ عَلَى اللَّهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} يَقُولُ: عَلَى اللَّهِ الْبَيَانُ، بَيَانُ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ وَطَاعَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} قَالَ: السَّبِيلُ: طَرِيقُ الْهُدَى. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} قَالَ: إِنَارَتُهَا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} يَقُولُ: عَلَى اللَّهِ الْبَيَانُ، يُبَيِّنُ الْهُدَى مِنَ الضَّلَالَةِ، وَيُبَيِّنُ السَّبِيلَ الَّتِي تَفَرَّقَتْ عَنْ سُبُلِهِ، وَمِنْهَا جَائِرٌ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَمِنْهَا جَائِرٌ}: أَيْ مِنَ السُّبُلِ، سُبُلِ الشَّيْطَانِ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: "وَمِنْكُمْ جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ". حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {وَمِنْهَا جَائِرٌ} قَالَ: فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "وَمِنْكُمْ جَائِرٌ". حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ {وَمِنْهَا جَائِرٌ} يَعْنِي: السُّبُلَ الْمُتَفَرِّقَةَ. حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ {وَمِنْهَا جَائِرٌ} يَقُولُ: الْأَهْوَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثنا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {وَمِنْهَا جَائِرٌ} يَعْنِي السُّبُلَ الَّتِي تَفَرَّقَتْ عَنْ سَبِيلِهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ {وَمِنْهَا جَائِرٌ} السُّبُلُ الْمُتَفَرِّقَةُ عَنْ سَبِيلِهِ. حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَمِنْهَا جَائِرٌ} قَالَ: مِنَ السُّبُلِ جَائِرٌ عَنِ الْحَقِّ قَالَ: قَالَ اللَّهُ {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}. وَقَوْلُهُ {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} يَقُولُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَلَطَفَ بِجَمِيعِكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِتَوْفِيقِهِ، فَكُنْتُمْ تَهْتَدُونَ وَتَلْزَمُونَ قَصْدَ السَّبِيلِ، وَلَا تَجُورُونَ عَنْهُ، فَتَتَفَرَّقُونَ فِي سُبُلٍ عَنِ الْحَقِّ جَائِرَةٍ. كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} قَالَ: لَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ لَقَصْدِ السَّبِيلِ، الَّذِي هُوَ الْحَقُّ، وَقَرَأَ {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} الْآيَةَ، وَقَرَأَ {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}... الْآيَةَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ هَذِهِ النِّعَمَ، وَخَلَقَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ وَالْخَيْلَ وَسَائِرَ الْبَهَائِمِ لِمَنَافِعِكُمْ وَمَصَالِحكُمْ، هُوَ الرَّبُّ الَّذِي أَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، يَعْنِي: مَطَرًا لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، شَرَابٌ تَشْرَبُونَهُ، وَمِنْهُ شَرَابُ أَشْجَارِكُمْ، وَحَيَاةُ غُرُوسِكُمْ وَنَبَاتِهَا {فِيهِ تُسِيمُونَ} يَقُولُ: فِي الشَّجَرِ الَّذِي يَنْبُتُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أَنْـزَلَ مِنَ السَّمَاءِ تُسِيمُونَ، تَرْعَوْنَ، يُقَالُ مِنْهُ: أَسَامَ فُلَانٌ إِبِلَهُ يُسِيمُهَا إِسَامَةً، إِذَا أَرْعَاهَا، وَسَوَّمَهَا أَيْضًا يُسَوِّمُهَا، وَسَامَتْ هِيَ: إِذْ رَعَتْ، فَهِيَ تَسُومُ، وَهِيَ إِبِلٌ سَائِمَةٌ وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلْمَوَاشِي الْمُطْلَقَةِ فِي الْفَلَاةِ وَغَيْرِهَا لِلرَّعْيِ، سَائِمَةً. وَقَدْ وَجَّهَ بَعْضُهُمْمَعْنَى السَّوْمِ فِي الْبَيْعِإِلَى أَنَّهُ مِنْ هَذَا، وَأَنَّهُ ذَهَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِيمَا يَنْبَغِي لَهُ مِنْ زِيَادَةِ ثَمَنٍ وَنُقْصَانِهِ، كَمَا تَذْهَبُ سَوَائِمُ الْمَوَاشِي حَيْثُ شَاءَتْ مِنْ مَرَاعِيهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: وَمَشَـى الْقَـوْمُ بِالْعِمَـادِ إِلَـى الْمَـرْ *** عَـى وَأَعْيَـا الْمُسِـيمَ أَيْـنَ الْمَسَـاقُ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنِ النَّضْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ، عَنْ عِكْرِمَةَ {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} قَالَ: تَرْعَوْنَ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُهَيْلٍ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: ثنا قُرَّةُ بْنُ عِيسَى، عَنِ النَّضِرِ بْنِ عَرَبِيٍّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ {فِيهِ تُسِيمُونَ} قَالَ: تَرْعَوْنَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: تَرْعَوْنَ. حَدَّثَنِي بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} يَقُولُ: شَجَرٌ يَرْعَوْنَ فِيهِ أَنْعَامَهُمْ وَشَّاءَهُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {فِيهِ تُسِيمُونَ} قَالَ: تَرْعَوْنَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَأَبُو خَالِدٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ: فِيهِ تَرْعَوْنَ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثنا عُبَيْدٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ (تُسِيمُونَ) يَقُولُ: تَرْعَوْنَ أَنْعَامَكُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ طَلْحَةَ بْن أَبِي طَلْحَةَ الْقَنَّادِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، قَالَ: فِيهِ تَرْعَوْنَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ {شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} يَقُولُ: تَرْعَوْنَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: تَرْعَوْنَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: ثنا سُلَيْمَانُ، قَالَ: ثنا أَبُو هِلَالٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ {شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} قَالَ: تَرْعَوْنَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} قَالَ: تَرْعَوْنَ. قَالَ: الْإِسَامَةُ: الرَّعْيَةُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ: مِثْـلَ ابْـنِ بَزْعَـةَ أَوْ كَـآخَرَ مِثْلِـهِ *** أَوْلَـى لَـكَ ابْـنَ مُسِـيمَةِ الْأَجْمَـالِ قَالَ: يَا ابْنَ رَاعِيَةِ الْأَجْمَالِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِإِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يُنْبِتُ لَكُمْ رَبُّكُمْ بِالْمَاءِ الَّذِي أَنْـزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ زَرْعَكُمْ وَزَيْتُونَكُمْ وَنَخِيلَكُمْ وَأَعْنَابَكُمْ، {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} يَعْنِي مِنْ كُلِّ الْفَوَاكِهِ غَيْرِ ذَلِكَ أَرْزَاقًا لَكُمْ وَأَقْوَاتًا وَإِدَامًا وَفَاكِهَةً، نِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ وَتَفَضَّلَا وَحُجَّةً عَلَى مَنْ كَفَرَ بِهِ مِنْكُمْ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّ فِي إِخْرَاجِ اللَّهِ بِمَا يُنَـزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ مَا وَصَفَ لَكُمْ (لَآيَةً) يَقُولُ: لِدَلَالَةً وَاضِحَةً، وَعَلَامَةً بَيِّنَةً (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) يَقُولُ: لِقَوْمٍ يَعْتَبِرُونَ مَوَاعِظَ اللَّهَ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي حُجَجِهِ، فَيَتَذَكَّرُونَ وَيُنِيبُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مَعَ الَّتِي ذَكَرَهَا قَبْلَ أَنْ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَتَعَاقَبَانِ عَلَيْكُمْ، هَذَا لِتَصَرُّفِكُمْ فِي مَعَاشِكُمْ، وَهَذَا لِسَكَنِكُمْ فِيهِ، {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} لِمَعْرِفَةِ أَوْقَاتِ أَزْمِنَتِكُمْ وَشُهُورِكُمْ وَسِنِينِكُمْ، وَصَلَاحِ مَعَايِشِكُمْ {وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٍ} لَكُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَجْرِي فِي فَلَكِهَا لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ فِي تَسْخِيرِ اللَّهِ ذَلِكَ عَلَى مَا سَخَّرَهُ لِدَلَالَاتٍ وَاضِحَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ حُجَجُ اللَّهِ وَيَفْهَمُونَ عَنْهُ تَنْبِيهَهُ إِيَّاهُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}. يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ} وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا ذَرَأَ: أَيْ مَا خَلَقَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَالثِّمَارِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ} يَقُولُ: وَمَا خَلَقَ لَكُمْ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ مِنَ الدَّوَابِّ، وَمِنَ الشَّجَرِ وَالثِّمَارِ، نِعَمٌ مِنَ اللَّهِ مُتَظَاهِرَةٌ فَاشْكُرُوهَا لِلَّهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: مِنَ الدَّوَابِّ وَالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ، وَنُصِبَ قَوْلُهُ مُخْتَلِفًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ (وَمَا) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْمَعْنَى الَّذِي وَصَفْتُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ حَالًا مِنْ "مَا"، وَالْخَبَرُ دُونَهُ تَامٌّ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ "مَا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَكَانَ الْكَلَامُ مُبْتَدَأٌ مِنْ قَوْلِهِ {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ} لَمْ يَكُنْ فِي مُخْتَلِفٍ إِلَّا الرَّفْعُ، لِأَنَّهُ كَانَ يَصِيرُ مُرَافِعُ "مَا" حِينَئِذٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِي فَعَلَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ بِكُمْ، وَأَنْعَمَ عَلَيْكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ هَذِهِ النِّعَمَ، الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ، وَهُوَ كُلُّ نَهْرٍ، مِلْحًا مَاؤُهُ أَوْ عَذْبًا {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} وَهُوَ السُّمْكُ الَّذِي يُصْطَادُ مِنْهُ. {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} وَهُوَ اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ. كَمَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} قَالَ: مِنْهُمَا جَمِيعًا. {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} قَالَ: هَذَا اللُّؤْلُؤُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} يَعْنِي حِيتَانَ الْبَحْرِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا حَمَّادٌ، عَنْ يَحْيَى، قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ، فَقَالَ: هَلْ فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ صَدَقَةٌ؟ قَالَ: لَا هِيَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ} يَعْنِي السُّفُنَ، {مَوَاخِرَ فِيهِ} وَهِيَ جُمَعُ مَاخِرَةٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ (مَوَاخِرَ) فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَوَاخِرُ: الْمَوَاقِرُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُوسَى الْقَزَّازُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الْوَارِثِ، قَالَ: ثنا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} قَالَ: الْمَوَاقِرُ. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} قَالَ: مَا أُخِذَ عَنْ يَمِينِ السَّفِينَةِ وَعَنْ يَسَارِهَا مِنَ الْمَاءِ، فَهُوَ الْمَوَاخِرُ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ أَبِي مَكِينٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} قَالَ: هِيَ السَّفِينَةُ تَقُولُ بِالْمَاءِ هَكَذَا، يَعْنِي تَشُقُّهُ. وَقَالَ آخَرُونَ فِيهِ مَا حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} قَالَ: تَجْرِي فِيهِ مُتَعَرِّضَةً. وَقَالَ آخَرُونَ فِيهِ، بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} قَالَ: تَمْخُرُ السَّفِينَةُ الرِّيَاحَ، وَلَا تَمْخُرُ الرِّيحَ مِنَ السُّفُنِ إِلَّا الْفَلَكُ الْعِظَامُ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ وَرْقَاءَ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّ الْحَارِثَ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: وَلَا تَمْخُرُ الرِّيَاحَ مِنَ السُّفُنِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ (مَوَاخِرَ) قَالَ: تَمْخُرُ الرِّيحَ. وَقَالَ آخَرُونَ فِيهِ، مَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} تَجْرِي بِرِيحٍ وَاحِدَةٍ، مُقْبِلَةٍ وَمُدْبِرَةٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: تَجْرِي مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً بِرِيحٍ وَاحِدَةٍ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} قَالَ: مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً بِرِيحٍ وَاحِدَةٍ، وَالْمَخْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: صَوْتُ هُبُوبِ الرِّيحِ، إِذَا اشْتَدَّ هُبُوبُهَا، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: صَوْتُ جَرْيِ السَّفِينَةِ بِالرِّيحِ إِذَا عَصَفَتْ وَشَقِّهَا الْمَاءَ حِينَئِذٍ بِصَدْرِهَا، يُقَالُ مِنْهُ: مَخَرَتِ السَّفِينَةُ تَمْخُرُ مَخْرًا وَمُخُورًا، وَهِيَ مَاخِرَةٌ، وَيُقَالُ: امْتَخَرْتُ الرِّيحَ وَتَمَخَّرْتُهَا: إِذَا نَظَرْتُ مِنْ أَيْنَ هُبُوبِهَا وَتَسَمَّعْتُ صَوْتَ هُبُوبِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ وَاصِلٍ مَوْلَى ابْنِ عُيَيْنَةَ. كَانَ يُقَالُ: إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمُ الْبَوْلَ فَلْيَتَمَخَّرَ الرِّيحَ، يُرِيدُ بِذَلِكَ: لِيَنْظُرَ مِنْ أَيْنَ مَجْرَاهَا وَهُبُوبُهَا لِيَسْتَدْبِرَهَا فَلَا تُرْجِعُ عَلَيْهِ الْبَوْلَ وَتَرُدُّهُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلِتَتَصَرَّفُوا فِي طَلَبِ مَعَايِشِكُمْ بِالتِّجَارَةِ سَخَّرَ لَكُمْ. كَمَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} قَالَ: تِجَارَةُ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَقَوْلُهُ {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} يَقُولُ: وَلِتَشْكُرُوا رَبَّكُمْ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ ذَلِكَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا سَخَّرَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي عَدَّدَهَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَيْضًا، أَنْ أَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِي، وَهِيَ جَمْعُ رَاسِيَةٍ، وَهِيَ الثَّوَابِتُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجِبَالِ. وَقَوْلُهُ {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} يَعْنِي: أَنْ لَا تَمِيدَ بِكُمْ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} وَالْمَعْنَى: أَنْ لَا تَضِلُّوا. وَذَلِكَ أَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَرْسَى الْأَرْضَ بِالْجِبَالِ لِئَلَّا يَمِيدَ خَلْقُهُ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهَا، بَلْ وَقَدْ كَانَتْ مَائِدَةً قَبْلَ أَنْ تُرَسَّى بِهَا. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِالْحَسَنِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عِبَّادٍ: أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمُورُ، قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ. مَا هَذِهِ بِمُقِرَّةٍ عَلَى ظَهْرِهَا أَحَدًا، فَأَصْبَحَتْ صُبْحًا وَفِيهَا رَوَاسِيهَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، قَالَ: ثنا حَمَّادٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ قَمَصَتْ، وَقَالَتْ: أَيْ رَبِّ أَتُجْعَلُ عَلَيَّ بَنِي آدَمَ يَعْمَلُونَ عَلَيَّ الْخَطَايَا وَيَجْعَلُونَ عَلَيَّ الْخَبَثَ، قَالَ: فَأَرْسَى اللَّهُ عَلَيْهَا مِنَ الْجِبَالِ مَا تَرَوْنَ وَمَا لَا تَرَوْنَ، فَكَانَ قَرَارُهَا كَاللَّحْمِ يَتَرَجْرَجُ، وَالْمَيْدُ: هُوَ الِاضْطِرَابُ وَالتَّكَفُّؤُ، يُقَالُ: مَادَتِ السَّفِينَةُ تَمِيدُ مَيْدًا: إِذَا تَكَفَّأَتْ بِأَهْلِهَا وَمَالَتْ، وَمِنْهُ الْمَيْدُ الَّذِي يَعْتَرِي رَاكِبَ الْبَحْرِ، وَهُوَ الدُّوَارُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}: أَنْ تُكْفَأَ بِكُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ. قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} قَالَ: الْجِبَالَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ. قَالَ قَتَادَةُ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: لَمَّا خُلِقَتِ الْأَرْضُ كَادَتْ تَمِيدُ، فَقَالُوا: مَا هَذِهِ بِمُقِرَّةٍ عَلَى ظَهْرِهَا أَحَدًا، فَأَصْبَحُوا وَقَدْ خُلِقَتِ الْجِبَالُ، فَلَمْ تَدْرِ الْمَلَائِكَةُ مِمَّ خُلِقَتِ الْجِبَالُ. وَقَوْلُهُ (وَأَنْهَارًا) يَقُولُ: وَجَعَلَ فِيهَا أَنْهَارًا، فَعَطَفَ بِالْأَنْهَارِ عَلَى الرَّوَاسِي، وَأَعْمَلُ فِيهَا مَا أَعْمَلُ فِي الرَّوَاسِي، إِذْ كَانَ مَفْهُومَا مَعْنَى الْكَلَامِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ الرَّاجِزِ: تَسْـمَعُ فِـي أَجْـوَافِهِنَّ صَـوْرَا *** وَفِـي الْيَـدَيْنِ حَشَّـةً وَبَـوْرَا وَالْحَشَّةُ: الْيُبْسُ، فَعَطَفَ بِالْحَشَّةِ عَلَى الصَّوْتِ، وَالْحَشَّةُ لَا تُسْمَعُ، إِذْ كَانَ مَفْهُومًا الْمُرَادُ مِنْهُ وَأَنَّ مَعْنَاهُ وَتَرَى فِي الْيَدَيْنِ حَشَّةً. وَقَوْلُهُ {وَسُبُلًا} وَهِيَ جَمْعُ سَبِيلٍ، كَمَا الطُّرُقُ: جَمْعُ طَرِيقٍ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَجَعَلَ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فِي الْأَرْضِ سُبُلًا وَفِجَاجًا تَسْلُكُونَهَا، وَتَسِيرُونَ فِيهَا فِي حَوَائِجِكُمْ، وَطَلَبِ مَعَايِشِكُمْ رَحْمَةً بِكُمْ، وَنِعْمَةً مِنْهُ بِذَلِكَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ عَمَّاهَا عَلَيْكُمْ لَهَلَكْتُمْ ضَلَالًا وَحَيْرَةً. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ (سُبُلًا) أَيْ طُرُقًا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ (سُبُلًا) قَالَ: طَرَقَا. وَقَوْلُهُ (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) يَقُولُ: لِكَيْ تَهْتَدُوا بِهَذِهِ السُّبُلِ الَّتِي جَعَلَهَا لَكُمْ فِي الْأَرْضِ إِلَى الْأَمَاكِنِ الَّتِي تَقْصِدُونَ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي تُرِيدُونَ، فَلَا تَضِلُّوا وَتَتَحَيَّرُوا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعْنِيِّ بِالْعَلَامَاتِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهَا مَعَالِمُ الطُّرُقِ بِالنَّهَارِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} يَعْنِي بِالْعَلَامَاتِ: مَعَالِمَ الطُّرُقِ بِالنَّهَارِ، وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ بِاللَّيْلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: عُنِيَ بِهَا النُّجُومَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} قَالَ: مِنْهَا مَا يَكُونُ عَلَامَاتٍ، وَمِنْهَا مَا يَهْتَدُونَ بِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثنا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} قَالَ: مِنْهَا مَا يَكُونُ عَلَامَةً، وَمِنْهَا مَا يُهْتَدَى بِهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا قَبِيصَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، مِثْلَهُ. قَالَ الْمُثَنَّى: قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ خَالَفَ قُبَيْصَةُ وَكِيعًا فِي الْإِسْنَادِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} وَالْعَلَامَاتُ: النُّجُومُ، وَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثِ خَصْلَاتٍ: جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَجَعَلَهَا يُهْتَدَى بِهَا، وَجَعَلَهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ. فَمَنْ تَعَاطَى فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ، فَقَدَ رَأْيَهُ وَأَخْطَأَ حَظَّهُ وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ (وَعَلَامَاتٍ) قَالَ النُّجُومُ. وَقَالَ آخَرُونَ: عُنِيَ بِهَا الْجِبَالُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْكَلْبِيِّ (وَعَلَامَاتٍ) قَالَ: الْجِبَالُ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَدَّدَ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ نِعَمِهِ، إِنْعَامَهُ عَلَيْهِمْ بِمَا جُعِلَ لَهُمْ مِنَ الْعَلَامَاتِ الَّتِي يَهْتَدُونَ بِهَا فِي مَسَالِكِهِمْ وَطُرُقِهِمُ الَّتِي يَسِيرُونَهَا، وَلَمْ يُخَصِّصْ بِذَلِكَ بَعْضَ الْعَلَامَاتِ دُونَ بَعْضٍ، فَكُلُّ عَلَّامَةٍ اسْتَدَلَّ بِهَا النَّاسُ عَلَى طُرُقِهِمْ، وَفِجَاجِ سُبُلِهِمْ، فَدَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ (وَعَلَامَاتٍ) وَالطُّرُقُ الْمَسْبُولَةُ: الْمَوْطُوءَةُ، عَلَامَةٌ لِلنَّاحِيَةِ الْمَقْصُودَةِ، وَالْجِبَالُ عَلَامَاتٌ يُهْتَدَى بِهِنَّ إِلَى قَصْدِ السَّبِيلِ، وَكَذَلِكَ النُّجُومُ بِاللَّيْلِ. غَيْرَ أَنَّ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ أَنْ تَكُونَ الْعَلَامَاتُ مِنْ أَدِلَّةِ النَّهَارِ، إِذْ كَانَ اللَّهُ قَدْ فَصَّلَ مِنْهَا أَدِلَّةَ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ أَشْبَهُ وَأَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْخَبَرِ الَّذِي رُوِينَاهُ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْهُ، وَهُوَ أَنَّ الْعَلَامَاتِ مَعَالِمُ الطُّرُقِ وَأَمَارَاتُهَا الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا إِلَى الْمُسْتَقِيمِ مِنْهَا نَهَارًا، وَأَنْ يَكُونَ النَّجْمُ الَّذِي يُهْتَدَى بِهِ لَيْلًا هُوَ الْجَدْيُ وَالْفَرْقَدَانِ، لِأَنَّ بِهَا اهْتِدَاءُ السَّفْرِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ النُّجُومِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: وَجَعَلَ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ عَلَامَاتٍ تَسْتَدِلُّونَ بِهَا نَهَارًا عَلَى طُرُقِكُمْ فِي أَسْفَارِكُمْ. وَنُجُومًا تَهْتَدُونَ بِهَا لَيْلًا فِي سُبُلِكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ هَذِهِ الْخَلَائِقَ الْعَجِيبَةَ الَّتِي عَدَدْنَاهَا عَلَيْكُمْ وَيُنْعِمُ عَلَيْكُمْ هَذِهِ النِّعَمَ الْعَظِيمَةَ، كَمَنْ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَلَا يُنْعِمُ عَلَيْكُمْ نِعْمَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً؟ يَقُولُ: أَتُشْرِكُونَ هَذَا فِي عِبَادَةِ هَذَا؟ يُعَرِّفُهُمْ بِذَلِكَ عِظَمَ جَهْلِهِمْ، وَسُوءِ نَظَرِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَقِلَّةِ شُكْرِهِمْ لِمَنْ أَنْعَمُ عَلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ الَّتِي عَدَّدَهَا عَلَيْهِمْ، الَّتِي لَا يُحْصِيهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ، قَالَ لَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُوَبِّخُهُمْ {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أَيُّهَا النَّاسُ يَقُولُ: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى مَا شَاءَ، وَعَجْزِ أَوْثَانِكُمْ وَضِعْفِهَا وَمَهَانَتِهَا، وَأَنَّهَا لَا تَجْلِبُ إِلَى نَفْسِهَا نَفْعًا وَلَا تَدْفَعُ عَنْهَا ضُرًّا، فَتَعْرِفُوا بِذَلِكَ خَطَأَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ عِبَادَتِكُمُوهَا وَإِقْرَارِكُمْ لَهَا بِالْأُلُوهَةِ؟ كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} وَاللَّهُ هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ، وَهَذِهِ الْأَوْثَانُ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ تُخْلَقُ وَلَا تَخْلُقُ شَيْئًا، وَلَا تَمْلِكُ لِأَهْلِهَا ضُرًّا وَلَا نَفْعًا، قَالَ اللَّهُ {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}. وَقِيلَ {كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} هُوَ الْوَثَنُ وَالصَّنَمُ، وَ"مَنْ" لِذَوِي التَّمْيِيزِ خَاصَّةً، فَجُعِلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِغَيْرِهِمْ لِلتَّمْيِيزِ، إِذْ وَقَعَ تَفْصِيلًا بَيْنَ مَنْ يَخْلُقُ وَمَنْ لَا يَخْلُقُ، وَمَحْكِيٌّ عَنِ الْعَرَبِ: اشْتَبَهَ عَلَيَّ الرَّاكِبُ وَجَمَلُهُ، فَمَا أَدْرَى مَنْ ذَا وَمَنْ ذَا، حَيْثُ جُمِعَا، وَأَحَدُهُمَا إِنْسَانٌ حَسُنَتْ مَنْ فِيهِمَا جَمِيعًا. وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} وَقَوْلُهُ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} لَا تُطِيقُوا أَدَاءَ شُكْرِهَا، {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ لِمَا كَانَ مِنْكُمْ مِنْ تَقْصِيرٍ فِي شُكْرِ بَعْضِ ذَلِكَ إِذَا تُبْتُمْ وَأَنَبْتُمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَاتِّبَّاعِ مَرْضَاتِهِ، رَحِيمٌ بِكُمْ أَنْ يُعَذِّبَكُمْ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِنَابَةِ إِلَيْهِ وَالتَّوْبَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّهُ الَّذِي هُوَ إِلَهُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْ ضَمَائِرِكُمْ فَتُخْفُونَهُ عَنْ غَيْرِكُمْ، فَمَا تُبْدُونَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَجَوَارِحِكُمْ وَمَا تُعْلِنُونَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَجَوَارِحِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ، وَهُوَ مُحْصٍ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَيْكُمْ، حَتَّى يُجَازِيَكُمْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمُحْسِنَ مِنْكُمْ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ مِنْكُمْ بِإِسَاءَتِهِ، وَمُسَائِلُكُمْ عَمَّا كَانَ مِنْكُمْ مِنَ الشُّكْرِ فِي الدُّنْيَا عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْكُمْ فِيهَا الَّتِي أَحْصَيْتُمْ، وَالَّتِي لَمْ تُحْصُوا، وَقَوْلُهُ {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَوْثَانُكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مَنْ دُونِ اللَّهِ أَيُّهَا النَّاسُ آلِهَةً لَا تَخْلُقُ شَيْئًا وَهِيَ تُخْلَقُ، فَكَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا مَا كَانَ مَصْنُوعًا مُدَبَّرًا، لَا تَمْلِكُ لِأَنْفُسِهَا نَفْعًا وَلَا ضَرًّا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيُّهَا النَّاسُ {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} وَجَعَلَهَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمْوَاتًا غَيْرَ أَحْيَاءٍ، إِذْ كَانَتْ لَا أَرْوَاحَ فِيهَا. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} وَهِيَ هَذِهِ الْأَوْثَانُ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ لَا أَرْوَاحَ فِيهَا، وَلَا تَمْلِكُ لِأَهْلِهَا ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَفِي رَفْعِ الْأَمْوَاتِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا لِلَّذَيْنِ، وَالْآخِرُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَقَوْلُهُ (وَمَا يَشْعُرُونَ) يَقُولُ: وَمَا تَدْرِي أَصْنَامُكُمُ الَّتِي تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَتَى تُبْعَثُ، وَقِيلَ: إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ الْكُفَّارُ، أَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَتَى يُبْعَثُونَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَعْبُودُكُمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْكُمُ الْعِبَادَةَ، وَإِفْرَادَ الطَّاعَةِ لَهُ دُونَ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ: مَعْبُودٌ وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ، فَأَفْرِدُوا لَهُ الطَّاعَةَ وَأَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ، وَلَا تَجْعَلُوا مَعَهُ شَرِيكًا سِوَاهُ {فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَالَّذِينَ لَا يُصَدِّقُونَ بِوَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ، وَلَا يُقِرُّونَ بِالْمَعَادِ إِلَيْهِ بَعْدَ الْمَمَاتِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مُسْتَنْكِرَةٌ لِمَا نَقُصُّ عَلَيْهِمْ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ، وَجَمِيلِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ، وَالْأُلُوهَةَ لَيْسَتْ لِشَيْءٍ غَيْرِهِ يَقُولُ: وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عَنْ إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْأُلُوهَةِ، وَالْإِقْرَارِ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، اتِّبَاعًا مِنْهُمْ لِمَا مَضَى عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ أَسْلَافَهُمْ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ {فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ} لِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي مَضَى، وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عَنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}. يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: لَا جَرَمَ حَقًّا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ إِنْكَارِهِمْ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَنْبَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَاعْتِقَادِهِمْ نَكِيرَ قَوْلِنَا لَهُمْ: إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَاسْتِكْبَارِهِمْ عَلَى اللَّهِ، وَمَا يُعْلِنُونَ مِنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَفِرْيَتِهِمْ عَلَيْهِ {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَلَيْهِ أَنْ يُوَحِّدُوهُ وَيَخْلَعُوا مَا دَوَّنَهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ. كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: ثنا مِسْعَرٌ، عَنْ رَجُلٍ: أَنْ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ كَانَ يَجْلِسُ إِلَى الْمَسَاكِينِ، ثُمَّ يَقُولُ {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْـزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مَاذَا أَنْـزَلَ رَبُّكُمْ، أَيُّ شَيْءٍ أَنْـزَلَ رَبُّكُمْ، قَالُوا: الَّذِي أَنْـزَلَ مَا سَطَّرَهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ قَبْلِنَا مِنَ الْأَبَاطِيلِ. وَكَانَ ذَلِكَ كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ {مَاذَا أَنْـزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} يَقُولُ: أَحَادِيثُ الْأَوَّلِينَ وَبَاطِلُهُمْ، قَالَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَانُوا يَقْعُدُونَ بِطَرِيقِ مَنْ أَتَى نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا مَرَّ بِهِمْ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، يُرِيدُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا لَهُمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، يُرِيدُ: أَحَادِيثَ الْأَوَّلِينَ وَبَاطِلَهُمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} يَقُولُ: أَحَادِيثُ الْأَوَّلِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَّا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ لِمَنْ سَأَلَهُمْ، مَاذَا أَنْـزَلَ رَبُّكُمُ الَّذِي أَنْـزَلَ رَبُّنَا فِيمَا يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، لِتَكُونَ لَهُمْ ذُنُوبُهُمُ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا مُقِيمُونَ مِنْ تَكْذِيبِهِمُ اللَّهَ، وَكُفْرِهِمْ بِمَا أَنْـزَلَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ ذُنُوبِ الَّذِينَ يَصُدُّونَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ يُضِلُّونَ يَفْتِنُونَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَقَوْلُهُ {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} يَقُولُ: أَلَا سَاءَ الْإِثْمُ الَّذِي يَأْثَمُونَ، وَالثُّقْلُ الَّذِي يَتَحَمَّلُونَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى، عَنِ ابْنِ نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلَهُ {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وَمِنْ أَوْزَارِ مَنْ أَضَلُّوا احْتِمَالَهُمْ ذُنُوبَ أَنْفُسِهِمْ، وَذُنُوبَ مَنْ أَطَاعَهُمْ، وَلَا يُخَفِّفُ ذَلِكَ عَمَّنْ أَطَاعَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ شَيْئًا. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ. نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ حَمَّلَهُمْ ذُنُوبَ أَنْفُسِهِمْ، وَسَائِرُ الْحَدِيثِ مِثْلُهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} قَالَ: حَمَّلَهُمْ ذُنُوبَ أَنْفُسِهِمْ وَذُنُوبَ مَنْ أَطَاعَهُمْ، وَلَا يُخَفِّفُ ذَلِكَ عَمَّنْ أَطَاعَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ شَيْئًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أَيْ ذُنُوبَهُمْ وَذُنُوبَ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} يَقُولُ: يَحْمِلُونَ ذُنُوبَهُمْ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ {وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} يَقُولُ: يَحْمِلُونَ مَعَ ذُنُوبِهِمُ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} قَالَ: قَالَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " «أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ فَاتُّبِعَ، فَإِنَّ لَهُ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ، وَأَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ فَلَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْء». حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُوِيدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ رَجُلٍ، قَالَ: قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: " أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ يَتَمَثَّلُ لِلْكَافِرِ عَمَلُهُ فِي صُورَةٍ أَقْبَحُ مَا خَلَقَ اللَّهُ وَجْهًا وَأَنْتَنُهُ رِيحًا، فَيَجْلِسُ إِلَى جَنْبِهِ، كُلَّمَا أَفْزَعَهُ شَيْءٌ زَادَهُ فَزَعًا وَكُلَّمَا تَخَوَّفَ شَيْئًا زَادَهُ خَوْفًا، فَيَقُولُ: بِئْسَ الصَّاحِبُ أَنْتَ، وَمَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: وَمَا تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ كَانَ قَبِيحًا، فَلِذَلِكَ تَرَانِي قَبِيحًا، وَكَانَ مُنْتِنًا فَلِذَلِكَ تَرَانِي مُنْتِنًا، طَأْطِئْ إِلَيَّ أَرْكَبَكَ فَطَالَمَا رَكِبْتَنِي فِي الدُّنْيَا، فَيَرْكَبُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُمِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، مَنْ أَرَادَ اتِّبَاعَ دِينِ اللَّهِ، فَرَامُوا مُغَالَبَةَ اللَّهِ بِبِنَاءٍ بَنَوْهُ، يُرِيدُونَ بِزَعْمِهِمُ الِارْتِفَاعَ إِلَى السَّمَاءِ لِحَرْبِ مَنْ فِيهَا، وَكَانَ الَّذِي رَامَ ذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ لَنَا جَبَّارٌ مِنْ جَبَابِرَةِ النَّبَطِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ نُمْرُودُ بْنُ كَنْعَانَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ بُخْتَنَصَّرْ، وَقَدْ ذَكَرْتُ بَعْضَ أَخْبَارِهِمَا فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: ثنا عَمْرٌو، قَالَ: ثنا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: أَمَرَ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ بِإِبْرَاهِيمَ فَأُخْرِجَ، يَعْنِي مِنْ مَدِينَتِهِ، قَالَ: فَلَقِيَ لُوطًا عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ ابْنُ أَخِيهِ، فَدَعَاهُ فَآمَنَ بِهِ، وَقَالَ: إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي، وَحَلَفَ نَمْرُودُ أَنْ يَطْلُبَ إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ، فَأَخَذَ أَرْبَعَةَ أَفْرَاخٍ مِنْ فِرَاخِ النُّسُورِ، فَرَبَّاهُنَّ بِاللَّحْمِ وَالْخُبْزِ حَتَّى كَبِرْنَ وَغَلُظْنَ وَاسْتَعْلَجْنَ، فَرَبَطَهُنَّ فِي تَابُوتٍ، وَقَعَدَ فِي ذَلِكَ التَّابُوتِ ثُمَّ رَفَعَ لَهُنَّ رِجْلًا مِنْ لَحْمٍ، فَطِرْنَ، حَتَّى إِذَا ذَهَبْنَ فِي السَّمَاءِ أَشْرَفَ يَنْظُرُ إِلَى الْأَرْضِ، فَرَأَى الْجِبَالَ تَدِبُّ كَدَبِيبِ النَّمْلِ، ثُمَّ رَفَعَ لَهُنَّ اللَّحْمَ، ثُمَّ نَظَرَ فَرَأَى الْأَرْضَ مُحِيطًا بِهَا بَحْرٌ كَأَنَّهَا فُلْكَةٌ فِي مَاءٍ، ثُمَّ رَفَعَ طَوِيلًا فَوَقَعَ فِي ظُلْمَةٍ، فَلَمْ يَرَ مَا فَوْقَهُ وَمَا تَحْتَهُ، فَفَزِعَ، فَأَلْقَى اللَّحْمَ، فَاتَّبَعَتْهُ مُنْقَضَّاتٌ، فَلَمَّا نَظَرَتِ الْجِبَالُ إِلَيْهِنَّ، وَقَدْ أَقْبَلْنَ مُنْقَضَّاتٍ وَسَمِعَتْ حَفِيفَهُنَّ، فَزِعَتِ الْجِبَالُ، وَكَادَتْ أَنْ تَزُولَ مِنْ أَمْكِنَتِهَا وَلَمْ يَفْعَلْنَ وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "وَإِنْ كَادَ مَكْرُهُمْ". فَكَانَ طَيْرُورَتُهُنَّ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَوُقُوعُهُنَّ بِهِ فِي جَبَلِ الدُّخَانِ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا يُطِيقُ شَيْئًا أَخَذَ فِي بُنْيَانِ الصَّرْحِ، فَبَنَى حَتَّى إِذَا شَيَّدَهُ إِلَى السَّمَاءِ ارْتَقَى فَوْقَهُ يَنْظُرُ، يَزْعُمُ إِلَى إِلَهِ إِبْرَاهِيمَ، فَأَحْدَثَ، وَلَمْ يَكُنْ يُحْدِثُ وَأَخَذَ اللَّهُ بُنْيَانَهُ مِنَ الْقَوَاعِدِ {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} يَقُولُ: مِنْ مَأْمَنِهِمْ، وَأَخَذَهُمْ مِنْ أَسَاسِ الصَّرْحِ، فَتَنَقَّضَ بِهِمْ، فَسَقَطَ، فَتَبَلْبَلَتْ أَلْسُنُ النَّاسِ يَوْمئِذٍ مِنَ الْفَزَعِ، فَتَكَلَّمُوا بِثَلَاثَةٍ وَسَبْعِينَ لِسَانًا، فَلِذَلِكَ سَمِّيَتْ بَابِلَ، وَإِنَّمَا كَانَ لِسَانُ النَّاسِ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي. عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} قَالَ: هُوَ نُمْرُودٌ حِينَ بَنَى الصَّرْحَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: إِنَّ أَوَّلَ جَبَّارٍ كَانَ فِي الْأَرْضِ نُمْرُودٌ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَعُوضَةً فَدَخَلَتْ فِي مَنْخَرِهِ، فَمَكَثَ أَرْبَعَ مِئَةِ سَنَةٍ يُضْرَبُ رَأْسُهُ بِالْمَطَارِقِ، أَرْحَمُ النَّاسِ بِهِ مَنْ جَمَعَ يَدَيْهِ، فَضَرَبَ رَأْسَهُ بِهِمَا، وَكَانَ جَبَّارًا أَرْبَعَ مِئَةِ سَنَةٍ، فَعَذَّبَهُ اللَّهُ أَرْبَعَ مِئَةِ سَنَةٍ كَمُلْكِهِ، ثُمَّ أَمَاتَهُ اللَّهُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ بَنَى صَرْحًا إِلَى السَّمَاءِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ}. وَأَمَّا قَوْلُهُ {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} فَإِنَّ مَعْنَاهُ: هَدَمَ اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنْ أَصْلِهِ، وَالْقَوَاعِدُ: جَمْعُ قَاعِدَةٍ، وَهِيَ الْأَسَاسُ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: هَذَا مَثَلٌ لِلِاسْتِئْصَالِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: إِنَّ اللَّهَ اسْتَأْصَلَهُمْ، وَقَالَ: الْعَرَبُ تَقُولُ ذَلِكَ إِذَا اسْتُؤْصِلَ الشَّيْءُ. وَقَوْلُهُ {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ: أَعَالِي بُيُوتِهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} إِي وَاللَّهِ، لَأَتَاهَا أَمْرُ اللَّهِ مَنْ أَصْلِهَا {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} وَالسَّقْفُ: أَعَالِي الْبُيُوتِ، فَائْتَفَكَتْ بِهِمْ بُيُوتُهُمْ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ وَدَمَّرَهُمْ {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} قَالَ: أَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنْ أُصُولِهِ، فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثنا عِيسَى وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} قَالَ: مَكَرَ نُمْرُودُ بْنُ كَنْعَانَ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِقَوْلِهِ {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} أَنَّ الْعَذَابَ أَتَاهُمْ مِنَ السَّمَاءِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} يَقُولُ: عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ لَمَّا رَأَوْهُ اسْتَسْلَمُوا وَذَلُّوا.
وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: تَسَاقَطَتْ عَلَيْهِمْ سُقُوفُ بُيُوتِهِمْ، إِذْ أَتَى أُصُولَهَا وَقَوَاعِدَهَا أَمْرُ اللَّهِ، فَائْتَفَكَتْ بِهِمْ مَنَازِلُهُمْ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْكَلَامُ الْمَعْرُوفُ مِنْ قَوَاعِدِ الْبُنْيَانِ، وَخَرَّ السَّقْفُ، وَتَوْجِيهُ مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ إِلَى الْأَشْهَرِ الْأَعْرَفِ مِنْهَا، أَوْلَى مِنْ تَوْجِيهِهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَا وُجِدَ إِلَيْهِ سَبِيلٌ {وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَتَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَكَرُوا مِنْ قَبْلِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، عَذَابُ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرُونَ أَنَّهُ أَتَاهُمْ مِنْهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَعَلَ اللَّهُ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ مَكَرُوا الَّذِينَ وَصَفَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمْرَهُمْ مَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، مِنْ تَعْجِيلِ الْعَذَابِ لَهُمْ، وَالِانْتِقَامِ بِكُفْرِهِمْ، وَجُحُودِهِمْ وَحْدَانِيَّتَهُ، ثُمَّ هُوَ مَعَ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُخْزِيهِمْ، فَمُذِلُّهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، وَقَائِلٌ لَهُمْ عِنْدَ وُرُودِهِمْ عَلَيْهِ {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} أَصْلُهُ: مِنْ شَاقَقْتُ فُلَانًا فَهُوَ يُشَاقُّنِي، وَذَلِكَ إِذَا فَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَقْرِيعًا لِلْمُشْرِكِينَ بِعِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ: أَيْنَ شُرَكَائِي؟ يَقُولُ: أَيْنَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ شُرَكَائِيَ الْيَوْمَ، مَا لَهُمْ لَا يَحْضُرُونَكُمْ، فَيَدْفَعُوا عَنْكُمْ مَا أَنَا مُحَلٌّ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، فَقَدْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَتَتَوَلَّوْنَهُمْ، وَالْوَلِيُّ يَنْصُرُ وَلَيَّهُ، وَكَانَتْ مُشَاقَتُهُمُ اللَّهَ فِي أَوْثَانِهِمْ مُخَالَفَتُهُمْ إِيَّاهُ فِي عِبَادَتِهِمْ. كَمَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثني مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} يَقُولُ: تُخَالِفُونِي. وَقَوْلُهُ {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} يَعْنِي: الذِّلَّةَ وَالْهَوَانَ وَالسُّوءَ، يَعْنِي: عَذَابَ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ فَجَحَدَ وَحْدَانِيَّتَهُ {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} يَقُولُ: الَّذِينَ تَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} يَعْنِي: وَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ بِاللَّهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ عَنَى بِذَلِكَ مَنْ قُتِلَ مِنْ قُرَيْشٍ بِبَدْرٍ، وَقَدْ أُخْرِجَ إِلَيْهَا كَرْهًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، قَالَ: ثني سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: كَانَ نَاسٌ بِمَكَّةَ أَقَرُّوا بِالْإِسْلَامِ وَلَمْ يُهَاجِرُوا، فَأُخْرِجَ بِهِمْ كَرْهًا إِلَى بَدْرٍ، فَقُتِلَ بَعْضُهُمْ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}. وَقَوْلُهُ {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ} يَقُولُ: فَاسْتَسْلَمُوا لِأَمْرِهِ، وَانْقَادُوا لَهُ حِينَ عَايَنُوا الْمَوْتَ قَدْ نَـزَلَ بِهِمْ، {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ اُسْتُغْنِيَ بِفَهْمِ سَامِعِيهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ عَنْ ذِكْرِهِ وَهُوَ: قَالُوا مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ، يُخْبِرُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا وَقَالُوا: مَا كُنَّا نَعْصَى اللَّهَ اعْتِصَامًا مِنْهُمْ بِالْبَاطِلِ رَجَاءَ أَنْ يَنْجُوا بِذَلِكَ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ فَقَالَ: بَلْ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ السُّوءَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ ذُو عِلْمٍ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَعَاصِيهِ، وَتَأْتُونَ فِيهَا مَا يُسْخِطُهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، يَقُولُ لِهَؤُلَاءِ الظَّلَمَةِ أَنْفُسِهِمْ حِينَ يَقُولُونَ لِرَبِّهِمْ: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ: اُدْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ، يَعْنِي: طَبَقَاتِ جَهَنَّمَ (خَالِدِينَ فِيهَا) يَعْنِي: مَاكِثِينَ فِيهَا {فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} يَقُولُ: فَلَبِئْسَ مَنْـزِلُ مَنْ تَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ وَلَمْ يُقِرَّ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَيُصَدِّقْ بِوَحْدَانِيَّتِهِ جَهَنَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْـزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًالِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقِيلَ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ، الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ إِيمَانٍ وَتَقْوًى لِلَّهِ {مَاذَا أَنْـزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} يَقُولُ: قَالُوا: أَنْـزَلَ خَيْرًا. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْكُوفِيِّينَ يَقُولُ: إِنَّمَا اخْتَلَفَ الْأَعْرَابُ فِي قَوْلِهِ {قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} وَقَوْلُهُ (خَيْرًا) وَالْمَسْأَلَةُ قَبْلَ الْجَوَابَينَ كِلَيْهِمَا وَاحِدَةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ {مَاذَا أَنْـزَلَ رَبُّكُمْ} لِأَنَّ الْكُفَّارَ جَحَدُوا التَّنْـزِيلَ، فَقَالُوا حِينَ سَمِعُوهُ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ: أَيْ هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَلِمْ يُنْـزِلُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَصَدَّقُوا التَّنْـزِيلَ، فَقَالُوا خَيْرًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَنْـزَلَ خَيْرًا، فَانْتَصَبَ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْخَيْرِ، فَلِهَذَا افْتَرَقَا ثُمَّ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ فَقَالَ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} وَقَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَوْلُهُ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لِلَّذِينِ آمَنُوا بِاللَّهِ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَرَسُولِهِ، وَأَطَاعُوهُ فِيهَا، وَدَعَوْا عِبَادَ اللَّهِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، حَسَنَةٌ، يَقُولُ: كَرَامَةٌ مِنَ اللَّهِ {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} يَقُولُ: وَلِدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ دَارِ الدُّنْيَا، وَكَرَامَةُ اللَّهِ الَّتِي أَعَدَّهَا لَهُمْ فِيهَا أَعْظَمُ مِنْ كَرَامَتِهِ الَّتِي عَجَّلَهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} يَقُولُ: وَلِنِعْمَ دَارُ الَّذِينَ خَافُوا اللَّهَ فِي الدُّنْيَا فَاتَّقُوا عِقَابَهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَتَجَنُّبِ مَعَاصِيهِ دَارُ الْآخِرَةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْـزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} وَهَؤُلَاءِ مُؤْمِنُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ {مَاذَا أَنْـزَلَ رَبُّكُمْ} فَيَقُولُونَ {خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ}: أَيْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَأَمَرُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَحَثُّوا أَهْلَ طَاعَةِ اللَّهِ عَلَى الْخَيْرِ وَدَعَوْهُمْ إِلَيْهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ}. يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بَسَاتِينُ لِلْمُقَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى عَدْنٍ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ (يَدْخُلُونَهَا) يَقُولُ: يَدْخُلُونَ جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَفِي رَفْعِ جَنَّاتٍ أَوْجُهٌ ثَلَاثٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْآخَرُ: بِالْعَائِدِ مِنَ الذَّكْرِ فِي قَوْلِهِ (يَدْخُلُونَهَا) وَالثَّالِثُ: عَلَى أَنْ يَكُونَ خَبَرُ النِّعْمَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى إِذَا جَعَلْتُ خَبَرَ النِّعْمَ: وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ، وَيَكُونُ (يَدْخُلُونَهَا) فِي مَوْضِعِ حَالٍ، كَمَا يُقَالُ: نَعْمَ الدَّارُ دَارٌ تَسْكُنُهَا أَنْتَ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ يَدْخُلُونَهَا، مِنْ صِلَةِ جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَقَوْلُهُ {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} يَقُولُ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا الْأَنْهَارُ {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} يَقُولُ: لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ مَا يَشَاءُونَ مِمَّا تَشْتَهِي أَنْفُسُهُمْ، وَتَلَذُّ أَعْيُنُهُمْ {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} يَقُولُ: كَمَا يَجْزِي اللَّهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِمَا وَصَفَ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّهُ جَزَاهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَذَلِكَ يَجْزِي الَّذِينَ اتَّقَوْهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ، وَهُمْ طَيِّبُونَ بِتَطْيِيبِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِنَظَافَةِ الْإِيمَانِ، وَطُهْرِ الْإِسْلَامِ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ وَحَالِ مَمَاتِهِمْ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثنا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثني عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثنا الْحَسَنُ، قَالَ: ثنا وَرْقَاءُ وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ وَرْقَاءَ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ} قَالَ: أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، قَدَّرَ اللَّهُ ذَلِكَ لَهُمْ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. وَقَوْلُهُ {يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ} يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقْبِضُ أَرْوَاحَ هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ، وَهِيَ تَقُولُ لَهُمْ: سَلَامُ عَلَيْكُمْ صُيِّرُوا إِلَى الْجَنَّةِ بِشَارَةً مِنَ اللَّهِ تُبَشِّرُهُمْ بِهَا الْمَلَائِكَةُ. كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ يَقُولُ: إِذَا اسْتَنْقَعَتْ نَفْسُ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ جَاءَهُ مَلِكٌ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَلِيَّ اللَّهِ، اللَّهُ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، ثُمَّ نَـزَعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ}... إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ {فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} قَالَ: الْمَلَائِكَةُ يَأْتُونَهُ بِالسَّلَامِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، وَتُخْبِرُهُ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثنا الْأَشَبُّ أَبُو عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: قَوْلُهُ {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} قَالَ: يُسَلِّمُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَوْلُهُ {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يَقُولُ: بِمَا كُنْتُمْ تُصِيبُونَ فِي الدُّنْيَا أَيَّامَ حَيَاتِكُمْ فِيهَا طَاعَةَ اللَّهِ، طَلَبَ مَرْضَاتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَلْ يَنْتَظَرُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ لَقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ بِحَشْرِهِمْ لِمَوْقِفِ الْقِيَامَةِ {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: كَمَا يَفْعَلُ هَؤُلَاءِ مِنَ انْتِظَارِهِمْ مَلَائِكَةَ اللَّهِ لَقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، أَوْ إِتْيَانِ أَمْرِ اللَّهِ فَعَلَ أَسْلَافُهُمْ مِنَ الْكَفَرَةِ بِاللَّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي كُلِّ مُشْرِكٍ بِاللَّهِ {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ بِإِحْلَالِ سُخْطِهِ، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بِمَعْصِيَتِهِمْ رَبِّهِمْ وَكُفْرِهِمْ بِهِ، حَتَّى اسْتَحَقُّوا عِقَابَهُ، فَعَجَّلَ لَهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ}قَالَ: بِالْمَوْتِ، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} وَهُوَ مَلَكُ الْمَوْتِ، وَلَهُ رُسُلٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} ذَاكُمْ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: ثنا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} يَقُولُ: عِنْدَ الْمَوْتِ حِينَ تَتَوَفَّاهُمْ، أَوْ يَأْتِي أَمْرُ رَبِّكَ ذَلِكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَصَابَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَعَلُوا مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فِعْلَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا، يَعْنِي عُقُوبَاتُ ذُنُوبِهِمْ، وَنِقَمُ مَعَاصِيهِمُ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يَقُولُ: وَحَلَّ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَا كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ مِنْهُ، وَيَسْخَرُونَ عِنْدَ إِنْذَارِهِمْ ذَلِكَ رُسُلُ اللَّهِ، وَنَـزَلَ ذَلِكَ بِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍنَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}. قَوْلُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ فَعَبَدُوا الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ مَنْ دُونِ اللَّهِ: مَا نَعْبُدُ هَذِهِ الْأَصْنَامَ إِلَّا لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ رَضِيَ عِبَادَتَنَا هَؤُلَاءِ، وَلَا نَحَرِّمُ مَا حَرَّمْنَا مِنَ الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ شَاءَ مِنَّا وَمِنْ آبَائِنَا تَحْرِيمَنَاهَا وَرَضِيَهُ، لَوْلَا ذَلِكَ لَقَدْ غَيَّرَ ذَلِكَ بِبَعْضِ عُقُوبَاتِهِ أَوْ بِهِدَايَتِهِ إِيَّانَا إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُشْرِكَةِ الَّذِينَ اسْتَنَّ هَؤُلَاءِ سُنَّتَهُمْ، فَقَالُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ، سَلَكُوا سَبِيلَهُمْ فِي تَكْذِيبِ رُسُلِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعِ أَفْعَالِ آبَائِهِمُ الضُّلَّالِ، وَقَوْلُهُ {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَهَلْ أَيُّهَا الْقَائِلُونَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا، عَلَى رُسُلِنَا الَّذِينَ نُرْسِلُهُمْ بِإِنْذَارِكُمْ عُقُوبَتَنَا عَلَى كُفْرِكُمْ، إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ: يَقُولُ: إِلَّا أَنْ تُبَلِّغَكُمْ مَا أُرْسِلْنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الرِّسَالَةِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ (الْمُبِينُ): الَّذِي يُبِينُ عَنْ مَعْنَاهُ لِمَنْ أُبْلِغَهُ، وَيَفْهَمُهُ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَفَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةَ الْمُكَذِّبِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا أَيُّهَا النَّاسُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ سَلَفَتْ قَبْلَكُمْ رَسُولًا كَمَا بَعَثْنَا فِيكُمْ بِأَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَفْرَدُوا لَهُ الطَّاعَةَ، وَأَخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} يَقُولُ: وَابْعُدُوا مِنَ الشَّيْطَانِ، وَاحْذَرُوا أَنْ يُغْوِيَكُمْ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَتَضِلُّوا، {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} يَقُولُ: فَمِمَّنْ بَعَثَنَا فِيهِمْ رُسُلَنَا مِنْ هُدَى اللَّهِ، فَوَفَّقَهُ لِتَصْدِيقِ رُسُلِهِ، وَالْقَبُولِ مِنْهَا، وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، فَفَازَ وَأَفْلَحَ، وَنَجَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} يَقُولُ: وَمِمَّنْ بَعَثْنَا رُسُلَنَا إِلَيْهِ مِنَ الْأُمَمِ آخَرُونَ حَقَّتْ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ، فَجَارُوا عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، فَكَفَرُوا بِاللَّهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَاتَّبَعُوا الطَّاغُوتَ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ، وَأَنْـزَلَ عَلَيْهِمْ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يَرُدُّ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، {فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةَ الْمُكَذِّبِينَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ: إِنْ كُنْتُمْ أَيُّهَا النَّاسُ غَيْرَ مُصَدِّقِي رَسُولِنَا فِيمَا يُخْبِرُكُمْ بِهِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأُمَمِ الَّذِينَ حَلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ مِنْ بَأْسِنَا بِكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ الَّتِي كَانُوا يَسْكُنُونَهَا، وَالْبِلَادِ الَّتِي كَانُوا يُعَمِّرُونَهَا، فَانْظُرُوا إِلَى آثَارِ اللَّهِ فِيهِمْ، وَآثَارِ سُخْطِهِ النَّازِلِ بِهِمْ، كَيْفَ أَعْقَبَهُمْ تَكْذِيبُهُمْ رُسُلَ اللَّهِ مَا أَعْقَبَهُمْ، فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَ حَقِيقَةَ ذَلِكَ، وَتَعْلَمُونَ بِهِ صِحَّةَ الْخَبَرِ الَّذِي يُخْبِرُكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ تَحْرِصْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هُدَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ}. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} بِفَتْحِ الْيَاءِ مَنْ يَهْدِي، وَضَمِّهَا مَنْ يُضِلُّ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ قَارِئُوهُ كَذَلِكَ، فَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَزْعُمُ أَنَّ مَعْنَاهُ: فَإِنَّ اللَّهَ مَنْ أَضَلَّهُ لَا يَهْتَدِي، وَقَالَ: الْعَرَبُ تَقُولُ: قَدْ هَدَى الرَّجُلُ: يُرِيدُونَ قَدِ اهْتَدَى، وَهَدَى وَاهْتَدَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَكَانَ آخَرُونَ مِنْهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَعْنَاهُ: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ أَضِلُّهُ، بِمَعْنَى: أَنَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِيهِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُهْدَى} بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ يَهْدِي وَمِنْ يُضِلُّ، وَفَتْحِ الدَّالِ مِنْ يَهْدِي بِمَعْنَى: مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ. وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ يَهْدِي بِمَعْنَى يَهْتَدِي قَلِيلٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ غَيْرُ مُسْتَفِيضٍ، وَأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي قَوْلِ قَائِلٍ: مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَلَا يَهْدِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ، وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالْقِرَاءَةُ بِمَا كَانَ مُسْتَفِيضًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ اللُّغَةِ بِمَا فِيهِ الْفَائِدَةُ الْعَظِيمَةُ أَوْلَى وَأَحْرَى. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا: إِنْ تَحْرِصْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هُدَاهُمْ، فَإِنَّ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، فَلَا تُجْهِدْ نَفْسَكَ فِي أَمْرِهِ، وَبَلِّغْهُ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ لِتَتِمَّ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} يَقُولُ: وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرٍ يَنْصُرُهُمْ مِنَ اللَّهِ إِذَا أَرَادَ عُقُوبَتَهُمْ، فَيَحُولُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ مَا أَرَادَ مِنْ عُقُوبَتِهِمْ. وَفِي قَوْلِهِ (إِنْ تَحْرِصْ) لُغَتَانِ: فَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ: حَرَصَ، يَحْرِصُ بِفَتْحِ الرَّاءِ فِي فَعَلَ وَكَسْرِهَا فِي يَفْعَلُ، وَحَرِصَ يَحْرَصُ بِكَسْرِ الرَّاءِ فِي فَعِلَ وَفَتْحِهَا فِي يَفْعَلُ، وَالْقِرَاءَةُ عَلَى الْفَتْحِ فِي الْمَاضِي، وَالْكَسْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ.
|