الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اِخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلٍ ذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}، اِعْتِرَاضٌ بِهِ فِي وَسَطِ الْكَلَامِ، خَبَرًا مِنَ اللَّهِ عَنْ أَنَّ الْبَيَانَ بَيَانُهُ وَالْهُدَى هُدَاهُ. قَالُوا: وَسَائِرُ الْكَلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَّصِلٌ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ، خَبَرًا عَنْ قِيلِ الْيَهُودِ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُمْ: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، وَلَا تُؤْمِنُوا أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، أَوْ أَنْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَيْ: وَلَا تُؤْمِنُوا أَنْ يُحَاجَّكُمْ أَحَدٌ عِنْدَ رَبِّكُمْ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ، يَا مُحَمَّدُ: {إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}، وَ"إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ".
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ}، حَسَدًا مَنْ يَهُودَ أَنْ تَكُونَ النُّبُوَّةُ فِي غَيْرِهِمْ، وَإِرَادَةَ أَنْ يُتَّبَعُوا عَلَى دِينِهِمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: تَأْوِيلُ ذَلِكَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ: {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}، إِنَّ الْبَيَانَ بَيَانُ اللَّهُ "أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ)، قَالُوا: وَمَعْنَاهُ: لَا يُؤْتَى أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، كَمَا قَالَ: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [سُورَةَ النِّسَاءِ: 176]، بِمَعْنَى: لَا تَضِلُّونَ، وَكَقَوْلِهِ: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} [سُورَةَ الشُّعَرَاءِ: 2201]، يَعْنِي: أَنْ لَا يُؤْمِنُوا "مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ)، يَقُولُ: مِثْلَ مَا أُوتِيتَ، أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، وَأُمَّتُكَ مِنَ الْإِسْلَامِ وَالْهُدَى "أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ)، قَالُوا: وَمَعْنَى"أَوْ": "إِلَّا)، أَيْ: إِلَّا أَنْ"يُحَاجُّوكُمْ)، يَعْنِي: إِلَّا أَنْ يُجَادِلُوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ عِنْدَ مَا فَعَلَ بِهِمْ رَبُّكُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ}، يَقُولُ، مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ يَا أَمَةَ مُحَمَّدٍ {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ}، تَقُولُ الْيَهُودُ: فَعَلَ اللَّهُ بِنَا كَذَا وَكَذَا مِنَ الْكَرَامَةِ، حَتَّى أَنْـزَلَ عَلَيْنَا الْمَنَّ وَالسَّلْوَى فَإِنَّ الَّذِي أَعْطَيْتُكُمْ أَفْضَلُ فَقُولُوا: {إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}، الْآيَةَ. فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، جَمِيعُ هَذَا الْكَلَامِ، [أَمْرٌ] مِنَ اللَّهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ لِلْيَهُودِ، وَهُوَ مُتَلَاصِقٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ لَا اِعْتِرَاضَ فِيهِ. وَ "الهُدَى" الثَّانِي رَدٌّ عَلَى "الهُدَى" الْأَوَّلِ، وَ"أَنْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ عَنِ "الهُدَى". وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذَا أَمَرٌ مِنَ اللَّهِ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَهُ لِلْيَهُودِ. وَقَالُوا: تَأْوِيلُهُ: "قُلْ" يَا مُحَمَّدُ {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ} " مِنَ النَّاسِ"مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ)، يَقُولُ: مِثْلَ الَّذِي أُوتِيتُمُوهُ أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَمِثْلَ نَبِيِّكُمْ، فَلَا تَحْسُدُوا الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَعْطَيْتُهُمْ، مِثْلَ الَّذِي أَعْطَيْتُكُمْ مِنْ فَضْلِي، فَإِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِي أُوتِيِهِ مَنْ أَشَاءُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ}، يَقُولُ: لَمَّا أَنْـزَلَ اللَّهُ كِتَابًا مِثْلَ كِتَابِكُمْ، وَبَعَثَ نَبِيًّا مِثْلَ نَبِيِّكُمْ، حَسَدْتُمُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ}، الْآيَةَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ تَأْوِيلُ ذَلِكَ: "قُلْ" يَا مُحَمَّدُ: {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} " أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. قَالُوا: وَهَذَا آخِرُ الْقَوْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يَقُولَهُ لِلْيَهُودِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالُوا: وَقَوْلُهُ: "أَوْ يُحَاجُّوكُمْ)، مَرْدُودٌ عَلَى قَوْلِهِ: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ}. وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ- عَلَى قَوْلِ أَهْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ-: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، فَتَتْرُكُوا الْحَقَّ: أَنَّ يُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ مَنْ اِتَّبَعْتُمْ دِينَهُ فَاخْتَرْتُمُوهُ: أَنَّهُ مُحِقٌّ، وَأَنَّكُمْ تَجِدُونَ نَعْتَهُ فِي كِتَابِكُمْ. فَيَكُونُ حِينَئِذٍ قَوْلُهُ: "أَوْ يُحَاجُّوكُمْ" مَرْدُودًا عَلَى جَوَابِ نَهْيٍ مَتْرُوكٍ، عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ قَوْلَهُ: {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ}، يَقُولُ: هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ: أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ "أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ)، قَالَ: قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تُخْبِرُوهُمْ بِمَا بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمْ فِي كِتَابِهِ، لِيُحَاجُّوكُمْ قَالَ: لِيُخَاصِمُوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}. [قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}] مُعْتَرَضًا بِهِ، وَسَائِرُ الْكَلَامِ مُتَّسِقٌ عَلَى سِيَاقٍ وَاحِدٍ. فَيَكُونُ تَأْوِيلُهُ حِينَئِذٍ: وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، وَلَا تُؤْمِنُوا أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ بِمَعْنَى: لَا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ}، بِمَعْنَى: أَوْ أَنْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ........ أَحَدٌ بِإِيمَانِكُمْ، لِأَنَّكُمْ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ بِمَا فَضَّلَكُمْ بِهِ عَلَيْهِمْ. فَيَكُونُ الْكَلَامُ كُلُّهُ خَبَرًا عَنْ قَوْلِ الطَّائِفَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنُوا بِالَّذِي أُنْـزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ} " سِوَى قَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}. ثُمَّ يَكُونُ الْكَلَامُ مُبْتَدَأٌ بِتَكْذِيبِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: "قُلْ)، يَا مُحَمَّدُ، لِلْقَائِلِينَ مَا قَالُوا مِنَ الطَّائِفَةِ الَّتِي وَصَفْتُ لَكَ قَوْلَهَا لِتُبَّاعِهَا مِنَ الْيَهُودِ {إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ}، إِنَّ التَّوْفِيقَ تَوْفِيقُ اللَّهِ وَالْبَيَانَ بَيَانُهُ، "وَإِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ" لَا مَا تَمَنَّيْتُمُوهُ أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ. وَإِنَّمَا اِخْتَرْنَا ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، لِأَنَّهُ أَصَحُّهَا مَعْنًى، وَأَحْسَنُهَا اِسْتِقَامَةً، عَلَى مَعْنَى كَلَامِ الْعَرَبِ، وَأَشَدُّهَا اِتِّسَاقًا عَلَى نَظْمِ الْكَلَامِ وَسِيَاقِهِ. وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ، فَانْتِزَاعٌ يَبْعُدُ مِنَ الصِّحَّةِ، عَلَى اِسْتِكْرَاهٍ شَدِيدٍ لِلْكَلَامِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (73] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "قُلْ" يَا مُحَمَّدُ، لِهَؤُلَاءِ الْيَهُودِ الَّذِينَ وَصَفْتُ قَوْلَهُمْ لِأَوْلِيَائِهِمْ {إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ}، إِنَّ التَّوْفِيقَ لِلْإِيمَانِ وَالْهِدَايَةَ لِلْإِسْلَامِ، بِيَدِ اللَّهِ وَإِلَيْهِ، دُونَكُمْ وَدُونَ سَائِرِ خَلْقِهِ "يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ" مِنْ خَلْقِهِ، يَعْنِي: يُعْطِيهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ عِبَادِهِ، تَكْذِيبًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ لِتُبَّاعِهِمْ: "لَا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ". فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لَهُمْ: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيْكُمْ، إِنَّمَا هُوَ إِلَى اللَّهِ الَّذِي بِيَدِهِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا، وَإِلَيْهِ الْفَضْلُ، وَبِيَدِهِ، يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ "وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)، يَعْنِي: وَاللَّهُ ذُو سَعَةٍ بِفَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ "عَلِيمٌ)، ذُو عِلْمٍ بِمَنْ هُوَ مِنْهُمْ لِلْفَضْلِ أَهْلٌ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا اِبْنُ الْمُبَارَكِ قِرَاءَةً، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}، قَالَ: الْإِسْلَامُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [74] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}، "يَفْتَعِلُ" مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "خَصَصْتُ فُلَانًا بِكَذَا، أَخُصُّهُ بِهِ". وَأَمَّا"رَحْمَتُهُ)، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَالْإِسْلَامُ وَالْقُرْآنُ، مَعَ النُّبُوَّةِ، كَمَا:- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}، قَالَ: النُّبُوَّةُ، يَخُصُّ بِهَا مَنْ يَشَاءُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْن أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}، قَالَ: يَخْتَصُّ بِالنُّبُوَّةِ مَنْ يَشَاءُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا سُوِيدٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا اِبْنُ الْمُبَارَكِ قِرَاءَةً، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}، قَالَ: الْقُرْآنُ وَالْإِسْلَامُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ مِثْلَهُ. "وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)، يَقُولُ: ذُو فَضْلٍ يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَى مَنْ أَحَبَّ وَشَاءَ مِنْ خَلْقِهِ. ثُمَّ وَصَفَ فَضْلَهُ بِالْعِظَمِ فَقَالَ: "فَضْلُهُ عَظِيمٌ)، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُشْبِهِهِ فِي عِظَمِ مَوْقِعِهِ مِمَّنْ أَفْضَلَهُ عَلَيْهِ [فَضْلٌ] مِنْ أَفْضَالِ خَلْقِهِ، وَلَا يُقَارِبُهُ فِي جَلَالَةِ خَطَرُهُ وَلَا يُدَانِيهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ- وَهُمُ الْيَهُودُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ- أَهْلُ أَمَانَةٍ يُؤَدُّونَهَا وَلَا يَخُونُونَهَا، وَمِنْهُمُ الْخَائِنُ أَمَانَتَهُ، الْفَاجِرُ فِي يَمِينِهِ الْمُسْتَحِلُّ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ إِخْبَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ: مِنْهُمُ الْمُؤَدِّي أَمَانَتَهُ وَالْخَائِنُهَا؟ قِيلَ: إِنَّمَا أَرَادَ جَلَّ وَعَزَّ بِإِخْبَارِهِ الْمُؤْمِنِينَ خَبَرَهُمْ- عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي كِتَابِهِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ- تَحْذِيرَهُمْ أَنْ يَأْتَمِنُوهُمْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَتَخْوِيفَهُمْ الِاغْتِرَارَ بِهِمْ، لِاسْتِحْلَالِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَمْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِي إِنْ تَأْمَنْهُ، يَا مُحَمَّدُ، عَلَى عَظِيمٍ مِنَ الْمَالِ كَثِيرٍ، يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَلَا يَخُنْكَ فِيهِ، وَمِنْهُمُ الَّذِي إِنْ تَأْمَنْهُ عَلَى دِينَارٍ يَخُنْكَ فِيهِ فَلَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، إِلَّا أَنْ تُلِحَّ عَلَيْهِ بِالتَّقَاضِي وَالْمُطَالَبَةِ. وَ "البَاءُ" فِي قَوْلِهِ: "بِدِينَارٍ" وَ"عَلَى" يَتَعَاقَبَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، كَمَا يُقَالُ: "مَرَرْتُ بِهِ، وَمَرَرْتُ عَلَيْهِ". وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: "إِلَّا مَا دُمْتَ لَهُ مُتَقَاضِيًا".
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلَهُ: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}، إِلَّا مَا طَلَبْتَهُ وَاتَّبَعْتَهُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}، قَالَ: تَقْتَضِيهِ إِيَّاهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}، قَالَ: مُوَاظِبًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: {إِلَّا مَا دُمْتَ قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ}.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}، يَقُولُ: يَعْتَرِفُ بِأَمَانَتِهِ مَا دُمْتَ قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا قُمْتَ ثُمَّ جِئْتَ تَطْلُبُهُ كَافَرَكَ الَّذِي يُؤَدِّي، وَالَّذِي يَجْحَدُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: "مَعْنَى ذَلِكَ: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا بِالْمُطَالَبَةِ وَالِاقْتِضَاءِ". مِنْ قَوْلِهِمْ: "قَامَ فُلَانٌ بِحَقِّي عَلَى فُلَانٍ حَتَّى اِسْتَخْرَجَهُ لِي)، أَيْ عَمِلَ فِي تَخْلِيصِهِ، وَسَعَى فِي اِسْتِخْرَاجِهِ مِنْهُ حَتَّى اِسْتَخْرَجَهُ. لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِاسْتِحْلَالِهِمْ أَمْوَالَ الْأُمِّيِّينَ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْضِي مَا عَلَيْهِ إِلَّا بِالِاقْتِضَاءِ الشَّدِيدِ وَالْمُطَالِبَةِ. وَلَيْسَ الْقِيَامَ عَلَى رَأْسِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، بِمُوجِبٍ لَهُ النَّقْلَةَ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ اسْتِحْلَالِ مَا هُوَ لَهُ مُسْتَحِلٌّ، وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ- مَعَ اِسْتِحْلَالِهِ الذَّهَابَ بِمَا عَلَيْهِ لِرَبِّ الْحَقِّ- إِلَى اِسْتِخْرَاجِهِ السَّبِيلَ بِالِاقْتِضَاءِ وَالْمُحَاكَمَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ. فَذَلِكَ الِاقْتِضَاءُ، هُوَ قِيَامُ رَبِّ الْمَالِ بِاسْتِخْرَاجِ حَقِّهِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: أَنَّ مَنِ اِسْتَحَلَّ الْخِيَانَةَ مِنَ الْيَهُودِ، وَجُحُودَ حُقُوقِ الْعَرَبِيِّ الَّتِي هِيَ لَهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُؤَدِّ مَا اِئْتَمَنَهُ الْعَرَبِيُّ عَلَيْهِ إِلَّا مَا دَامَ لَهُ مُتَقَاضِيًا مُطَالَبًا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ يَقُولُ: لَا حَرَجَ عَلَيْنَا فِيمَا أَصَبْنَا مِنْ أَمْوَالِ الْعَرَبِ وَلَا إِثْمَ، لِأَنَّهُمْ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ قَوْلِنَا فِيهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ" الْآيَةَ، قَالَتِ الْيَهُودُ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِيمَا أَصَبْنَا مِنْ أَمْوَالِ الْعَرَبِ سَبِيلٌ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}، قَالَ: لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْمُشْرِكِينَ سَبِيلٌ يَعْنُونَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}، قَالَ: يُقَالُ لَهُ: مَا بَالُكَ لَا تُؤَدِّي أَمَانَتَكَ؟ فَيَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْنَا حَرَجٌ فِي أَمْوَالِ الْعَرَبِ، قَدْ أَحَلَّهَا اللَّهُ لَنَا! ! حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: (لَمَّا نَـزَلَتْ {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَبَ أَعْدَاءُ اللَّهِ، مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ، إِلَّا الْأَمَانَةَ، فَإِنَّهَا مُؤَدَّاةٌ إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِر). حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ يَعْقُوبَ الْقُمِّيِّ، عَنْ جَعْفَرٍ، «عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَمَّا قَالَتِ الْيَهُودُ: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}، يَعْنُونَ أَخْذَ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِلَّا وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، إِلَّا الْأَمَانَةَ، فَإِنَّهَا مُؤَدَّاةٌ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ). حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا يَقُولُونَ: لَيْسَ عَلَيْنَا جُنَاحٌ فِيمَا أَصَبْنَا مِنْ هَؤُلَاءِ، لِأَنَّهُمْ أُمِّيُّونَ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}، إِلَى آخَرَ الْآيَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ، مَا:- حَدَّثَنَا بِهِ الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}، قَالَ: بَايَعَ الْيَهُودَ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا تُقَاضَوْهُمْ ثَمَنَ بُيُوعِهِمْ، فَقَالُوا: لَيْسَ لَكُمْ عَلَيْنَا أَمَانَةٌ، وَلَا قَضَاءَ لَكُمْ عِنْدَنَا، لِأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ دِينَكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ عَلَيْهِ! قَالَ: وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ وَجَدُوا ذَلِكَ فِي كِتَابِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. حَدَّثَنَا اِبْنُ وَكِيعٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ صَعْصَعَةَ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّا نَغْزُو أَهْلَ الْكِتَابِ فَنُصِيبُ مِنْ ثِمَارِهِمْ؟ قَالَ: وَتَقُولُونَ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} !! حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ صَعْصَعَةَ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ اِبْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنَّا نُصِيبُ فِي الْغَزْوِ أَوِ: [الْعِذْقِ]، الشَّكُّ مِنَ الْحَسَنِ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الدَّجَاجَةَ وَالشَّاةَ، فَقَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ: فَتَقُولُونَ مَاذَا؟ قَالَ نَقُولُ: لَيْسَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ بَأْسٌ! قَالَ: هَذَا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} "! إِنَّهُمْ إِذَا أَدَّوُا الْجِزْيَةَ لَمْ تَحِلْ لَكُمْ أَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِطيِبِ أَنْفُسِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [75] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّ الْقَائِلِينَ مِنْهُمْ: "لَيْسَ عَلَيْنَا فِي أَمْوَالِ الْأُمِّيِّينَ مِنَ الْعَرَبِ حَرَجٌ أَنْ نَخْتَانَهُمْ إِيَّاهُ)، يَقُولُونَ بِقِيلِهِمْ إِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ لَنَا ذَلِكَ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْنَا فِي خِيَانَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَتَرْكِ قَضَائِهِمْ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ عَامِدِينَ الْإِثْمَ بِقِيلِ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ، إِنَّهُ أَحَلَّ ذَلِكَ لَهُمْ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، كَمَا:- حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: فَيَقُولُ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يَعْلَمُ يَعْنِي الَّذِي يَقُولُ مِنْهُمْ- إِذَا قِيلَ لَهُ: مَا لَكَ لَا تُؤَدِّي أَمَانَتَكَ؟-: لَيْسَ عَلَيْنَا حَرَجٌ فِي أَمْوَالِ الْعَرَبِ، قَدْ أَحَلَّهَا اللَّهُ لَنَا! حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، يَعْنِي: اِدِّعَاءَهُمْ أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي كِتَابِهِمْ قَوْلَهُمْ: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [76] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّنْ أَدَّى أَمَانَتَهُ إِلَى مَنِ اِئْتَمَنَهُ عَلَيْهَا اِتِّقَاءَ اللَّهِ وَمُرَاقَبَتَهَ، عِنْدَهُ. فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْكَاذِبُونَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْيَهُودِ، مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِ الْأُمِّيِّينَ حَرَجٌ وَلَا إِثْمٌ، ثُمَّ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّ مِنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى- يَعْنِي: وَلَكِنَّ الَّذِي أَوْفَى بِعَهْدِهِ، وَذَلِكَ وَصِيَّتُهُ إِيَّاهُمْ الَّتِي أَوْصَاهُمْ بِهَا فِي التَّوْرَاةِ، مِنَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَهُمْ بِهِ. وَ "الهَاءُ" فِي قَوْلِهِ: {مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ}، عَائِدَةٌ عَلَى اِسْمِ "اللَّهِ" فِي قَوْلِهِ: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}. يَقُولُ: بَلَى مِنْ أَوْفَى بِعَهْدِ اللَّهِ الَّذِي عَاهَدَهُ فِي كِتَابِهِ، فَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَّقَ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ إِلَى مَنِ اِئْتَمَنَهُ عَلَيْهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ "وَاتَّقَى)، يَقُولُ: وَاتَّقَى مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ، وَسَائِرِ مَعَاصِيهِ الَّتِي حَرَّمَهَا عَلَيْهِ، فَاجْتَنَبَ ذَلِكَ مُرَاقِبَةَ وَعِيدِ اللَّهِ وَخَوْفَ عِقَابِهِ {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}، يَعْنِي: فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يَتَّقُونَهُ فَيَخَافُونَ عِقَابَهُ وَيَحْذَرُونَ عَذَابَهُ، فَيَجْتَنِبُونَ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ وَحَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ، وَيُطِيعُونَهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هُوَ اِتِّقَاءُ الشِّرْكِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى} " يَقُولُ: اِتَّقَى الشِّرْكَ {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}، يَقُولُ: الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ. وَقَدْ بَيَّنَّا اِخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ وَالصَّوَابَ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ، بِالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا، بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ عَنْ إِعَادَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [77] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَبْدِلُونَ- بِتَرْكِهِمْ عَهْدَ اللَّهِ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْهِمْ، وَوَصِيَّتَهُ الَّتِي أَوْصَاهُمْ بِهَا فِي الْكُتُبِ الَّتِي أَنْـزَلَهَا اللَّهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ، بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ وَتَصْدِيقِهِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- وَبِأَيْمَانِهِمْ الْكَاذِبَةِ الَّتِي يَسْتَحِلُّونَ بِهَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ الَّتِي اِئْتَمَنُوا عَلَيْهَا "ثَمَنًا)، يَعْنِي عِوَضًا وَبَدَلًا خَسِيسًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا وَحُطَامِهَا {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ}، يَقُولُ: فَإِنَّ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لَا حَظَّ لَهُمْ فِي خَيْرَاتِ الْآخِرَةِ، وَلَا نَصِيبَ لَهُمْ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا دُونَ غَيْرِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا اِخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيمَا مَضَى فِي مَعْنَى "الخَلَاقِ)، وَدَلَّلْنَا عَلَى أَوْلَى أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ)، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ بِمَا يَسُرُّهُمْ "وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ)، يَقُولُ: وَلَا يَعْطِفُ عَلَيْهِمْ بِخَيْرٍ، مَقْتًا مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِآخَرَ: "اُنْظُرْ إِلَيَّ نَظَرَ اللَّهِ إِلَيْكَ)، بِمَعْنَى: تَعَطَّفْ عَلَيَّ تَعَطُّفَ اللَّهِ عَلَيْكَ بِخَيْرٍ وَرَحْمَةٍ وَكَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ: "لَا سَمِعَ اللَّهُ لَكَ دُعَاءَكَ)، يُرَادُ: لَا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَكَ، وَاللَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: دَعَـوْتُ اللـهَ حَـتَّى خِـفْتُ أَنْ لَا *** يَكْـونَ اللـهُ يَسْـمَعُ مَـا أَقُـولُ وَقَوْلُهُ "وَلَا يُزَكِّيهِمْ)، يَعْنِي: وَلَا يُطَهِّرُهُمْ مِنْ دَنَسِ ذُنُوبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ "وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، يَعْنِي: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُوجِعٌ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أُنْـزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَمَنْ عُنِيَ بِهَا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَـزَلَتْ فِي أَحْبَارٍ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}، فِي أَبِي رَافِعٍ، وَكِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، وَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَـزَلَتْ فِي الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ وَخَصْمٍ لَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ اِمْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ فَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: فِيَّ وَاللَّهِ كَانَ ذَلِكَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قُلْتُ: لَا! فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: "اِحْلِفْ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إذًا يَحْلِفُ فَيَذْهَبَ مَالِي! فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} " الْآيَةَ. » حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ وَالْعُرْسِ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ، «عَنْ أَبِيهِ عَدِيِّ بْنِ عُمَيْرَةَ قَالَ: كَانَ بَيْنَ اِمْرِئِ الْقَيْسِ وَرَجُلٍ مِنْ حَضْرَمَوْتَ خُصُومَةٌ، فَارْتَفَعَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِلْحَضْرَمِيِّ: "بَيِّنَتَكَ، وَإِلَّا فَيَمِينُهُ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ حَلَفَ ذَهَبَ بِأَرْضِي! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا حَقَّ أَخِيهِ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ. فَقَالَ اِمْرُؤُ الْقَيْسِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا لِمَنْ تَرَكَهَا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا حَقٌّ؟ قَالَ: الْجَنَّةُ. قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ تَرَكْتُهَا قَالَ جَرِيرٌ: فَكُنْتُ مَعَ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ حِينَ سَمِعْنَا هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ عَدِيٍّ، فَقَالَ أَيُّوبُ: إِنَّ عَدِيًّا قَالَ فِي حَدِيثِ الْعُرْسِ بْنِ عُمَيْرَةَ: فَنَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} " إِلَى آخَرِ الْآيَةِ قَالَ جَرِيرٌ: وَلَمْ أَحْفَظْ يَوْمئِذٍ مِنْ عَدِيٍّ). حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ آخَرُونَ: (إِنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ اِخْتَصَمَ هُوَ وَرَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْضٍ كَانَتْ فِي يَدِهِ لِذَلِكَ الرَّجُلِ، أَخَذَهَا لِتَعَزُّزِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَقِمْ بَيِّنَتَكَ. قَالَ الرَّجُلُ: لَيْسَ يَشْهَدُ لِي أَحَدٌ عَلَى الْأَشْعَثِ ! قَالَ: فَلَكَ يَمِينُهُ. فَقَامَ الْأَشْعَثُ لِيَحْلِفَ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ، فَنَكَلَ الْأَشْعَثُ وَقَالَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَأُشْهِدُكُمْ أَنَّ خَصْمِي صَادِقٌ. فَرَدَّ إِلَيْهِ أَرْضَهُ، وَزَادَهُ مَنْ أَرْضِ نَفْسِهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً، مَخَافَةَ أَنْ يَبْقَى فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنْ حَقِّهِ، فَهِيَ لِعَقِبِ ذَلِكَ الرَّجُلِ بَعْدَهُ). حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ شَقِيقٍ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، ثُمَّ أَنْـزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} " الْآيَةَ. ثُمَّ إِنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ خَرَجَ إِلَيْنَا فَقَالَ: مَا حَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا قَالَ، فَقَالَ: صَدَقَ، لَفِيَّ أُنْـزِلَتْ! كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ. فَقُلْتُ: إذًا يَحْلِفْ وَلَا يُبَالِي! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ)، ثُمَّ أَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَصْدِيقَ ذَلِكَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}، الْآيَةَ). وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا:- حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ، أَخْبَرَنِي دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَامِرٍ: أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَتَهُ أَوَّلَ النَّهَارِ، فَلَمَّا كَانَ آخِرَهُ جَاءَ رَجُلٌ يُسَاوِمُهُ، فَحَلَفَ لَقَدْ مَنَعَهَا أَوَّلَ النَّهَارِ مِنْ كَذَا وَكَذَا، وَلَوْلَا الْمَسَاءُ مَا بَاعَهَا بِهِ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِي يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}. حَدَّثَنَا اِبْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} الْآيَةَ، إِلَى: "وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، أَنْـزَلَهُمُ اللَّهُ بِمَنْـزِلَةِ السَّحَرَةِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ كَانَ يَقُولُ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَاجِرَةٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ أَخِيهِ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ لِتَجِدُونِ ذَلِكَ. ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} " الْآيَةَ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْرُوقِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ هِشَامٍ قَالَ، قَالَ مُحَمَّدٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ مَصْبُورَةٍ فَلْيَتَبَوَّأْ بِوَجْهِهِ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ كُلَّهَا: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}. حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: إِنَّ الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ. ثُمَّ تَلَا {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ: كُنَّا نَرَى وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي لَا يُغْفَرُ: يَمِينُ الصَّبْرِ، إِذَا فَجَرَ فِيهَا صَاحِبُهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [78] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا حَوَالَيْ مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَهْدِهِ، مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَ "الهَاءُ وَالْمِيمُ" فِي قَوْلِهِ: "مِنْهُمْ)، عَائِدَةٌ عَلَى"أَهْلِ الْكِتَابِ" الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}. وَقَوْلُهُ "لَفَرِيقًا)، يَعْنِي: جَمَاعَةً "يَلْوُونَ)، يَعْنِي: يُحَرِّفُونَ {أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ}، يَعْنِي: لِتَظُنُّوا أَنَّ الَّذِي يُحَرِّفُونَهُ بِكَلَامِهِمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَتَنْـزِيلِهِ. يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَمَا ذَلِكَ الَّذِي لَوَوْا بِهِ أَلْسِنَتَهُمْ فَحَرَّفُوهُ وَأَحْدَثُوهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَا لَوَوْا بِهِ أَلْسِنَتَهُمْ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ فَأَلْحَقُوهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ "مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، يَقُولُ: مِمَّا أَنْـزَلَهُ اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ "وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، يَقُولُ: وَمَا ذَلِكَ الَّذِي لَوَوْا بِهِ أَلْسِنَتَهُمْ فَأَحْدَثُوهُ، مِمَّا أَنْـزَلَهُ اللَّهُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ أَنْبِيَائِهِ، وَلَكِنَّهُ مِمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ اِفْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ. يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّهُمْ يَتَعَمَّدُونَ قِيلَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ، وَالشَّهَادَةَ عَلَيْهِ بِالْبَاطِلِ، وَالْإِلْحَاقَ بِكِتَابِ اللَّهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، طَلَبًا لِلرِّيَاسَةِ وَالْخَسِيسِ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي مَعْنَى"يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ)، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ}، قَالَ: يُحَرِّفُونَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ}، حَتَّى بَلَغَ: "وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، هُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْيَهُودُ، حَرَّفُوا كِتَابَ اللَّهِ، وَابْتَدَعُوا فِيهِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ}، وَهُمُ الْيَهُودُ، كَانُوا يَزِيدُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَـزِّلَ اللَّهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ}، قَالَ: فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ "يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ)، وَذَلِكَ تَحْرِيفُهُمْ إِيَّاهُ عَنْ مَوْضِعِهِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَصْلُ "اللَّيِّ)، الْفَتْلُ وَالْقَلْبُ. مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "لَوَى فُلَانٌ يَدَ فُلَانٍ)، إِذَا فَتَلَهَا وَقَلَبَهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: لَوَى يَدَهُ اللَّهُ الَّذِي هُوَ غَالِبُهْ *** يُقَالُ مِنْهُ: "لَوَى يَدَهُ وَلِسَانَهُ يَلْوِي لَيًّا" "وَمَا لَوَى ظَهْرَ فُلَانٍ أَحَدٌ)، إِذَا لَمْ يَصْرَعْهُ أَحَدٌ، وَلَمْ يَفْتِلْ ظَهْرَهُ إِنْسَانٌ "وَإِنَّهُ لِأَلْوَى بَعِيدُ الْمُسْتَمِرِّ)، إِذَا كَانَ شَدِيدَ الْخُصُومَةِ، صَابِرًا عَلَيْهَا، لَا يُغْلَبُ فِيهَا، قَالَ الشَّاعِرَ: فَلَـوْ كَـانَ فِـي لَيْلَى شَدًا مِنْ خُصُومَةٍ *** لَلَـوَّيْتُ أَعْنَـاقَ الخُـصُومِ المَلَاوِيَـا
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَمَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ. وَ "البَشَرُ" جَمْعُ بَنِي آدَمَ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ مِثْلُ: (القَوْمِ" وَ "الخَلْقِ". وَقَدْ يَكُونُ اِسْمًا لِوَاحِدٍ {أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} " يَقُولُ: أَنْ يُنَـزِّلَ اللَّهُ عَلَيْهِ كِتَابَهُ "وَالْحُكْمَ" يَعْنِي: وَيُعَلِّمَهُ فَصْلَ الْحِكْمَةِ "وَالنُّبُوَّةَ)، يَقُولُ: وَيُعْطِيَهُ النُّبُوَّةَ {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ}، يَعْنِي: ثُمَّ يَدْعُو النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ دُونَ اللَّهِ، وَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ مَا آتَاهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحُكْمِ وَالنُّبُوَّةِ. وَلَكِنْ إِذَا آتَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا يَدْعُوهُمْ إِلَى الْعِلْمِ بِاللَّهِ، وَيَحْدُوهُمْ عَلَى مَعْرِفَةِ شَرَائِعِ دِينِهِ، وَأَنْ يَكُونُوا رُؤَسَاءَ فِي الْمَعْرِفَةِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، وَأَئِمَّةً فِي طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، بِكَوْنِهِمْ مُعَلِّمِي النَّاسِ الْكِتَابَ، وَبِكَوْنِهِمْ دَارِسِيهِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَـزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَدْعُونَا إِلَى عِبَادَتِكَ؟ كَمَا:- حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، «عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو رَافِعٍ الْقُرَظِيُّ حِينَ اِجْتَمَعَتِ الْأَحْبَارُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ: أَتُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ أَنْ نَعْبُدَكَ، كَمَا تَعْبُدُ النَّصَارَى عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ نَصْرَانِيٌّ يُقَالُ لَهُ الرِّبِّيسُ: أوَذَاكَ تُرِيدُ مِنَّا يَا مُحَمَّدُ، وَإِلَيْهِ تَدْعُونَا! أَوْ كَمَا قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ، أَوْ نَأْمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ! مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي، وَلَا بِذَلِكَ أَمَرَنِي أَوْ كَمَا قَالَ. فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}، الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو رَافِعٍ الْقُرَظِيُّ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولُ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ}، يَقُولُ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، يَأْمُرُ عِبَادَهُ أَنْ يَتَّخِذُوهُ رَبًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. - حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مَنْ يَهُودَ يَتَعَبَّدُونَ النَّاسَ مَنْ دُونِ رَبِّهِمْ، بِتَحْرِيفِهِمْ كِتَابَ اللَّهِ عَنْ مَوْضِعِهِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ}، ثُمَّ يَأْمُرَ النَّاسَ بِغَيْرِ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ: "وَلَكِنْ" يَقُولُ لَهُمْ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}، فَتَرَكَ "القَوْلَ)، اِسْتِغْنَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اِخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: كُونُوا حُكَمَاءَ عُلَمَاءَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}، قَالَ: حُكَمَاءَ عُلَمَاءَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}، قَالَ: حُكَمَاءَ عُلَمَاءَ. حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْروٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}، حُكَمَاءَ عُلَمَاءَ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}، قَالَ: كُونُوا فُقَهَاءَ عُلَمَاءَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}، قَالَ: فُقَهَاءُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ أَخْبَرَنِي الْقَاسِمُ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}، قَالَ: فُقَهَاءَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: " وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ)، قَالَ: كُونُوا فُقَهَاءَ عُلَمَاءَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ فِي قَوْلِهِ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}، قَالَ: عُلَمَاءَ حُكَمَاءَ قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ قَتَادَةُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}، أَمَّا "الرَّبَّانِيُّونَ)، فَالْحُكَمَاءُ الْفُقَهَاءُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ اِبْن ِأَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: (الرَّبَّانِيُّونَ)، الْفُقَهَاءُ الْعُلَمَاءُ، وَهُمْ فَوْقَ الْأَحْبَارِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}، يَقُولُ: كُونُوا حُكَمَاءَ فُقَهَاءَ. حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ قَالَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَّالِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَقِيلٍ فِي قَوْلِهِ: {الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} [سُورَةَ الْمَائِدَةِ: 63]، قَالَ: الْفُقَهَاءُ الْعُلَمَاءُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْمِنْجَابِ قَالَ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي اِبْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْأَشْقَرُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو كُدَيْنَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}، قَالَ: كُونُوا حُكَمَاءَ فُقَهَاءَ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}، يَقُولُ: كُونُوا فُقَهَاءَ عُلَمَاءَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُمُ الْحُكَمَاءُ الْأَتْقِيَاءُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ طَلْحَةَ الْيَرْبُوعِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا فَضِيلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَوْلَهُ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}، قَالَ: حُكَمَاءُ أَتْقِيَاءُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُمْ وُلَاةُ النَّاسِ وَقَادَتُهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبَدِ الْأَعْلَى قَالَ: أَخْبَرَنَا اِبْنُ وَهْبٍ قَالَ، سَمِعْتُ اِبْنَ زَيْدٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}، قَالَ: الرَّبَّانِيُّونَ: الَّذِينَ يُرَبُّونَ النَّاسَ، وُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ، يُرَبُّونَهُمْ: يَلُونَهُمْ. وَقَرَأَ: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} [سُورَةَ الْمَائِدَةِ: 63]، قَالَ: الرَّبَّانِيُّونَ: الْوُلَاةُ، وَالْأَحْبَارُ الْعُلَمَاءُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ فِي "الرَّبَّانِيِّينَ" أَنَّهُمْ جَمْعُ"رَبَّانِيٍّ)، وَأَنْ "الرَّبَّانِيَّ" الْمَنْسُوبَ إِلَى "الرَّبَّانِ)، الَّذِي يَرُبُّ النَّاسَ، وَهُوَ الَّذِي يُصْلِحُ أُمُورَهُمْ، وَ"يُرُبُّهَا)، وَيَقُومُ بِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ: وَكُـنْتُ امْـرَأً أَفْضَـتْ إلَيْـكَ رِبَابَتَيْ *** وَقَبْلَـكَ رَبَّتْنـِي، فَضِعْـتُ، رُبُـوبُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "رَبَّتْنِي": وَلِيَ أَمْرِي وَالْقِيَامَ بِهِ قَبِلَكَ مَنْ يَرُبُّهُ وَيُصْلِحُهُ، فَلَمْ يُصْلِحُوهُ، وَلَكِنَّهُمْ أَضَاعُونِي فَضِعْتُ. يُقَالُ مِنْهُ: "رَبَّ أَمْرِي فُلَانٌ، فَهُوَ يَرُبُّهُ رَبًّا، وَهُوَ رَابُّهُ". فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْمُبَالَغَةَ فِي مَدْحِهِ قِيلَ: "هُوَ رُبَّانُ)، كَمَا يُقَالُ: "هُوَ نَعْسَانُ" مِنْ قَوْلِهِمْ: "نَعَسَ يَنعُسُ". وَأَكْثَرُ مَا يَجِيءُ مِنَ الْأَسْمَاءِ عَلَى"فَعْلَانَ" مَا كَانَ مِنَ الْأَفْعَالِ مَاضِيهُ عَلَى"فَعِلَ" مِثْلَ قَوْلِهِمْ: "هُوَ سَكْرَانُ، وَعَطْشَانُ، وَرَيَّانُ" مَنْ"سَكِرَ يَسْكَرُ، وَعَطِشَ يَعْطَشُ، وَرَوِيَ يَرْوَى". وَقَدْ يَجِيءُ مِمَّا كَانَ مَاضِيهِ عَلَى"فَعَلَ يَفْعُلُ)، نَحْوَ مَا قُلْنَا مِنْ"نَعَسَ يَنعُسُ" وَ"رَبَّ يَرُبُّ". فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَكَانَ "الرَّبَّانُ" مَا ذَكَرْنَا، وَ "الرَّبَّانِيُّ" هُوَ الْمَنْسُوبُ إِلَى مَنْ كَانَ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفْتُ وَكَانَ الْعَالِمُ بِالْفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ مِنْ الْمُصْلِحِينَ، يَرُبُّ أُمُورَ النَّاسِ، بِتَعْلِيمِهِ إِيَّاهُمْ الْخَيْرَ، وَدُعَائِهِمْ إِلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُمْ وَكَانَ كَذَلِكَ الْحَكِيمُ التَّقِيُّ لِلَّهِ، وَالْوَالِيُّ الَّذِي يَلِي أُمُورَ النَّاسِ عَلَى الْمِنْهَاجِ الَّذِي وَلِيَهُ الْمُقْسِطُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ أُمُورَ الْخَلْقِ، بِالْقِيَامِ فِيهِمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ عَاجِلِهِمْ وَآجِلِهِمْ، وَعَائِدَةُ النَّفْعِ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ، وَدُنْيَاهُمْ كَانُوا جَمِيعًا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ [يَكُونُوا] مِمَّنْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ". فَـ "الرَّبَّانِيُّونَ" إِذًا، هُمْ عِمَادُ النَّاسِ فِي الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَأُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَلِذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ: "وَهُمْ فَوْقَ الْأَحْبَارِ)، لِأَنَّ "الأَحْبَارَ" هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَ "الرَّبَّانِيُّ" الْجَامِعُ إِلَى الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ، الْبَصَرَ بِالسِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْقِيَامَ بِأُمُورِ الرَّعِيَّةِ، وَمَا يُصْلِحُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَدِينِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [79] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اِخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ. فَقَرَأَهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ) بِفَتْحِ "التَّاءِ" وَتَخْفِيفِ "اللَّامِ)، يَعْنِي: بِعِلْمِكُمُ الْكِتَابَ وَدِرَاسَتِكُمْ إِيَّاهُ وَقِرَاءَتِكُمْ. وَاعْتَلُّوا لِاخْتِيَارِهِمْ قِرَاءَةَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، بِأَنَّ الصَّوَابَ كَذَلِكَ، لَوْ كَانَ التَّشْدِيدُ فِي "اللَّامِ" وَضَمِّ "التَّاءِ" لَكَانَ الصَّوَابُ فِي: "تَدْرُسُونَ)، بِضَمِّ "التَّاءِ" وَتَشْدِيدِ "الرَّاءِ". وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} بِضَمِّ "التَّاءِ" مِنْ"تُعَلِّمُونَ)، وَتَشْدِيدِ "اللَّامِ)، بِمَعْنَى: بِتَعْلِيمِكُمُ النَّاسَ الْكِتَابَ وَدِرَاسَتِكُمْ إِيَّاهُ. وَاعْتَلَوْا لِاخْتِيَارِهِمْ ذَلِكَ، بِأَنَّ مَنْ وَصَفَهُمْ بِالتَّعْلِيمِ، فَقَدْ وَصَفَهُمْ بِالْعِلْمِ، إِذْ لَا يُعَلِّمُونَ إِلَّا بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِمَا يُعَلِّمُونَ. قَالُوا: وَلَا مَوْصُوفَ بِأَنَّهُ"يُعَلِّمُ)، إِلَّا وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ"عَالِمٌ". قَالُوا: فَأَمَّا الْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ"عَالِمٌ)، فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ مُعَلِّمُ غَيْرِهِ. قَالُوا: فَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ أَبْلَغُهُمَا فِي مَدْحِ الْقَوْمِ، وَذَلِكَ وَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ الْكِتَابَ، كَمَا:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنِ اِبْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَرَأَ: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}، مُخَفَّفَةً بِنَصْبِ "التَّاءِ" وَقَالَ اِبْنُ عُيَيْنَةَ: مَا عَلَّمُوهُ حَتَّى عَلِمُوهُ! قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ بِضَمِّ "التَّاءِ" وَتَشْدِيدِ "اللَّامِ". لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَصَفَ الْقَوْمَ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ عِمَادٍ لِلنَّاسِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَأَهْلُ إِصْلَاحٍ لَهُمْ وَلِأُمُورِهِمْ وَتَرْبِيَةٍ. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}، عَلَى مَا بَيَّنَّا قَبْلُ مِنْ مَعْنَى "الرَّبَّانِيِّ)، ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ صَارُوا أَهْلَ إِصْلَاحٍ لِلنَّاسِ وَتَرْبِيَةٍ لَهُمْ بِتَعْلِيمِهِمْ إِيَّاهُمْ كِتَابَ رَبِّهِمْ. وَ"دِرَاسَتِهِمْ" إِيَّاهُ: تِلَاوَتُهُ. وَقَدْ قِيلَ: "دِرَاسَتُهُمْ)، الْفِقْهَ. وَأَشْبَهُ التَّأْوِيلَيْنِ بِالدِّرَاسَةِ مَا قُلْنَا: مِنْ تِلَاوَةِ الْكِتَابِ، لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: "تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ)، "وَالْكِتَابُ" هُوَ الْقُرْآنُ، فَلَأَنْ تَكُونَ الدِّرَاسَةُ مَعْنِيًّا بِهَا دِرَاسَةَ الْقُرْآنِ، أَوْلَى مِنْ أَنْ تَكُونَ مَعْنِيًّا بِهَا دِرَاسَةَ الْفِقْهِ الَّذِي لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، قَالَ يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالَ، أَبُو زَكَرِيَّا: كَانَ عَاصِمٌ يَقْرَؤُهَا: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ}، قَالَ: الْقُرْآنَ {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}، قَالَ: الْفِقْهَ. فَمَعْنَى الْآيَةِ: وَلَكِنْ يَقُولُ لَهُمْ: كُونُوا، أَيُّهَا النَّاسُ، سَادَةَ النَّاسِ، وَقَادَتَهُمْ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، رَبَّانِيِّينَ بِتَعْلِيمِكُمْ إِيَّاهُمْ كِتَابَ اللَّهِ وَمَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَفَرْضٍ وَنَدْبٍ، وَسَائِرِ مَا حَوَاهُ مِنْ مَعَانِي أُمُورِ دِينِهِمْ، وَبِتِلَاوَتِكُمْ إِيَّاهُ وَدِرَاسَتِكُمُوهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [80] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اِخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: "وَلَا يَأْمُرَكُمْ". فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ}، عَلَى وَجْهِ الِابْتِدَاءِ مِنَ اللَّهِ بِالْخَبَرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَأْمُرَكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا. وَاسْتَشْهَدَ قَارِئُو ذَلِكَ كَذَلِكَ بِقِرَاءَةٍ ذَكَرُوهَا عَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا، وَهِيَ: (وَلَنْ يَأْمُرَكُم)، فَاسْتَدَلُّوا بِدُخُولِ"لَنْ)، عَلَى اِنْقِطَاعِ الْكَلَامِ عَمَّا قَبْلَهُ، وَابْتِدَاءِ خَبَرٍ مُسْتَأْنَفٍ. قَالُوا: فَلَمَّا صَيَّرَ مَكَانَ"لَنْ" فِي قِرَاءَتِنَا"لَا)، وَجَبَتْ قِرَاءَتُهُ بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَهُ بَعْضُ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ}، بِنَصْب "الرَّاءِ)، عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ}. وَكَانَ تَأْوِيلُهُ عِنْدَهُمْ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ، ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ، وَلَا أَنْ يَأْمُرَكُمْ بِمَعْنَى: وَلَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ: "وَلَا يَأْمُرَكُمْ)، بِالنَّصْبِ عَلَى الِاتِّصَالِ بِالَّذِي قَبْلَهُ، بِتَأْوِيلِ: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا أَنْ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا. لِأَنَّ الْآيَةَ نَـزَلَتْ فِي سَبَبِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَتُرِيدُ أَنْ نَعْبُدَكَ"؟ فَأَخْبَرَهُمْ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ، وَلَا إِلَى اِتِّخَاذِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا. وَلَكِنَّ الَّذِي لَهُ: أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى أَنْ يَكُونُوا رَبَّانِيِّينَ. فَأَمَّا الَّذِي اِدَّعَى مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ رَفْعًا، أَنَّهُ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: "وَلَنْ يَأْمُرَكُمْ" اِسْتِشْهَادًا لِصِحَّةِ قِرَاءَتِهِ بِالرَّفْعِ، فَذَلِكَ خَبَرٌ غَيْرُ صَحِيحٍ سَنَدُهُ، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ رَوَاهُ حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ الْأَعْوَرِ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ كَذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ خَبَرًا صَحِيحًا سَنَدُهُ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ لِمُحْتَجٍّ حُجَّةٌ. لِأَنَّ مَا كَانَ عَلَى صِحَّتِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ مِنَ الْكِتَابُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وِرَاثَةً عَنْ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ لِتَأْوِيلٍ عَلَى قِرَاءَةٍ أُضِيفَتْ إِلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ، بِنَقْلِ مَنْ يَجُوزُ فِي نَقْلِهِ الْخَطَأَ وَالسَّهْوَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إذًا: وَمَا كَانَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَأْمُرَكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، "أَنْ يَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا" يَعْنِي بِذَلِكَ آلِهَةً يُعْبَدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَافِيًا عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرَ عِبَادَهُ بِذَلِكَ: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ}، أَيُّهَا النَّاسُ، نَبِيُّكُمْ، بِجُحُودِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، يَعْنِي: بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ لَهُ مُنْقَادُونَ بِالطَّاعَةِ، مُتَذَلِّلُونَ لَهُ بِالْعُبُودَةِ أَيْ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ كَائِنٍ مِنْهُ أَبَدًا. وَقَدْ:- حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: "وَلَا يَأْمُرَكُمْ" النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَايًا}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَاذْكُرُوا، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ، {إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ}، يَعْنِي: حِينَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ "وَمِيثَاقَهُمْ)، مَا وَثِقُوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَاعَةَ اللَّهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَصْلَ "المِيثَاقِ" بِاخْتِلَافِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيهِ، بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةَ. : {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ}، فَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةٍ ذَلِكَ. فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ (لَمَا آتَيْتُكُمْ) بِفَتْح "اللَّامِ" مِنْ"لَمَا)، إِلَّا أَنَّهُمْ اِخْتَلَفُوا فِي قِرَاءَةِ: "آتَيْتُكُمْ". فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: "آتَيْتُكُمْ" عَلَى التَّوْحِيدِ. وَقَرَأَهُ آخَرُونَ: (آتَيْنَاكُمْ) عَلَى الْجَمْعِ. ثُمَّ اِخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ إِذَا قُرِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: (اللَّامُ" الَّتِي مَعَ"مَا" فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ"لَامُ الِابْتِدَاءِ)، نَحْوَ قَوْلِ الْقَائِلِ: "لَزَيْدٌ أَفْضَلُ مِنْكَ)، لِأَنَّ"مَا" اِسْمٌ، وَالَّذِي بَعْدَهَا صِلَةٌ لَهَا، "وَاللَّامُ" الَّتِي فِي: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}، لَامُ الْقَسَمِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ لِتُؤْمِنُنَّ بِهِ يُؤَكِّدُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ وَفِي آخِرِهِ، كَمَا يُقَالُ: "أَمَا وَاللَّهِ أَنْ لَوْ جِئْتِنِي لَكَانَ كَذَا وَكَذَا)، وَقَدْ يُسْتَغْنَى عَنْهَا. فَوَكَّدَ فِي: "لِتُؤْمِنُنَّ بِهِ)، بِاللَّامِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ. وَقَدْ يُسْتَغْنَى عَنْهَا، وَيُجْعَلُ خَبَرَ"مَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ""لِتُؤْمِنُنَّ بِهِ". مِثْلَ: "لِعَبْدُ اللَّهِ وَاللَّهِ لِتَأْتِيَنَّهُ". قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ خَبَرَ"مَا""مِنْ كِتَابٍ)، يُرِيدُ: لَمَا آتَيْتُكُمْ، كِتَابٌ وَحِكْمَةٌ وَتَكُونُ"مِنْ" زَائِدَةٌ. وَخَطَّأَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفِيِّينَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَقَالَ: (اللَّامُ" الَّتِي تَدْخُلُ فِي أَوَائِلِ الْجَزَاءِ، تُجَابُ بِجَوَّابَاتِ الْأَيْمَانِ، يُقَالُ: "لَمَنْ قَامَ لَآتِيَنَّهُ)، "وَلَمَنْ قَامَ مَا أَحْسَنَ)، فَإِذَا وَقَعَ فِي جَوَابِهَا"مَا" وَ"لَا)، عُلِمَ أَنَّ اللَّامَ لَيْسَتْ بِتَوْكِيدٍ لِلْأُولَى، لِأَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعُهَا"مَا" وَ"لَا)، فَتَكُونُ كَالْأُولَى، وَهِيَ جَوَابٌ لِلْأُولَى. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ}، بِمَعْنَى إِسْقَاطِ"مِنْ)، غَلَطٌ. لِأَنَّ"مِنْ" الَّتِي تَدْخُلُ وَتَخْرُجُ، لَا تَقَعُ مَوَاقِعَ الْأَسْمَاءِ، قَالَ: وَلَا تَقَعُ فِي الْخَبَرِ أَيْضًا، إِنَّمَا تَقَعُ فِي الْجَحْدِ وَالِاسْتِفْهَامِ وَالْجَزَاءِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ- عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ بِفَتْحِ "اللَّامِ"- بِالصَّوَابِ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: "لَمَا" بِمَعْنَى"لَمَهْمَا)، وَأَنْ تَكُونَ"مَا" حَرْفُ جَزَاءٍ أُدْخِلَتْ عَلَيْهَا "اللَّامُ)، وَصُيِّرَ الْفِعْلُ مَعَهَا عَلَى"فَعَلَ)، ثُمَّ أُجِيبَتْ بِمَا تُجَابُ بِهِ الْأَيْمَانُ، فَصَارَتِ "اللَّامُ" الْأَوْلَى يَمِينًا، إِذْ تُلُقِّيَتْ بِجَوَابِ الْيَمِينِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ: (لِمَا آتَيْتُكُمْ) "بِكَسْر "اللَّامِ" مِنَ"لَمَا)، وَذَلِكَ قِرَاءَةُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. ثُمَّ اِخْتَلَفَ قَارِئُو ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي تَأْوِيلِهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لِلَّذِي آتَيْتُكُمْ فَـ"مَا" عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ. بِمَعْنَى "الذِي" عِنْدَهُمْ. وَكَانَ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ مِنْ أَجْلِ الَّذِي آتَاهُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ"جَاءَكُمْ رَسُولٌ)، يَعْنِي: ثُمَّ إِنْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ، يَعْنِي: ذِكْرَ مُحَمَّدٍ فِي التَّوْرَاةِ "لِتُؤْمِنُنَّ بِهِ)، أَيْ: لَيَكُونَنَّ إِيمَانُكُمْ بِهِ، لِلَّذِي عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ مِنْ ذِكْرِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: تَأْوِيلُ ذَلِكَ إِذَا قُرِئَ بِكَسْرِ "اللَّامِ" مِنْ"لَمَا": وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ، لِلَّذِي آتَاهُمْ مِنَ الْحِكْمَةِ. ثُمَّ جُعِلَ قَوْلُهُ: "لِتُؤْمِنُنَّ بِهِ" مِنَ الْأَخْذِ أَخْذِ الْمِيثَاقِ. كَمَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ: "أَخَذْتُ مِيثَاقَكَ لَتَفْعَلَنَّ". لِأَنَّ أَخْذَ الْمِيثَاقِ بِمَنْـزِلَةِ الِاسْتِحْلَافِ. فَكَانَ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ عِنْدَ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ: وَإِذِ اِسْتَحْلَفَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ لِلَّذِي آتَاهُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، مَتَى جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ، لِيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلِيَنْصُرْنَّهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ}، بِفَتْحِ "اللَّامِ". لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخَذَ مِيثَاقَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ بِتَصْدِيقِ كُلِّ رَسُولٍ لَهُ اِبْتَعَثَهُ إِلَى خَلْقِهِ فِيمَا اِبْتَعَثَهُ بِهِ إِلَيْهِمْ، كَانَ مِمَّنْ آتَاهُ كِتَابًا أَوْ مِمَّنْ لَمْ يُؤْتِهِ كِتَابًا. وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَصْفُ أَحَدٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرُسُلِهِ، بِأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ أُبِيحَ لَهُ التَّكْذِيبَ بِأَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أُنْـزِلَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُنْـزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ كَانَ بَيِّنًا أَنَّ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ: "لِمَا آتَيْتُكُمْ)، بِكَسْرِ "اللَّامِ)، بِمَعْنَى: مِنْ أَجْلِ الَّذِي آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ، لَا وَجْهَ لَهُ مَفْهُومٌ إِلَّا عَلَى تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ، وَانْتِزَاعٍ عَمِيقٍ. ثُمَّ اِخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ أَخَذَ مِيثَاقَهُ بِالْإِيمَانِ بِمَنْ جَاءَهُ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أَخَذَ اللَّهُ بِذَلِكَ مِيثَاقَ أَهْلِ الْكِتَابِ دُونَ أَنْبِيَائِهِمْ. وَاسْتَشْهَدُوا لِصِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}. قَالُوا: فَإِنَّمَا أُمِرَ الَّذِينَ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ مِنَ الْأُمَمِ بِالْإِيمَانِ بِرُسُلِ اللَّهِ وَنُصْرَتِهَا عَلَى مَنْ خَالَفَهَا. وَأَمَّا الرُّسُلُ، فَإِنَّهُ لَا وَجْهَ لِأَمْرِهَا بِنُصْرَةِ أَحَدٍ، لِأَنَّهَا الْمُحْتَاجَةُ إِلَى الْمَعُونَةِ عَلَى مَنْ خَالَفَهَا مِنْ كَفَرَةِ بَنِي آدَمَ. فَأَمَّا هِيَ، فَإِنَّهَا لَا تُعِينُ الْكَفَرَةَ عَلَى كُفْرِهَا وَلَا تَنْصُرُهَا. قَالُوا: وَإِذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهَا وَغَيْرُ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ، فَمَنِ الَّذِي يَنْصُرُ النَّبِيَّ، فَيُؤْخَذُ مِيثَاقُهُ بِنُصْرَتِهِ؟
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ}، قَالَ: هِيَ خَطَأٌ مِنَ الْكَاتِبِ، وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ اِبْنِ مَسْعُودٍ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ َقَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ}، يَقُولُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا الرَّبِيعُ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، إِنَّمَا هِيَ أَهْلُ الْكِتَابِ. قَالَ: وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَؤُهَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ. قَالَ الرَّبِيعُ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لِتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلِتَنْصُرْنَّهُ؟} يَقُولُ: لِتُؤْمِنُنَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِتَنْصُرْنَّهُ. قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الَّذِينَ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ بِذَلِكَ، الْأَنْبِيَاءُ دُونَ أُمَمِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى وَأَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو نَعِيمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِنَّمَا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ عَلَى قَوْمِهِمْ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ اِبْنِ طَاوُسَ، عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ}، أَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ اِبْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} " الْآيَةَ، قَالَ: أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الْأُوَلِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، لِيُصَدِّقُنَّ وَلِيُؤْمِنُنَّ بِمَا جَاءَ بِهِ الْآخِرُ مِنْهُمْ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيًّا، آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ- إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ فِي مُحَمَّدٍ: لَئِنْ بُعِثَ وَهُوَ حَيٌّ لِيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ وَيَأْمُرُهُ فَيَأْخُذَ الْعَهْدَ عَلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ}، الْآيَةَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ}، الْآيَةَ: هَذَا مِيثَاقٌ أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّينَ أَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَنْ يُبَلِّغُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ، فَبَلَّغَتِ الْأَنْبِيَاءُ كِتَابَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ إِلَى قَوْمِهِمْ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ- فِيمَا بَلَّغَتْهُمْ رُسُلُهُمْ- أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُصَدِّقُوهُ وَيَنْصُرُوهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ}، الْآيَةَ. قَالَ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيًّا قَطُّ مِنْ لَدُنْ نُوحٍ، إِلَّا أَخَذَ مِيثَاقَهُ لِيُؤْمِنَنَّ بِمُحَمَّدٍ وَلَيَنْصُرُنَّهُ إِنْ خَرَجَ وَهُوَ حَيٌّ، وَإِلَّا أَخَذَ عَلَى قَوْمِهِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ إِنْ خَرَجَ وَهُمْ أَحْيَاءٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَبِيرِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عِبَادُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ، سَأَلَتُ الْحَسَنَ عَنْ قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ}، الْآيَةِ كُلِّهَا، قَالَ: أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ: لِيُبَلِّغَنَّ آخِرَكُمْ أَوَّلُكُمْ، وَلَا تَخْتَلِفُو. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ أَخَذَ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ وَأُمَمَهُمْ فَاجْتَزَأَ بِذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ ذِكْرِ أُمَمِهَا، لِأَنَّ فِي ذِكْرِ أَخَذِ الْمِيثَاقِ عَلَى الْمَتْبُوعِ، دَلَالَةٌ عَلَى أَخْذِهِ عَلَى التُّبَّاعِ، لِأَنَّ الْأُمَمَ هُمْ تُبَّاعُ الْأَنْبِيَاءِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا اِبْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ثُمَّ ذَكَرَ مَا أَخَذَ عَلَيْهِمْ- يَعْنِي عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ- وَعَلَى أَنْبِيَائِهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ بِتَصْدِيقِهِ- يَعْنِي بِتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا جَاءَهُمْ، وَإِقْرَارِهِمْ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. فَقَالَ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} " إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍقَالَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى ذَلِكَ: الْخَبَرِ عَنْ أَخْذِ اللَّهِ الْمِيثَاقَ مِنْ أَنْبِيَائِهِ بِتَصْدِيقِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَأَخْذِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى أُمَمِهَا وَتُبَّاعِهَا الْمِيثَاقَ بِنَحْوِ الَّذِي أَخْذَ عَلَيْهَا رَبُّهَا مِنْ تَصْدِيقِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ بِمَا جَاءَتْهَا بِهِ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِذَلِكَ أُرْسِلَتْ إِلَى أُمَمِهَا. وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ مِمَّنْ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ، أَنَّ نَبِيًّا أُرْسِلَ إِلَى أُمَّةٍ بِتَكْذِيبِ أَحَدٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحُجَجِهِ فِي عِبَادِهِ بَلْ كُلُّهَا وَإِنْ كَذَّبَ بَعْضُ الْأُمَمِ بَعْضَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، بِجُحُودِهَا نُبُوَّتَهُ مُقِرَّةٌ بِأَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ صِحَّةُ نُبُوَّتِهِ، فَعَلَيْهَا الدَّيْنُونَةُ بِتَصْدِيقِهِ. فَذَلِكَ مِيثَاقٌ مُقِرٌّ بِهِ جَمِيعُهُمْ. وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمِيثَاقَ إِنَّمَا أُخِذَ عَلَى الْأُمَمِ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ. لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّينَ، فَسَوَاءٌ قَالَ قَائِلٌ: "لَمْ يَأْخُذْ ذَلِكَ مِنْهَا رَبُّهَا" أَوْ قَالَ: "لَمْ يَأْمُرْهَا بِبَلَاغِ مَا أُرْسِلَتْ)، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ أَمَرَهَا بِتَبْلِيغِهِ، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا خَبَرَانِ مِنَ اللَّهِ عَنْهَا: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهَا، وَالْآخِرُ مِنْهُمَا أَنَّهُ أَمَرَهَا. فَإِنَّ جَازَ الشَّكُّ فِي أَحَدِهِمَا، جَازَ فِي الْآخَرِ. وَأَمَّا مَا اِسْتَشْهَدَ بِهِ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِذَلِكَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ شَاهِدٍ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَ. لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ قَدْ أُمِرَ بَعْضُهَا بِتَصْدِيقِ بَعْضٍ، وَتَصْدِيقِ بَعْضُهَا بَعْضًا، نُصْرَةٌ مِنْ بَعْضِهَا بَعْضًا. تَمَّ اِخْتَلَفُوا فِي الَّذِينَ عُنُوا بِقَوْلِهِ: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الَّذِينَ عُنُوْا بِذَلِكَ، هُمُ الْأَنْبِيَاءُ، أُخِذَتْ مَوَاثِيقُهُمْ أَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَأَنْ يَنْصُرُوهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ عَمَّنْ قَالَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، أُمِرُوا بِتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَهُ اللَّهُ وَبِنُصْرَتِهِ، وَأَخَذَ مِيثَاقَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ بِذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ أَيْضًا عَمَّنْ قَالَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ مِمَّنْ قَالَ: الَّذِينَ عُنُوا بِأَخْذِ اللَّهِ مِيثَاقَهُمْ مِنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ قَوْلُهُ: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ}، مَعْنِيٌّ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا اِبْنُ طَاوُسَ، عَنْ أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ}، قَالَ أَخْذَ اللَّهِ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ أَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ قَالَ: "ثُمَّ {جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}، قَالَ: فَهَذِهِ الْآيَةُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ، أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ وَيُصَدِّقُوهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنِي اِبْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ، قَالَ قَتَادَةُ: أَخَذَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ: أَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَنْ يُبَلِّغُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرِسَالَتِهِ إِلَى عِبَادِهِ، فَبَلَّغَتِ الْأَنْبِيَاءُ كِتَابَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ إِلَى قَوْمِهِمْ، وَأَخَذُوا مَوَاثِيقَ أَهْلِ الْكِتَابِ- فِي كِتَابِهِمْ، فِيمَا بَلَّغَتْهُمْ رُسُلُهُمْ-: أَنْ يُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُصَدِّقُوهُ وَيَنْصُرُوهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ عِنْدَنَا فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَنْبِيَائِهِ أَنَّهُ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ بِهِ، وَأَلْزَمَهُمْ دُعَاءَ أُمَمِهَا إِلَيْهِ، وَالْإِقْرَارَ بِهِ. لِأَنَّ اِبْتِدَاءَ الْآيَةِ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَنْبِيَائِهِ أَنَّهُ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ، ثُمَّ وَصَفَ الَّذِي أَخَذَ بِهِ مِيثَاقَهُمْ فَقَالَ: هُوَ كَذَا وَهُوَ كَذَا. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ أَخَذَ بِهِ مَوَاثِيقَ أَنْبِيَائِهِ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذَتِ الْأَنْبِيَاءُ مَوَاثِيقَ أُمَمِهَا بِهِ، لِأَنَّهَا أُرْسِلَتْ لِتَدْعُوَ عِبَادَ اللَّهِ إِلَى الدَّيْنُونَةِ بِمَا أُمِرَتْ بِالدَّيْنُونَةِ بِهِ فِي أَنْفُسِهَا، مِنْ تَصْدِيقِ رُسُلِ اللَّهِ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا الْبَيَانَ قَبْلُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: وَاذْكُرُوا يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَهْمَا آتَيْتُكُمْ، أَيُّهَا النَّبِيُّونَ، مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِي مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ، لِتُؤْمِنُنَّ بِهِ يَقُولُ: لِتُصَدِّقُنَّهُ وَلَتَنْصُرْنَّهُ. وَقَدْ قَالَ السُّدِّيُّ فِي ذَلِكَ بِمَا:- حَدَّثَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ: "لَمَا آتَيْتُكُمْ)، يَقُولُ لِلْيَهُودِ: أَخَذَتُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ عِنْدَكُمْ. فَتَأْوِيلُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ السُّدِّيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ: وَاذْكُرُوا، يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ بِمَا آتَيْتُكُمْ، أَيُّهَا الْيَهُودُ، مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ السُّدِّيُّ كَانَ تَأْوِيلًا لَهُ وَجْهٌ، لَوْ كَانَ التَّنْـزِيلُ: "بِمَا آتَيْتُكُمْ)، وَلَكِنَّ التَّنْـزِيلَ بِاللَّامِ"لَمَا آتَيْتُكُمْ". وَغَيْرُ جَائِزٍ فِي لُغَةِ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ أَنْ يُقَالَ: {أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ}، بِمَعْنَى: بِمَا آتَيْتُكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ بِمَا ذَكَرَ، فَقَالَ لَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَأَقْرَرْتُمْ بِالْمِيثَاقِ الَّذِي وَاثَقْتُمُونِي عَلَيْهِ: مِنْ أَنَّكُمْ مَهْمَا أَتَاكُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِي مُصَدِّق لِمَا مَعَكُمْ "لِتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلِتَنْصُرْنَّهُ" "وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكَ إِصْرِي"؟ يَقُولُ: وَأَخَذْتُمْ عَلَى مَا وَاثَقْتُمُونِي عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ الَّتِي تَأْتِيكُمْ بِتَصْدِيقِ مَا مَعَكُمْ مِنْ عِنْدِي وَالْقِيَامَ بِنُصْرَتِهِمْ "إِصْرِي". يَعْنِي عَهْدِي وَوَصِيَّتِي، وَقَبِلْتُمْ فِي ذَلِكَ مِنِّي وَرَضِيتُمُوهُ. وَ "الأَخْذُ": هُوَ الْقَبُولُ- فِي هَذَا الْمَوْضِعِ- وَالرِّضَى، مِنْ قَوْلِهِمْ: "أَخَذَ الْوَالِي عَلَيْهِ الْبَيْعَةَ)، بِمَعْنَى: بَايَعَهُ وَقَبِلَ وِلَايَتَهُ وَرَضِيَ بِهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى "الإِصْرِ" بِاخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ، وَالصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَحُذِفَتِ "الفَاءُ" مِنْ قَوْلِهِ: "قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ)، لِأَنَّهُ اِبْتِدَاءُ كَلَامٍ، عَلَى نَحْوِ مَا قَدْ بَيَّنَّا فِي نَظَائِرِهِ فِيمَا مَضَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "قَالُوا أَقْرَرْنَا)، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ: قَالَ النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَخَذَ اللَّهَ مِيثَاقَهُمْ بِمَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَقْرَرْنَا بِمَا أَلْزَمْتَنَا مِنَ الْإِيمَانِ بِرُسُلِكَ الَّذِينَ تُرْسِلُهُمْ مُصَدِّقِينَ لِمَا مَعَنَا مِنْ كُتُبِكَ، وَبِنُصْرَتِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (81] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: قَالَ اللَّهُ: فَاشْهَدُوا، أَيُّهَا النَّبِيُّونَ، بِمَا أَخَذْتُ بِهِ مِيثَاقَكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِتَصْدِيقِ رُسُلِي الَّتِي تَأْتِيكُمْ بِتَصْدِيقِ مَا مَعَكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ، وَنُصْرَتِهِمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَعَلَى أَتْبَاعِكُمْ مِنَ الْأُمَمِ إِذْ أَنْتُمْ أَخَذْتُمْ مِيثَاقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدَيْنَ عَلَيْكُمْ وَعَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، كَمَا:- حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ: "قَالَ فَاشْهَدُوا)، يَقُولُ: فَاشْهَدُوا عَلَى أُمَمِكُمْ بِذَلِكَ "وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدَيْنَ)، عَلَيْكُمْ وَعَلَيْهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [82] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَمَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْإِيمَانِ بِرُسُلِي الَّذِينَ أَرْسَلَتْهُمْ بِتَصْدِيقِ مَا كَانَ مَعَ أَنْبِيَائِي مِنَ الْكُتُبِ وَالْحِكْمَةِ، وَعَنْ نُصْرَتِهِمْ، فَأَدْبَرَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَنْصُرْ، وَنَكَثَ عَهْدَهُ وَمِيثَاقَهُ "بَعْدَ ذَلِكَ)، يَعْنِي بَعْدَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ "فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، يَعْنِي بِذَلِكَ: أَنَّ الْمُتَوَلِّينَ عَنِ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ الَّذِينَ وَصَفَ أَمْرَهُمْ، وَنُصْرَتَهُمْ بَعْدَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ اللَّذَيْنِ أُخِذَا عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ "هُمُ الْفَاسِقُونَ)، يَعْنِي بِذَلِكَ: الْخَارِجُونَ مِنْ دِينِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَبِّهِمْ، كَمَا:- حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: فَمَنْ تَوَلَّى عَنْكَ، يَا مُحَمَّدُ، بَعْدَ هَذَا الْعَهْدِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ "فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، هُمُ الْعَاصُونَ فِي الْكُفْرِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي الرَّازِيَّ {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ} " يَقُولُ: بَعْدَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْهِمْ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، [عَنْ أَبِيهِ]، عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَاتَانِ الْآيَتَانِ، وَإِنْ كَانَ مَخْرَجُ الْخَبَرِ فِيهِمَا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ أَشْهَدَ وَأَخَذَ بِهِ مِيثَاقَ مَنْ أَخَذَ مِيثَاقَهُ بِهِ، عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنَّهُ مَقْصُودٌ بِهِ إِخْبَارُ مَنْ كَانَ حَوَالَيْ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيَّامَ حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَمَّا لِلَّهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَهْدِ فِي الْإِيمَانِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنِيٌّ [بِهِ] تَذْكِيرُهُمْ مَا كَانَ اللَّهُ آخِذًا عَلَى آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ مِنَ الْمَوَاثِيقِ وَالْعُهُودِ، وَمَا كَانَتْ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ عَرَّفَتْهُمْ وَتَقَدَّمَتْ إِلَيْهِمْ فِي تَصْدِيقِهِ وَاتِّبَاعِهِ وَنُصْرَتِهِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَكَذَّبَهُ وَتَعْرِيفُهُمْ مَا فِي كُتُبِ اللَّهِ، الَّتِي أَنْـزَلَهَا إِلَى أَنْبِيَائِهِ الَّتِي اِبْتَعَثَهَا إِلَيْهِمْ، مِنْ صِفَتِهِ وَعَلَامَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (83] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اِخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ: فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قَرَأَةِ الْحِجَازِ مِنْ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، وَقَرَأَةُ الْكُوفَةِ: ({أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ تَبْغُونَ})، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) بِالْيَاءِ كِلْتَيْهِمَا، عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ}، عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، بِالتَّاء عَلَى وَجْهِ الْمُخَاطَبَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: "أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ تَبْغُونَ" عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ"وَإِلَيْهِ تُرْجِعُونَ" بِالتَّاء. لِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا خُطَّابٌ لَهُمْ، فَإِتْبَاعُ الْخِطَابِ نَظِيرَهُ، أَوْلَى مِنْ صَرْفِ الْكَلَامِ إِلَى غَيْرِ نَظِيرِهِ. وَإِنْ كَانَ الْوَجْهُ الْآخَرُ جَائِزًا، لِمَا قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ: مِنْ أَنَّ الْحِكَايَةَ يَخْرُجُ الْكَلَامُ مَعَهَا أَحْيَانًا عَلَى الْخِطَابِ كُلِّهِ، وَأَحْيَانًا عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، وَأَحْيَانًا بَعْضُهُ عَلَى الْخِطَابِ، وَبَعْضُهُ عَلَى الْغَيْبَةِ، فَقَوْلُهُ: "تَبْغُونَ" وَ"إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" فِي هَذِهِ الْآيَةِ، مِنْ ذَلِكَ. وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْكِتَابِ "أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ تَبْغُونَ)، يَقُولُ: أَفَغَيْرَ طَاعَةِ اللَّهِ تَلْتَمِسُونَ وَتُرِيدُونَ، {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، يَقُولُ: وَلَهُ خَشَعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَخَضَعَ لَهُ بِالْعُبُودَةِ، وَأَقَرَّ لَهُ بِإِفْرَادِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَانْقَادَ لَهُ بِإِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ وَالْأُلُوهِيَّةِ "طَوْعًا وَكُرْهًا)، يَقُولُ أَسْلَم لِلَّهِ طَائِعًا مَنْ كَانَ إِسْلَامُهُ مِنْهُمْ لَهُ طَائِعًا، وَذَلِكَ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، فَإِنَّهُمْ أَسْلَمُوا لِلَّهِ طَائِعِينَ "وَكَرْهًا)، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَارِهًا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى إِسْلَامِ الْكَارِهِ الْإِسْلَامَ وَصِفَتِهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِسْلَامُهُ، إِقْرَارُهُ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ وَرَبُّهُ، وَإِنْ أَشَرَكَ مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ}، قَالَ: هُوَ كَقَوْلِهِ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سُورَةَ الزُّمَرِ: 38]. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا اِبْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ تُرْجِعُونَ}، قَالَ: كُلُّ آدَمِيٍّ قَدْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُهُ. فَمَنْ أَشْرَكَ فِي عِبَادَتِهِ فَهَذَا الَّذِي أَسْلَمَ كَرْهًا، وَمَنْ أَخْلَصَ لَهُ الْعُبُودَةَ، فَهُوَ الَّذِي أَسْلَمَ طَوْعًا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ إِسْلَامُ الْكَارِهِ مِنْهُمْ، كَانَ حِينَ أَخَذَ مِنْهُ الْمِيثَاقَ فَأَقَرَّ بِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}، قَالَ: حِينَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ. وَقَالَ آخَرُونَ ; عَنَى بِإِسْلَامِ الْكَارِهِ مِنْهُمْ، سُجُودَ ظِلِّهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}، قَالَ: الطَّائِعُ الْمُؤْمِنُ وَ"كَرْهًا)، ظِلُّ الْكَافِرِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {طَوْعًا وَكَرْهًا}، قَالَ: سُجُودُ الْمُؤْمِنِ طَائِعًا، وَسُجُودُ الْكَافِرِ وَهُوَ كَارِهٌ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ اِبْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: "كَرْهًا)، قَالَ: سُجُودُ الْمُؤْمِنِ طَائِعًا، وَسُجُودُ ظَلِّ الْكَافِرِ وَهُوَ كَارِهٌ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ اِبْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: سُجُودُ وَجْهِهِ طَائِعًا، وَظِلِّهِ كَارِهًا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ إِسْلَامُهُ بِقَلْبِهِ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَاسْتِقَادَتِهِ لِأَمْرِهِ وَإِنْ أَنْكَرَ أُلُوهَتَهُ بِلِسَانِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ}، قَالَ: اِسْتَقَادَ كُلُّهُمْ لَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ إِسْلَامَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النَّاسِ كَرْهًا، حَذَرَ السَّيْفِ عَلَى نَفْسِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا عِبَادُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} " الْآيَةَ كُلَّهَا، فَقَالَ: أُكْرِهَ أَقْوَامٌ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَجَاءَ أَقْوَامٌ طَائِعِينَ. حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ قَزْعَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ تَرْجَعُونَ}، قَالَ: الْمَلَائِكَةُ طَوْعًا، وَالْأَنْصَارُ طَوْعًا، وَبَنُو سُلَيْمُ وَعَبْدُ الْقَيْسِ طَوْعًا، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ كَرْهًا. وَقَالَ آخَرُونَ مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ أَسْلَمُوا طَوْعًا، وَأَنَّ الْكَافِرَ أَسْلَمَ فِي حَالِ الْمُعَايِنَةِ، حِينَ لَا يَنْفَعُهُ إِسْلَامٌ، كَرْهًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: "أَفَغَيَّرَ دِينِ اللَّهِ تَبْغُونَ)، الْآيَةَ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَأَسْلَمَ طَائِعًا فَنَفَعَهُ ذَلِكَ، وَقُبِلَ مِنْهُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَأَسْلَمَ كَارِهًا حِينَ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}، قَالَ: أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَأَسْلَمَ طَائِعًا، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَأَسْلَمَ حِينَ رَأَى بَأْسَ اللَّهِ، {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [سُورَةَ غَافِرٍ: 85]. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَيْ: عِبَادَةُ الْخَلْقِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ اِبْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: "أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ تَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا)، قَالَ: عِبَادَتُهُمْ لِي أَجْمَعِينَ طَوْعًا وَكَرْهًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [سُورَةَ الرَّعْدِ: 15]. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، فَإِنَّهُ يَعْنِي: "وَإِلَيْهِ)، يَا مَعْشَرَ مَنْ يَبْتَغِي غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَسَائِرِ النَّاسِ "تُرْجَعُونَ)، يَقُولُ: إِلَيْهِ تَصِيرُونَ بَعْدَ مَمَاتِكُمْ، فَمُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، الْمُحْسِنَ مِنْكُمْ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ. وَهَذَا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَحْذِيرُ خَلْقِهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَيَصِيرُ إِلَيْهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (84] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ تَبْغُونَ)، يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، "وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" فَإِنِ اِبْتَغَوْا غَيْرَ دِينِ اللَّهِ، يَا مُحَمَّدُ، فَقُلْ لَهُمْ: "آمَنَّا بِاللَّهِ)، فَتَرَكَ ذِكْرَ قَوْلِهِ: "فَإِنْ قَالُوا: نَعَمَ)، أَوْ ذِكْرَ قَوْلِهِ: (فَإِنِ اِبْتَغَوْا غَيْرَ دِينِ اللَّهِ)، لِدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: "قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ)، يَعْنِي بِهِ: قُلْ لَهُمْ، يَا مُحَمَّدُ،: صَدَّقْنَا بِاللَّهِ أَنَّهُ رَبُّنَا وَإِلَهُنَا، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلَا نَعْبُدَ أَحَدًا سِوَاهُ "وَمَا أُنْـزِلَ عَلَيْنَا)، يَقُولُ: وَقُلْ: وَصَدَّقْنَا أَيْضًا بِمَا أُنْـزِلَ عَلَيْنَا مِنْ وَحْيِهِ وَتَنْـزِيلِهِ، فَأَقْرَرْنَا بِهِ "وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ)، يَقُولُ: وَصَدَّقْنَا أَيْضًا بِمَا أُنْـزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ، وَعَلَى اِبْنَيْهِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، وَابْنِ اِبْنِهِ يَعْقُوبَ وَبِمَا أُنْـزِلَ عَلَى "الأَسْبَاطِ)، وَهُمْ وَلَدُ يَعْقُوبَ الِاثْنَا عَشَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَسْمَاءَهُمْ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. "وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى)، يَقُولُ: وَصَدَّقْنَا أَيْضًا مَعَ ذَلِكَ بِالَّذِي أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى وَعِيسَى مِنْ الْكُتُبِ وَالْوَحْيِ، وَبِمَا أَنْـزَلَ عَلَى النَّبِيِّينَ مِنْ عِنْدِهِ. وَالَّذِي آتَى اللَّهُ مُوسَى وَعِيسَى مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُحَمَّدًا بِتَصْدِيقِهِمَا فِيهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ التَّوْرَاةِ الَّتِي آتَاهَا مُوسَى، وَالْإِنْجِيلِ الَّذِي أَتَاهُ عِيسَى. "لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ)، يَقُولُ: لَا نُصَدِّقُ بَعْضَهُمْ وَنُكَذِّبُ بَعْضَهُمْ، وَلَا نُؤْمِنُ بِبَعْضِهِمْ وَنَكْفُرُ بِبَعْضِهِمْ، كَمَا كَفَرَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِبَعْضِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَصَدَّقَتْ بَعْضًا، وَلَكِنَّا نُؤْمِنُ بِجَمِيعِهِمْ، وَنُصَدِّقُهُمْ "وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ". يَعْنِي: وَنَحْنُ نَدِينُ لِلَّهِ بِالْإِسْلَامِ لَا نَدِينُ غَيْرَهُ، بَلْ نَتَبَرَّأُ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ دِينٍ سِوَاهُ، وَمِنْ كُلِّ مِلَّةِ غَيْرِهِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: "وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ". وَنَحْنُ لَهُ مُنْقَادُونَ بِالطَّاعَةِ، مُتَذَلِّلُونَ بِالْعُبُودَةِ، مُقِرُّونَ لَهُ بِالْأُلُوهَةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الرِّوَايَةَ بِمَعْنَى مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، وَكَرِهَنَا إِعَادَتَهُ.
|