الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} قوله تعالى{وممن حولكم من الأعراب منافقون} ابتداء وخبر. أي قوم منافقون؛ يعني مزينة وجهينة وأسلم وغفار وأشجع. }ومن أهل المدينة مردوا على النفاق} أي قوم مردوا على النفاق. وقيل{مردوا} من نعت المنافقين؛ فيكون في الكلام تقديم وتأخير، المعنى. ومن حولكم من الأعراب منافقون مردوا على النفاق، ومن أهل المدينة مثل ذلك. ومعنى{مردوا} أقاموا ولم يتوبوا؛ عن ابن زيد. وقال غيره: لجوا فيه وأبوا غيره؛ والمعنى متقارب. وأصل الكلمة من اللين والملامسة والتجرد. فكأنهم تجردوا للنفاق. ومنه رملة مرداء لا نبت فيها. وغصن أمرد لا ورق عليه. وفرس أمرد لا شعر على ثنته. وغلام أمرد بين المرد؛ ولا يقال: جارية مرداء. وتمريد البناء تمليسه؛ ومنه قوله قوله تعالى{سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} قال ابن عباس: بالأمراض في الدنيا وعذاب الآخرة. فمرض المؤمن كفارة، ومرض الكافر عقوبة. وقيل: العذاب الأول الفضيحة بإطلاع النبي صلى الله عليه وسلم عليهم؛ على ما يأتي بيانه في المنافقين. والعذاب الثاني عذاب القبر. الحسن وقتادة: عذاب الدنيا وعذاب القبر. ابن زيد: الأول بالمصائب في أموالهم وأولادهم، والثاني عذاب القبر. مجاهد: الجوع والقتل. الفراء: القتل وعذاب القبر. وقيل: السباء والقتل. وقيل: الأول أخذ الزكاة من أموالهم وإجراء الحدود عليهم، والثاني عذاب القبر. وقيل: أحد العذابين ما قال تعالى {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم} أي ومن أهل المدينة وممن حولكم قوم أقروا بذنوبهم، وآخرون مرجون لأمر الله يحكم فيهم بما يريد. فالصنف الأول يحتمل أنهم كانوا منافقين وما مردوا على النفاق، ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين. وقال ابن عباس: نزلت في عشرة تخلفوا عن غزوة تبوك فأوثق سبعة منهم أنفسهم في سواري المسجد. وقال بنحوه قتادة وقال: وفيهم نزل {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم} قوله تعالى{خذ من أموالهم صدقة} اختلف في هذه الصدقة المأمور بها؛ فقيل: هي صدقة الفرض؛ قال جويبر عن ابن عباس، وهو قول عكرمة فيما ذكر القشيري. وقيل: هو مخصوص بمن نزلت فيه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منهم ثلث أموالهم، وليس هذا من الزكاة المفروضة في شيء؛ ولهذا قال مالك: إذا تصدق الرجل بجميع ماله أجزأه إخراج الثلث؛ متمسكا بحديث أبي لبابة. وعلى القول الأول فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يقتضي بظاهره اقتصاره عليه فلا يأخذ الصدقة سواه، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه وزوالها بموته. وبهذا تعلق مانعو الزكاة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقالوا: إنه كان يعطينا عوضا منها التطهير والتزكية والصلاة علينا وقد عدمناها من غيره. ونظم في ذلك شاعرهم فقال: وإن الذي سألوكم فمنعتم لكالتمر أو أحلى لديهم من التمر
سنمنعهم ما دام فينا بقية كرام على الضراء في العسر واليسر وهذا صنف من القائمين على أبي بكر أمثلهم طريقة، وفي حقهم قال أبو بكر:(والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة). ابن العربي: أما قولهم إن هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فلا يلتحق به غيره فهو كلام جاهل بالقرآن غافل عن مأخذ الشريعة متلاعب بالدين؛ فإن الخطاب في القرآن لم يرد بابا واحدا ولكن اختلفت موارده على وجوه، فمنها خطاب توجه إلى جميع الأمة كقوله قوله تعالى{من أموالهم} ذهب بعض العرب وهم دوس: إلى أن المال الثياب والمتاع والعروض. ولا تسمي العين مالا. وقد جاء هذا المعنى في السنة قال أبو عمر: والمعروف من كلام العرب أن كل ما تمول وتملك هو مال؛ قوله تعالى{خذ من أموالهم صدقة} مطلق غير مقيد بشرط في المأخوذ والمأخوذ منه، ولا تبيين مقدار المأخوذ ولا المأخوذ منه. وإنما بيان ذلك في السنة والإجماع. حسب ما نذكره فتؤخذ الزكاة من جميع الأموال. وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة في المواشي والحبوب والعين، وهذا ما لا خلاف فيه. واختلفوا فيما سوى ذلك كالخيل وسائر العروض. وسيأتي ذكر الخيل والعسل في }النحل} إن شاء الله. وأما زكاة الذهب فالجمهور من العلماء على أن الذهب إذا كان عشرين دينارا قيمتها مائتا درهم فما زاد أن الزكاة فيها واجبة؛ على حديث علي، أخرجه الترمذي عن ضمرة والحارث عن علي. قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال كلاهما عندي صحيح عن أبي إسحاق، يحتمل أن يكون عنهما جميعا. وقال الباجي في المنتقى: وهذا الحديث ليس إسناده هناك، غير أن اتفاق العلماء على الأخذ به دليل على صحة حكمه، والله أعلم. وروي عن الحسن والثوري، وإليه مال بعض أصحاب داود بن علي على أن الذهب لا زكاة فيه حتى يبلغ أربعين دينارا. وهذا يرده حديث علي وحديث ابن عمر وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينارا نصف دينار، ومن الأربعين دينارا دينارا؛ على هذا جماعة أهل العلم إلا من ذكر. اتفقت الأمة على أن ما كان دون خمس ذَود من الإبل فلا زكاة فيه. فإذا بلغت خمسا ففيها شاة. والشاة تقع على واحدة من الغنم، والغنم الضأن والمعز جميعا. وهذا أيضا اتفاق من العلماء أنه ليس في خمس إلا شاة واحدة؛ وهي فريضتها. لم يذكر البخاري ولا مسلم في صحيحهما تفصيل زكاة البقر. وخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني ومالك في موطئه وهي مرسلة ومقطوعة وموقوفة. قال أبو عمر: وقد رواه قوم عن طاوس عن معاذ، إلا أن الذين أرسلوه أثبت من الذين أسندوه. وممن أسنده بقية عن المسعودي عن الحكم عن طاوس. وقد اختلفوا فيما ينفرد به بقية عن الثقات. ورواه الحسن بن عمارة عن الحكم كما رواه بقية عن المسعودي عن الحكم، والحسن مجتمع على ضعفه. وقد روي هذا الخبر بإسناد متصل صحيح ثابت من غير رواية طاوس؛ قوله تعالى{صدقة} مأخوذ من الصدق؛ إذ هي دليل على صحة إيمانه، وصدق باطنه مع ظاهره، وأنه ليس من المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات. }تطهرهم وتزكيهم بها} حالين للمخاطب؛ التقدير: خذها مطهرا لهم ومزكيا لهم بها. ويجوز أن يجعلهما صفتين للصدقة؛ أي صدقة مطهرة لهم مزكية، ويكون فاعل تزكيهم المخاطب، ويعود الضمير الذي في }بها} على الموصوف المنكر. وحكى النحاس ومكي أن }تطهرهم} من صفة الصدقة }وتزكيهم بها} حال من الضمير في }خذ} وهو النبي صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن تكون حالا من الصدقة، وذلك ضعيف لأنها حال من نكرة. وقال الزجاج: والأجود أن تكون المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي فإنك تطهرهم وتزكيهم بها، على القطع والاستئناف. ويجوز الجزم على جواب الأمر، والمعنى: إن تأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم؛ ومنه قول امرئ القيس: وقرأ الحسن تطهرهم }بسكون الطاء} وهو منقول بالهمزة من طهر وأطهرته، مثل ظهر وأظهرته. قوله تعالى{وصل عليهم} أصلٌ في فعل كل إمام يأخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق بالبركة. {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم} قيل: قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمس، لا يكلمون ولا يجالسون، فما لهم الآن؟ وما هذه الخاصة التي خصوا بها دوننا؛ فنزلت{ألم يعلموا} فالضمير في }يعلموا} عائد إلى الذين لم يتوبوا من المتخلفين. قال معناه ابن زيد. ويحتمل أن يعود إلى الذين تابوا وربطوا أنفسهم. وقوله تعالى{هو} تأكيد لانفراد الله سبحانه وتعالى بهذه الأمور. وتحقيق ذلك أنه لو قال: إن الله يقبل التوبة لاحتمل أن يكون قبول رسوله قبولا منه؛ فبينت الآية أن ذلك مما لا يصل إليه نبي ولا ملك. قوله تعالى{ويأخذ الصدقات} هذا نص صريح في أن الله تعالى هو الآخذ لها والمثيب عليها وأن الحق له جل وعز، والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة، فإن توفي فعامله هو الواسطة بعده، والله عز وجل حي لا يموت. وهذا يبين أن قوله سبحانه وتعالى{خذ من أموالهم صدقة} ليس مقصورا على النبي صلى الله عليه وسلم: أي هو مؤهل للمجد والشرف، ولم يرد بها يمين الجارحة، لأن المجد معنى فاليمين التي تتلقى به رايته معنى. وكذلك اليمين في حق الله تعالى. وقد قيل: إن معنى (تربو في كف الرحمن) عبارة عن كفة الميزان التي توزن فيها الأعمال، فيكون من باب حذف المضاف؛ كأنه قال. فتربو كفة ميزان الرحمن. وروي عن مالك والثوري وابن المبارك أنهم قالوا في تأويل هذه الأحاديث وما شابهها: أمِرّوها بلا كيف؛ قال الترمذي وغيره. وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة. {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} قوله تعالى{وقل اعملوا} خطاب للجميع. }فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} أي بإطلاعه إياهم على أعمالكم. {وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم} نزلت في الثلاثة الذين تيب عليهم: كعب بن مالك وهلال بن أمية من بنى واقف ومرارة بن الربيع؛ وقيل: ابن ربعي العمري؛ ذكره المهدوي. كانوا قد تخلفوا عن تبوك وكانوا مياسر؛ على ما يأتي من ذكرهم. والتقدير: ومنهم آخرون مرجون؛ من أرجأته أي أخرته. ومنه قيل: مرجئة؛ لأنهم أخروا العمل. وقرأ حمزة والكسائي }مرجون} بغير همزة؛ فقيل: هو من أرجيته أي أخرته. وقال المبرد: لا يقال أرجيته بمعنى أخرته، ولكن يكون من الرجاء. }إما يعذبهم وإما يتوب عليهم} }إما} في العربية لأحد أمرين، والله عز وجل عالم بمصير الأشياء، ولكن المخاطبة للعباد على ما يعرفون؛ أي ليكن أمرهم عندكم على الرجاء لأنه ليس للعباد أكثر من هذا. {والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون} قوله تعالى{والذين اتخذوا مسجدا} معطوف، أي ومنهم الذين اتخذوا مسجدا، عطف جملة على جملة. ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء والخبر محذوف كأنهم }يعذبون} أو نحوه. ومن قرأ }الذين} بغير واو وهي قراءة المدنيين فهي عنده رفع بالابتداء، والخبر }لا تقم} التقدير: الذين اتخذوا مسجدا لا تقم فيه أبدا؛ أي لا تقم في مسجدهم؛ قاله الكسائي. وقال النحاس: يكون خبر الابتداء قوله تعالى{ضرارا} مصدر مفعول من أجله. }وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا} عطف كله. وقال أهل التأويل: ضرارا بالمسجد، وليس للمسجد ضرار، إنما هو لأهله. قال علماؤنا: لا يجوز أن يبني مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه؛ والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغرا، إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجد واحد فيبنى حينئذ. وكذلك قالوا. لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلى فيه الجمعة لم تجزه. وقد أحرق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار وهدمه. وأسند الطبري عن شقيق أنه جاء ليصلي في مسجد بني غاضرة فوجد الصلاة قد فاتته، فقيل له: إن مسجد بني فلان لم يصل فيه بعد؛ فقال: لا أحب أن أصلي فيه؛ لأنه بني على ضرار. قال علماؤنا: وكل مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه. وقال النقاش: يلزم من هذا ألا يصلي في كنيسة ونحوها؛ لأنها بنيت على شر. قلت: هذا لا يلزم؛ لأن الكنيسة لم يقصد ببنائها الضرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شر، وإنما اتخذ النصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعا يتعبدون فيه بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا. وقد أجمع العلماء على أن من صلى في كنيسة أو بيعة على موضع طاهر أن صلاته ماضية جائزة. وقد ذكر البخاري أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل. وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم. قال العلماء: إن من كان إماما لظالم لا يصلي وراءه إلا أن يظهر عذره أو يتوب فإن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن جارية أن يصلي بهم في مسجدهم؛ فقال: لا ولا نعمة عين أليس بإمام مسجد الضرار فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي فوالله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما قد أضمروا عليه ولو علمت ما صليت بهم فيه كنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا قد عاشوا على جاهليتهم وكانوا لا يقرؤون من القرآن شيئا فصليت ولا أحسب ما صنعت إثما ولا أعلم بما في أنفسهم فعذره عمر رضي الله عنهما وصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: وإذا كان المسجد الذي يتخذ للعبادة وحض الشرع على بنائه ومن هذا الباب وجه آخر من الضرر منع العلماء منه، كدخان الفرن والحمام وغبار الأندر والدود المتولد من الزبل المبسوط في الرحاب، وما كان مثل هذا فإنه يقطع منه ما بان ضرره وخشي تماديه. وأما ما كان ساعة خفيفة مثل نفض الثياب والحصر عند الأبواب؛ فإن هذا مما لا غنى بالناس عنه، وليس مما يستحق به شيء؛ فنفي الضرر في منع مثل هذا أعظم وأكبر من الصبر على ذلك ساعة خفيفة. وللجار على جاره في أدب السنة أن يصبر على أذاه على ما يقدر كما عليه ألا يؤذيه وأن يحسن إليه. ومما يدخل في هذا الباب مسألة ذكرها إسماعيل بن أبي أويس عن مالك أنه سئل عن امرأة عرض لها، يعني مسا من الجن، فكانت إذا أصابها زوجها وأجنبت أودنا منها يشتد ذلك بها. فقال مالك: لا أرى أن يقربها، وأرى للسلطان أن يحول بينه وبينها. قوله تعالى{وكفرا} لما كان اعتقادهم أنه لا حرمة لمسجد قباء ولا لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم كفروا بهذا الاعتقاد؛ قاله ابن العربي. وقيل{وكفرا} أي بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به؛ قاله القشيري وغيره. قوله تعالى{وتفريقا بين المؤمنين} أي يفرقون به جماعتهم ليتخلف أقوام عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا يدلك على أن المقصد الأكبر والغرض الأظهر من وضع الجماعة تأليف القلوب والكلمة على الطاعة، وعقد الذمام والحرمة بفعل الديانة حتى يقع الأنس بالمخالطة، وتصفو القلوب من وضر الأحقاد. تفطن مالك رحمه الله من هذه الآية فقال: لا تصلي جماعتان في مسجد واحد بإمامين؛ خلافا لسائر العلماء. وقد روي عن الشافعي المنع؛ حيث كان تشتيتا للكلمة وإبطالا لهذه الحكمة وذريعة إلى أن نقول: من يريد الانفراد عن الجماعة كان له عذر فيقيم جماعته ويقدم إمامته فيقع الخلاف ويبطل النظام، وخفي ذلك عليهم. قال ابن العربي: وهذا كان شأنه معهم، وهو أثبت قدما منهم في الحكمة وأعلم بمقاطع الشريعة. قوله تعالى{وإرصادا لمن حارب الله ورسوله} يعني أبا عامر الراهب؛ وسمي بذلك لأنه كان يتعبد ويلتمس العلم فمات كافرا بقنسرين بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم؛ فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين. فلما انهزمت هوازن خرج إلى الورم يستنصر، وأرسل إلى المنافقين وقال: استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر فآت بجند من الروم لأخرج محمدا من المدينة؛ فبنوا مسجد الضرار. وأبو عامر هذا هو والد حنظلة غسيل الملائكة. والإرصاد: الانتظار؛ تقول: أرصدت كذا إذا أعددته مرتقبا له به. قال أبو زيد: يقال رصدته وأرصدته في الخير، وأرصدت له في الشر. وقال ابن الأعرابي: لا يقال إلا أرصدت، ومعناه ارتقبت. وقوله تعالى{من قبل} أي من قبل بناء مسجد الضرار. }وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى} أي ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسني، وهي الرفق بالمسلمين كما ذكروا لذي العلة والحاجة. وهذا يدل على أن الأفعال تختلف بالمقصود والإرادات؛ ولذلك قال{وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى}. }والله يشهد إنهم لكاذبون} أي يعلم خبث ضمائرهم وكذبهم فيما يحلفون عليه. {لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} قوله تعالى{لا تقم فيه أبدا} يعني مسجد الضرار؛ أي لا تقم فيه للصلاة. وقد يعبر عن الصلاة بالقيام؛ يقال: فلان يقوم الليل أي يصلي؛ قوله تعالى{أبدا} }أبدا} ظرف زمان. وظرف الزمان على قسمين: ظرف مقدر كاليوم، وظرف مبهم كالحين والوقت؛ والأبد من هذا القسم، وكذلك الدهر. وتنشأ هنا مسألة أصولية، وهي أن }أبدا} وإن كانت ظرفا مبهما لا عموم فيه ولكنه إذا اتصل بلا النافية أفاد العموم، فلو قال: لا تقم، لكفي في الانكفاف المطلق. فإذا قال{أبدا} فكأنه قال في وقت من الأوقات ولا في حين من الأحيان. فأما النكرة في الإثبات إذا كانت خبرا عن واقع لم تعم، وقد فهم ذلك أهل اللسان وقضى به فقهاء الإسلام فقالوا: لو قال رجل لامرأته أنت طالق أبدا طلقت طلقة واحدة. قوله تعالى{لمسجد أسس على التقوى} أي بنيت جدره ورفعت قواعده. والأسس أصل البناء؛ وكذلك الأساس. والأسس مقصور منه. وجمع الأس إساس؛ مثل عس وعساس. وجمع الأساس أسس؛ مثل قذال وقذل. وجمع الأسس أساس؛ مثل سبب وأسباب. وقد أسست البناء تأسيسا. وقولهم: كان ذلك على أس الدهر، وأس الدهر، وإس الدهر؛ ثلاث لغات؛ أي على قدم الدهر ووجه الدهر. واللام في قوله }لمسجد} لام قسم. وقيل لام الابتداء؛ كما تقول: لزيد أحسن الناس فعلا؛ وهي مقتضية تأكيدا. }أسس على التقوى} نعت لمسجد. }أحق} خبر الابتداء الذي هو }لمسجد} ومعنى التقوى هنا الخصال التي تتقى بها العقوبة، وهي فعلى من وقيت، وقد تقدم. واختلف العلماء في المسجد الذي أسس على التقوى؛ فقالت طائفة: هو مسجد قباء؛ يروى عن ابن عباس والضحاك والحسن. وتعلقوا بقول{من أول يوم}، ومسجد قباء كان أسس بالمدينة أول يوم؛ فإنه بني قبل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم؛ قاله ابن عمر وابن المسيب، ومالك فيما رواه عنه ابن وهب وأشهب وابن القاسم. قوله تعالى{من أول يوم} }من} عند النحويين مقابلة منذ؛ فمنذ في الزمان بمنزلة من في المكان. فقيل: إن معناه هنا معنى منذ؛ والتقدير: منذ أول يوم ابتدئ بنيانه. وقيل: المعنى من تأسيس أول الأيام، فدخلت على مصدر الفعل الذي هو أسس؛ كما قال: أي من مر حجج ومن مر دهر. وإنما دعا إلى هذا أن من أصول النحويين أن }من} لا يجر بها الأزمان، وإنما تجر الأزمان بمنذ، تقول ما رأيته منذ شهر أوسنة أو يوم، ولا تقول: من شهر ولا من سنة ولا من يوم. فإذا وقعت في الكلام وهي يليها زمن فيقدر مضمر يليق أن يجر بمن؛ كما ذكرنا في تقدير البيت. ابن عطية. ويحسن عندي أن يستغنى في هذه الآية عن تقدير، وأن تكون }من} تجر لفظة }أول} لأنها بمعنى البداءة؛ كأنه قال: من مبتدأ الأيام. قوله تعالى{أحق أن تقوم فيه} أي بأن تقوم؛ فهو في موضع نصب. و}أحق} هو أفعل من الحق، وأفعل لا يدخل إلا بين شيئين مشتركين، لأحدهما في المعنى الذي اشتركا فيه مزية. على الآخر؛ فمسجد الضرار وإن كان باطلا لاحق فيه، فقد اشتركا في الحق من جهة اعتقاد بانيه، أو من جهة اعتقاد من كان يظن أن القيام فيه جائز للمسجدية؛ لكن أحد الاعتقادين باطل باطنا عند الله، والآخر حق باطنا وظاهرا؛ ومثل هذا قوله تعالى قوله تعالى{فيه} من قال: إن المسجد يراد به مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فالهاء في }أحق أن تقوم فيه} عائد إليه. و}فيه رجال} له أيضا. ومن قال: إنه مسجد قباء، فالضمير في }فيه} عائد إليه على الخلاف المتقدم. أثنى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على من أحب الطهارة وآثر النظافة، وهي مروءة آدمية ووظيفة شرعية؛ اللازم من نجاسة المخرج التخفيف، وفي نجاسة سائر البدن والثوب التطهير. وذلك رخصة من الله لعباده في حالتي وجود الماء وعدمه؛ وبه قال عامة العلماء. وشذ ابن حبيب فقال: لا يستجمر بالأحجار إلا عند عدم الماء. والأخبار الثابتة في الاستجمار بالأحجار مع وجود الماء ترده. واختلف العلماء من هذا الباب في إزالة النجاسة من الأبدان والثياب، بعد إجماعهم على التجاوز والعفو عن دم البراغيث ما لم يتفاحش على ثلاثة أقوال: الأول: أنه واجب فرض، ولا تجوز صلاة من صلى بثوب نجس عالما كان بذلك أو ساهيا؛ روي عن ابن عباس والحسن وابن سيرين، وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثور، ورواه ابن وهب عن مالك، وهو قول أبي الفرج المالكي والطبري؛ إلا أن الطبري قال: إن كانت النجاسة قدر الدرهم أعاد الصلاة. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف في مراعاة قدر الدرهم قياسا على حلقة الدبر. وقالت طائفة: إزالة النجاسة واجبة بالسنة من الثياب والأبدان، وجوب سنة وليس بفرض. قالوا: ومن صلى بثوب نجس أعاد الصلاة في الوقت فإن خرج الوقت فلا شيء عليه؛ هذا قول مالك وأصحابه إلا أبا الفرج، ورواية ابن وهب عنه. وقال مالك في يسير الدم: لا تعاد منه الصلاة في الوقت ولا بعده، وتعاد من يسير البول والغائط؛ ونحو هذا كله من مذهب مالك قول الليث. وقال ابن القاسم عنه: تجب إزالتها في حالة الذكر دون النسيان؛ وهي من مفرداته. والقول الأول أصح إن شاء الله؛ قال القاضي أبو بكر بن العربي: وأما الفرق بين القليل والكثير بقدر الدرهم البغلي؛ يعني كبار الدراهم التي هي على قدر استدارة الدينار قياسا على المسربة ففاسد من وجهين؛ أحدهما: أن المقدرات لا تثبت قياسا فلا يقبل هذا التقدير. الثاني: أن هذا الذي خفف عنه في المسربة رخصة للضرورة، والحاجة والرخص لا يقاس عليها؛ لأنها خارجة عن القياس فلا ترد إليه. {أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين} قوله تعالى{أفمن أسس} أي أصل، وهو استفهام معناه التقرير. و}من} بمعنى الذي، وهي في موضع رفع بالابتداء، وخبره }خير}. وقرأ نافع وابن عامر وجماعة }أسس بنيانه} على بناء أسس للمفعول ورفع بنيان فيهما. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وجماعة }أسس بنيانه} على بناء الفعل للفاعل ونصب بنيانه فيهما. وهي اختيار أبي عبيد لكثرة من قرأ به، وأن الفاعل سمي فيه. وقرأ نصر بن عاصم بن علي }أفمن أسس} بالرفع }بنيانه} بالخفض. وعنه أيضا }أساس بنيانه} وعنه أيضا }أس بنيانه} بالخفض. والمراد أصول البناء كما تقدم. وحكى أبو حاتم قراءة سادسة وهي }أفمن أساس بنيانه} قال النحاس: وهذا جمع أس؛ كما يقال: خف وأخفاف، والكثير }إساس} مثل خفاف. قال الشاعر: قوله تعالى{على تقوى من الله} قراءة عيسى بن عمر - فيما حكى سيبويه - بالتنوين، والألف ألف إلحاق كألف تترى فيما نون، وقال الشاعر: وأنكر سيبويه التنوين، وقال: لا أدري ما وجهه. }على شفا} الشفا: الحرف والحد، وقد مضى في (آل عمران) مستوفى. و}جرف} قرئ برفع الراء، وأبو بكر وحمزة بإسكانها؛ مثل الشغل والشغل، والرسل والرسل، يعني جرفا ليس له أصل. والجرف: ما يتجرف بالسيول من الأودية، وهو جوانبه التي تنحفر بالماء، وأصله من الجرف والاجتراف؛ وهو اقتلاع الشيء من أصله. }هار} ساقط؛ يقال. تهور البناء إذا سقط، وأصله هائر، فهو من المقلوب يقلب وتؤخر ياؤها، فيقال: هار وهائر، قال الزجاج. ومثله لاث الشيء به إذا دار؛ فهو لاث أي لائث. وكما قالوا: شاكي السلاح وشائك السلاح. قال العجاج: الأشاء النخل، والعبري السدر الذي على شاطئ الأنهار. ومعنى لاث به مطيف به. وزعم أبو حاتم أن الأصل فيه هاور، ثم يقال هائر مثل صائم، ثم يقلب فيقال هار. وزعم الكسائي أنه من ذوات الواو ومن ذوات الياء، وأنه يقال: تهور وتهير. قلت: ولهذا يمال ومفتح. قوله تعالى{فانهار به في نار جهنم} فاعل انهار الجرف؛ كأنه قال: فانهار الجرف بالبنيان في النار؛ لأن الجرف مذكر. ويجوز أن يكون الضمير في به يعود على }من} وهو الباني؛ والتقدير: فانهار من أسس بنيانه على غير تقوى. وهذه الآية ضرب مثل لهم، أي من أسس بنيانه على الإسلام خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق. وبين أن بناء الكافر كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها. والشفا: الشفير. وأشفى على كذا أي دنا منه. في هذه الآية دليل على أن كل شيء ابتدئ بنية تقوى الله تعالى والقصد لوجهه الكريم فهو الذي يبقى ويسعد به صاحبه ويصعد إلى الله ويرفع إليه، ويخبر عنه بقوله واختلف العلماء في قوله تعالى{فانهار به في نار جهنم} هل ذلك حقيقة أو مجاز على قولين؛ [الأول] أن ذلك حقيقة وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذ أَرسل إليه فهُدم رئي الدخان يخرج منه؛ من رواية سعيد بن جبير. وقال بعضهم: كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة. وذكر أهل التفسير أنه كان يحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان. وروى عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن ابن مسعود أنه قال: جهنم في الأرض، ثم تلا }فانهار به في نار جهنم}. وقال جابر بن عبدالله: أنا رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. [والثاني] أن ذلك مجاز، والمعنى: صار البناء في نار جهنم، فكأنه انهار إليه وهوى فيه؛ وهذا كقوله تعالى {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم} قوله تعالى{لا يزال بنيانهم الذي بنوا} يعني مسجد الضرار. }ريبة} أي شكا في قلوبهم ونفاقا؛ قاله ابن عباس وقتادة والضحاك. وقال النابغة: وقال الكلبي: حسرة وندامة؛ لأنهم ندموا على بنيانه. وقال السدي وحبيب والمبرد{ريبة} أي حزازة وغيظا. }إلا أن تقطع قلوبهم} قال ابن عباس: أي تنصدع قلوبهم فيموتوا؛ كقوله {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} قوله تعالى{إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم} قيل: هذا تمثيل؛ مثل قوله تعالى هذه الآية دليل على جواز معاملة السيد مع عبده، وإن كان الكل للسيد لكن إذا ملكه عامله فيما جعل إليه. وجائز بين السيد وعبده ما لا يجوز بينه وبين غيره؛ لأن ماله له وله انتزاعه. أصل الشراء بين الخلق أن يعوضوا عما خرج من أيديهم ما كان أنفع لهم أو مثل ما خرج عنهم في النفع؛ فاشترى الله سبحانه من العباد إتلاف أنفسهم وأموالهم في طاعته، وإهلاكها في مرضاته، وأعطاهم سبحانه الجنة عوضا عنها إذا فعلوا ذلك. وهو عوض عظيم لا يدانيه المعوض ولا يقاس به، فأجرى ذلك على مجاز ما يتعارفونه في البيع والشراء فمن العبد تسليم النفس والمال، ومن الله الثواب والنوال فسمي هذا شراء. وأنشد الأصمعي لجعفر الصادق رضي الله عنه: بها تشتري الجنات إن أنا بعتها بشيء سواها إن ذلكم غبن
لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن قال الحسن: قال العلماء: كما اشترى من المؤمنين البالغين المكلفين كذلك اشترى من الأطفال فآلمهم وأسقمهم؛ لما في ذلك من المصلحة وما فيه من الاعتبار للبالغين، فإنهم لا يكونون عند شيء أكثر صلاحا وأقل فسادا منهم عند ألم الأطفال، وما يحصل للوالدين الكافلين من الثواب فيما ينالهم من الهم ويتعلق بهم من التربية والكفالة. ثم هو عز وجل يعوض هؤلاء الأطفال عوضا إذا صاروا إليه. ونظير هذا في الشاهد أنك تكتري الأجير ليبني وينقل التراب وفي كل ذلك له ألم وأذى، ولكن ذلك جائز لما في عمله من المصلحة ولما يصل إليه من الأجر. قوله تعالى{يقاتلون في سبيل الله} بيان لما يقاتل له وعليه؛ وقد تقدم. }فيقتلون ويقتلون} قرأ النخعي والأعمش وحمزة والكسائي وخلف بتقديم المفعول على الفاعل؛ ومنه قول امرئ القيس: أي إن تقتلوا بعضنا يقتلكم بعضنا. وقرأ الباقون بتقديم الفاعل على المفعول. قوله تعالى{وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن} إخبار من الله تعالى أن هذا كان في هذه الكتب، وأن الجهاد ومقاومة الأعداء أصله من عهد موسى عليه السلام. و}وعدا} و}حقا} مصدران موكدان. قوله تعالى{ومن أوفى بعهده من الله} أي لا أحد أو في بعهده من الله. وهو يتضمن الوفاء بالوعد والوعيد، ولا يتضمن وفاء البارئ بالكل؛ فأما وعده فللجميع، وأما وعيده فمخصوص ببعض المذنبين وببعض الذنوب وفي بعض الأحوال. وقد تقدم هذا المعنى مستوفى. قوله تعالى{فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به} أي أظهروا السرور بذلك. والبشارة إظهار السرور في البشرة. وقد تقدم. وقال الحسن: والله ما على الأرض مؤمن إلا يدخل في هذه البيعة. }وذلك هو الفوز العظيم} أي الظفر بالجنة والخلود فيها. {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين} قوله تعالى{التائبون العابدون} التائبون هم الراجعون عن الحالة المذمومة في معصية الله إلى الحالة المحمودة في طاعة الله. والتائب هو الراجع. والراجع إلى الطاعة هو أفضل من الراجع عن المعصية لجمعه بين الأمرين. }العابدون} أي المطيعون الذين قصدوا بطاعتهم الله سبحانه. }الحامدون} أي الراضون بقضائه المصرفون نعمته في طاعته، الذين يحمدون الله على كل حال. }السائحون} الصائمون؛ عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما. ومنه قوله تعالى وقال آخر: قلت: لفظ }س ي ح} يدل على صحة هذه الأقوال فإن السياحة أصلها الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء؛ فالصائم مستمر على الطاعة في ترك ما يتركه من الطعام وغيره فهو بمنزلة السائح. والمتفكرون تجول قلوبهم فيما ذكروا. واختلف أهل التأويل في هذه الآية هل هي متصلة بما قبل أو منفصلة فقال جماعة: الآية الأولى مستقلة بنفسها يقع تحت تلك المبايعة كل موحد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإن لم يتصف بهذه الصفات في هذه الآية الثانية أو بأكثرها. وقالت فرقة: هذه الأوصاف جاءت على جهة الشرط والآيتان مرتبطتان فلا يدخل تحت المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف ويبذلون أنفسهم في سبيل الله قاله الضحاك. قال ابن عطية: وهذا القول تحريج وتضييق ومعنى الآية على ما تقتضيه أقوال العلماء والشرع أنها أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله ليستبق إليها أهل التوحيد حتى يكونوا في أعلى مرتبة. وقال الزجاج: الذي عندي أن قوله{التائبون العابدون} رفع بالابتداء وخبره مضمر؛ أي التائبون العابدون - إلى آخر الآية - لهم الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا إذ لم يكن منهم عناد وقصد إلى ترك الجهاد لأن بعض المسلمين يجزي عن بعض في الجهاد. واختار هذا القول القشيري وقال: وهذا حسن إذ لو كان صفة للمؤمنين المذكورين في قوله{اشترى من المؤمنين} لكان الوعد خاصا للمجاهدين. وفي مصحف عبدالله }التائبين العابدين} إلى آخرها؛ ولذلك وجهان: أحدهما الصفة للمؤمنين على الإتباع. والثاني النصب على المدح. واختلف العلماء في الواو في قوله{والناهون عن المنكر} فقيل: دخلت في صفة الناهين كما دخلت في قوله تعالى {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم} هذه الآية تضمنت قطع موالاة الكفار حيهم وميتهم فإن الله لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين فطلب الغفران للمشرك مما لا يجوز. فإن قيل: قلت: وهذا صريح في الحكاية عمن قبله، لا أنه قاله ابتداء عن نفسه كما ظنه بعضهم. والله أعلم. والنبي الذي حكاه هو نوح عليه السلام؛ على ما يأتي بيانه في سورة [هود] إن شاء الله. وقيل: إن المراد بالاستغفار في الآية الصلاة. قال بعضهم: ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ولو كانت حبشية حبلى من الزنى لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين بقوله{ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} الآية. قال عطاء بن أبي رباح: الآية في النهي عن الصلاة على المشركين والاستغفار هنا يراد به الصلاة. جواب ثالث: وهو أن الاستغفار للأحياء جائز لأنه مرجو إيمانهم ويمكن تألفهم بالقول الجميل وترغيبهم في الدين. وقد قال كثير من العلماء: لا بأس أن يدعو الرجل لأبويه الكافرين ويستغفر لهما ما داما حيين. فأما من مات فقد انقطع عنه الرجاء فلا يدعي له. قال ابن عباس: كانوا يستغفرون لموتاهم فنزلت فأمسكوا عن الاستغفار ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا. قال أهل المعاني{ما كان} في القرآن يأتي على وجهين: على النفي نحو قوله {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم} ظاهر حالة المرء عند الموت يحكم عليه بها فإن مات على الإيمان حكم له به وإن مات على الكفر حكم له به وربك أعلم بباطن حاله بيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له العباس: يا رسول الله هل نفعت عمك بشيء؟ قال: (نعم). وهذه شفاعة في تخفيف العذاب لا في الخروج من النار على ما بيناه في كتاب }التذكرة}. قوله تعالى{إن إبراهيم لأواه حليم} اختلف العلماء في الأواه على خمسة عشر قولا: [الأول] أنه الدَّعّاء الذي يكثر الدُّعاء؛ قاله ابن مسعود وعبيد بن عمير. الثاني: أنه الرحيم بعباد الله قاله الحسن وقتادة، وروي عن ابن مسعود. والأول أصح إسنادا عن ابن مسعود قاله النحاس. الثالث: إنه الموقن قاله عطاء وعكرمة ورواه أبو ظبيان عن ابن عباس. الرابع: أنه المؤمن بلغة الحبشة قاله ابن عباس أيضا. [الخامس] أنه المسبح الذي يذكر الله في الأرض القفر الموحشة؛ قاله الكلبي وسعيد بن المسيب. [السادس] أنه الكثير الذكر لله تعالى قاله عقبة بن عامر [السابع] أنه الذي يكثر تلاوة القرآن. وهذا مروي عن ابن عباس. قلت: وهذه الأقوال متداخلة وتلاوة القرآن يجمعها. [الثامن] أنه المتأوه؛ وربما قلبوا الواو ألفا فقالوا: آه من كذا. وربما شددوا الواو وكسروها وسكنوا الهاء فقالوا: أوه من كذا. وربما حذفوا مع التشديد الهاء فقالوا: أو من كذا بلا مد. وبعضهم يقول: آوه بالمد والتشديد وفتح الواو ساكنة الهاء لتطويل الصوت بالشكاية. وربما أدخلوا فيها التاء فقالوا: أوتاه يمد ولا يمد. وقد أوه الرجل تأويها وتأوه تأوها إذا قال أوه، والاسم منه الآهة بالمد. قال المثقب العبدي: والحليم: الكثير الحلم وهو الذي يصفح عن الذنوب ويصبر على الأذى. وقيل: الذي لم يعاقب أحدا قط إلا في الله ولم ينتصر لأحد إلا لله. وكان إبراهيم عليه السلام كذلك وكان إذا قام يصلي سمع وجيب قلبه على ميلين.
|