الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
روافده أكرم الرافدات *** بخٍ لك بخٍّ لبحرٍ خضم على أن الشاعر جمع فيه لغتي بخٍ الموصولة في الدرج، وهما: تخفيف الخاء مع الكسر والتنوين، وتشديدها كذلك. وهذا من الصحاح فإنه قال: بخ كلمة تقال عند المدح والرضا بالشيء، وتكرر للمبالغة فيقال: بخ بخ. فإن وصلت خفضت، ونونت، فقلت: بخٍ بخٍ، وربما شددت كالاسم. وقد جمعهما الشاعر فقال يصف بيتاً: روافده أكرم الرافدات ***.............. البيت وأورده أبو عبيد القاسم بن سلام في الغريب المصنف قال: الروافد خشب السقف، قال الشاعر وذكر بيتاً: روافده أكرم الرافدات ***.............. البيت قال شارح أبياته، يوسف بن الحسن السيرافي: بخ كلمة تقال عند وصف الشيء بالرفعة والتناهي في الأمور الجليلة: وهي مبنية على السكون، لأنه من أسماء الأفعال، والفعل الذي هي في موضعه فعل تعجبٍ في قولك: أفعل به، في موضع أعظم به، وأكرم به، كما كان صه في موضع اسكت. وهو في نية تعريف. وهذه الأفعال التي للتعريف إذا نوي بها التعريف لم تنون؛ وإن نوي بها التنكير نونت. فمن قال: بخٍ ونون أراد به النكرة فأدخل التنوين، وهو حرف ساكن، على الخاء وهي ساكنة، فاجتمع ساكنان فكسرت الأولى منهما، وهي الخاء. فإن قال قائل: الساكنان إذا التقيا في كلمة واحدة كسر الثاني منهما، نحو: دراك ونزال، وإذا التقيا من كلمتين كسر الأول، نحو: اضرب ابنك وأكرم القوم، فلما كسرت الخاء لدخول التنوين، وهما في كلمة واحدة ولم يكسر التنوين؟ قيل له: التنوين ليس من الكلمة، وهو مضمومٍ إليها داخلٌ للعلامة، وليس من حروفها، فجرى مجرى كلمة غير الكلمة الأولى. وبخ بالتشديد هو الأصل، والمخفف ما حذف منه حرفٌ من الأصل. والخضم: الكثير العظيم الكثرة. وصف البيت بالكرم وأراد كرم من هو بيته. انتهى. فعلى كلامه هي اسم فعلٍ، لا اسم صوت. والبيت لم أقف على قائله وتتمته. والله أعلم. وأنشد بعده: وصار وصل الغانيات أخا على أن الشاعر جعل أخا كالمصدر فأعربه، وهو مصدر بمعنى المفعول، أي: مكروهاً. وكذلك أورد الزمخشري في الأصوات وقال: وأخ عند التكره. قال العجاج: وصار وصل الغانيات أخا وروى كخا. قال ابن دريد في الجمهرة: أخ، وذكرها بالفتح، كلمة تقال عند التأوه، وأحسبها محدثه. وكخ: زجر للصبي، وردعٌ له، وتقال عند التقذر للشيء، وتكسر الكاف، وتفتح، وتسكن الخاء وتكسر، بتنوين وغير تنوين، قيل: هي أعجمية عربت. كذا في النهاية. ولم أر نسبة البيت للعجاج إلا في المفصل. وفي العباب للصاغاني يقال للصبي إذا نهي عن فعل شيء قذرٍ: إخ بالكسر، بمنزلة قول العجم: كخ، كأنه زجر، وقد تفتح همزته، قال أعرابي: وكان وصل الغانيات أخا ويروى كخا. وإخ بالكسر: صوت يناخ به الجمل ليبرك؛ ولا يشتق منه الفعل فلا يقال أخخت الجمل. إنما يقولون أنخته. وهو من أبيات رواها جماعة غفلاً، منهم ثعلب في أماليه، وأنشد: لا خير في الشيخ إذا ما أجلخ *** وسار غرب عينه ولخا وكان أكلاً قاعداً وشخ *** تحت رواق البيت يخشى الدخا وانثنت الرجل فكانت فخ *** وكان وصل الغانيات أخا اجلخ: سقط ولم يتحرك. ولخ: سال. وأخ كقولك: أف وتف. انتهى. وكذا رواها الزجاجي في أماليه الوسطى عن ابن الأعرابي، وقال: اجلخ: اعوج. ولخ: التصقت عينيه. وشخا، يقول: كثر غائطه. والدخ، بضم الدال وفتحها: الدخان. ويغشى الدخ: يغشى التنور، فيقول: أطعموني. انتهى. وقال علي بن حمزة البصري في التنبيهات: الغرب: بثرة تكون في العين تقذى ولا ترقأ. وأنشد الأبيات. وكذلك أنشد الأبيات ابن دريد في الجمهرة وقال: لخت عينه تلخ لخاً ولخخاً، إذا كثرت دموعها وغلظت جفونها. وربما قالوا: لحت، أي: بالمهملة. وقال أبو عبد الله محمد بن الحسين اليمني في طبقات النحويين: حدثنا ابن مطرف، قال: أخبرنا ابن دريد، قال: أخبرنا عبد الرحمن عن عمه، قال: قالت أعرابيةُ في زوجها وكان شيخاً: لا خير في الشيخ إذا ما اجلخا الأبيات. فقال زوجها: أم جوارٍ ضنؤها غير أمر *** صهصلق الصوت بعينيها الصبر تبادر الذئب بعدوٍ مشفتر *** سائلةٌ أصداغها ما تختمر تغدو عليهم بعمودٍ منكسر *** حتى يفر أهلها كل مفر لو نحرت في بيتها عشر جزر *** لأصبحت من لحمهن تعتذر فقالت لزوجها: اسكت فإنا حماراً العبادي. قال: أجل، وأنت بدأت. انتهى. وجوارٍ: جمع جارية. والضنء، بفتح الضاد المعجمة وكسرها وسكون النون بعدها همزة: النسل والولد، ولا واحد له من لفظه. وأمرٌ: كثيرٌ، من أمر كفرح، إذا كثر، والصهصلق، قال في القاموس: هي العجوز الصخابة، ومن الأصوات: الشديد. والصبر: عصارة شجر مرٍّ. يريد أن عينيها تدمع دائماً كأن في عينيها هذه العصارة. والمشفتر كمقشعر: المشمر، والمنتصب. وسائلة أصداغها، أي: طويلة شعر الأصداغ. وما تختمر، أي: لم تستعمل الخمار. والجزر بضمتين: جمع جزور، وهو البعير، والناقة المجزورة، وما يذبح من الشاء؛ واحدتها جزرة. أنشد فيه، كلف من عنائه وشقوته *** بنت ثماني عشرةٍ من حجته على أن بعض الكوفيين أجاز إضافة النيف إلى العشرة. قال أبو علي في التذكرة القصرية: البغداديون يجيزون خمسة عشر، فيضيفون وأنت تريد به العدد، ويستشهدون بقول الشاعر: كلف من شقائه وشقوته *** بنت ثماني عشرةٍ من حجته وأصحابنا يمنعون من ذلك، إذا أردت به العدد. فإن سميته بخمسة عشر جازت الإضافة على قول من قال: معديكرب، وجاز أن لا تضيف على حد من قال: معديكرب؛ لأنه قد خرج عن العدد بالتسمية. وأجاز ذاك أبو عمر في الفرخ. انتهى. وقال ابن الأنباري في مسائل الخلاف: ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز إضافة النيف إلى العشرة، واستدلوا بالبيت، ولأن النيف اسم مظهرٌ كغيره من الأسماء المظهرة التي تجوز إضافتها، ومنعه البصريون لأن الاسمين قد جعلا اسماً واحداً، فكما لا يجوز أن يضاف الاسم الواحد بعضه إلى بعض فكذلك ها هنا. وبيان ذلك: أن الاسمين لما ركبا دلا على معنًى واحد، والإضافة تبطل ذلك المعنى. ألا ترى أنك لو قلت: قبضت خمسة عشر من غير إضافة، دل على أنك قد قبضت خمسةً وعشرة. وإذا أضفت، دل على أنك قبضت الخمسة دون العشرة، فلما كانت الإضافة تبطل المعنى المقصود وجب أن لا تجوز. وأما البيت فلا يعرف قائله، ولا يؤخذ به. على أنا نقول: إنما صرفه لضرورة، ورده إلى الجر لأن ثماني عشرة لما كانا بمنزلة اسم واحد، وقد أضيف إليهما بنت رد الإعراب إلى الأصل بإضافة بنت إليهما، لا بإضافة ثماني إلى عشرة. وهم إذا صرفوا المبني للضرورة ردوه إلى الأصل. وأما قولهم إن النيف اسمٌ مظهر كغيره من الأسماء في جواز الإضافة، قلنا: إلا أنه مركب، والتركيب ينافي الإضافة، لأن التركيب جعل الاسمين اسماً واحداً بخلاف الإضافة، فإن المضاف يدل على مسمى، والمضاف إليه يدل على مسمًى آخر. وحينئذ لا يجوز الإضافة لاستحالة المعنى. اه. وأنشد الفراء البيت في موضعين من تفسيره عن أبي ثروان: أحدهما: عند قوله تعالى: {إني رأيت أحد عشر كوكب}، لما ذكر من مذهب الكوفيين، وفصل المسألة عندهم. وثانيهما عند قوله تعالى: {ربنا غلبت علينا شقوتن}، بكسر الشين، وهي قراءة أهل المدينة وعاصم، وأنشد هذا البيت أيضاً. والعناء: بالفتح: التعب والنصب. والحجة، بالكسر: السنة. ونائب فاعل كلف: ضمير الرجل، وبنت: مفعول ثان لكلف. قال الجاحظ في كتاب الحيوان: أنشدني أبو الرديني الدلهم بن شهاب، أحد بني عوف بن كنانة، من عكل، قال: أنشدني نفيع بن طارق: علق من عناءه وشقوته *** بنت ثماني عشرةٍ من حجته وقد رأيت هدجاً في مشيته *** وقد جلا الشيب عذار لحيته يظنها ظناً بغير رؤيته *** تمشي بجهمٍ ضيقه في همته لم يخزه الله برحبٍ سعته *** حجم بعد حلقه ونورته كقنفذ القف اختفى في فروته *** لا يقنع الأير بنزع زهرته كأن فيه وهجاً من ملته والهدج: مشية الشيخ. والجهم: الباسر الكالح، من جهم بالضم، إذا صار باسر الوجه. أراد حراً جهماً ذا عكنٍ، كالوجه الجهم. وقوله: ضيقه في همته، أراد أن حرها ضيقٌ كضيق همته. وحجم، بفتح الجيم والحاء المهملة، أي: برز الحر الجهم، من حجم الرجل، إذا فتح عينيه كالشاخص. والقف: حجارة غاصٌّ بعضها ببعض، مترادف بعضها إلى بعض. والملة: بالفتح: الرماد الحار. وأنشد بعده: ولا تبلى بسالتهم وإن هم *** صلوا بالحرب حيناً بعد حين على أن أصل حين حين بالتركيب، حيناً بعد حين، كما في البيت. وأورده صاحب الصحاح في صلي بالأمر، كفرح، إذا قاسى حره وشدته. والبيت من أبياتٍ لأبي الغول الطهوي، أوردها القالي في أماليه، وأبو تمامٍ في أول حماسته، وهي: فدت نفسي وما ملكت يميني *** فوارس صدقوا فيهم ظنوني فوارس لا يملون المناي *** إذا دارت رحى الحرب الزبون ولا يجزون من حسنٍ بسوءى *** ولا يجزون من غلظٍ بلين ولا تبلى بسالتهم وإن هم *** صلوا بالحرب حيناً بعد حين هم منعوا حمى الوقبى بضربٍ *** يؤلف بين أشتات المنون فنكب عنهم درء الأعادي *** وداووا بالجنون من الجنون ولا يرعون أكناف الهوينى *** إذا حلوا ولا أرض الهدون قوله: فدت نفسي إلخ، جملة دعائية، وما موصولة. وتخصيص اليمين لفضلها، وقوة التصرف بها، وهم يقيمون البعض مقام الجملة، وينسبون إليه الأحداث والأخبار كثيراً، كقوله تعالى: {فظلت أعناقهم لها خاضعين}. قال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي: قوله: صدقوا فيهم ظنوني، ف ظنوني مفعولة. وروى غير القالي: صدقت فيهم ظنوني فالظنون على هذه الرواية فاعلةٌ. ويروى: صدقت بضم الصاد فتكون الظنون مفعولةً. يريد: أنها نائب فاعل. وأنشده صاحب الكشاف في صورة سبأ، برواية: صدقت فيهم ظنوني، وقال: لو قرئ: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه، بتشديد الدال ورفع إبليس والظن كما في البيت لكان مبالغةً في الصدق عليهم. وفوارس شاذ في الجموع، لأن فواعل جمع فاعلة لما يعقل دون فاعل. والمعنى: تفدي نفسي ومالي أجمع فوارس يكونون عند ظنوني بهم في الحرب. وقوله: فوارس لا يملون إلخ، بالنصب بدل من فوارس، وبالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: هم فوارس. والمنايا: جمع منية، وهي الموت؛ أراد أسبابها. والزبون: الناقة التي تزبن حالبها، أي: تدفعه برجلها، ومنه الزبانية، لأنهم يدفعون إلى النار. وإنما لم يؤنث لاستواء فعول في المؤنث والمذكر. شبه الحرب التي لا تقبل الصلح بالناقة الزبون. ويقال: ثبت فلانٌ في رحا الحرب، أي: حيث دارت كالرحا. قوله: ولا يجزون من حسن إلخ، يشرح إن شاء الله في أفعل التفضيل. قوله: ولا تبلى بسالتهم إلخ، قال الطبرسي: تبلى من بلي الثوب. ويروى: تبلى بالضم، من بلوت إذا اختبرت. والبسالة يوصف بها الأسد والرجل، وصلوا من صليت بكذا، أي: منيت به. وجواب إن هم صلوا يدل عليه ما قبله، تقديره: إن منوا بالحرب، لم تخلق شجاعتهم، ولم تختبر شجاعتهم ليعرف غورها ومنتهاها على مر الزمان، واختلاف الأحوال. انتهى. وقال أبو عبيد البكري: هكذا الرواية تبلى بالفتح من البلى. وروى غير القالي: ولا تبلى بضم التاء من الابتلاء، وهو الاختبار، أي: لا يختبر ما عندهم من النجدة والبأس، وإن طال أمد الحرب، لكثرة ما عندهم من ذلك. ويجوز على هذه الرواية صلوا بالحرب إلا بعد حين. وقوله: هم منعوا حمى إلخ، الحمى: موضع الماء والكلأ. والوقبى: بفتح الواو والقاف: موضع بقرب البصرة. وكان حديثه أن عبد الله ابن عامر كان عاملاً لعثمان بالبصرة وأعمالها. واستعمل بشر بن حارث بن كهف المازني على الأحماء التي منها الوقبى، فحفر بها ركيتين: ذات القصر، والجوفاء، فانتزعهما منه عبد الله بن عامر، ووقعت الحرب بينهم بسبب ذلك، وعاد الماء في آخر حروب ومغاورات إلى بني مازن. كذا قال شراح الحماسة. وقال أبو عبيدة: كانت الوقبى لبكرٍ على إيادٍ الدهر، فغلبهم عليها بنو مازن بعون عبد الله بن عامر صاحب البصرة لهم، فهي بأيدي بني مازن اليوم. وكان بين بني شيبان، وبين مازن حرب فيها، وتعرف بيوم الوقبى، قتل فيها جماعة من بني شيبان.انتهى. يقول: إن هؤلاء القوم الذين يمنعون حمى هذا المكان، بضربٍ يجمع بين المنايا المتفرقة. وهذا يحتمل وجوهاً: يجوز أن يكون أن هؤلاء، لو بقوا في أماكنهم، ولم يجتمعوا في هذه المعركة لوقعت مناياهم متفرقةً في أمكنةٍ متغايرة، وأزمنة متفاوتة، فلما اجتمعوا تحت الضرب الذي وصفه صار الضرب جامعاً لهم. ويجوز أن يكون المعنى أن أسباب الموت مختلفة، وهذا الضرب جمع بين الأسباب كلها. وحكي عن أبي سعيد الضرير، أن المعنى أن الضرب إذا وقع ألف بين أقدارهم التي قدرت عليهم. ويجوز أن يكون المراد: بضربٍ لا ينفس المضروب ولا يمهله،لأنه جمع فرق الموت له. وقوله: فنكب عنهم إلخ، الدرء أصله الدفع، ثم استعمل في الخلاف؛ لأن المختلفين يتدافعان. يقول: هذا الضرب نكب عن هؤلاء القوم اعوجاج الأعادي وخلافهم، وداووا الشر بالشر. وهذا كقولهم: الحديد بالحديد يفلح. وأصل النكب الميل. وقال أبو عبيد البكري: هذا مثل قول عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحدٌ علين *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا وقال الفرزدق: أحلامنا تزن الجبال رزانةً *** ويزيد جاهلنا على الجهال قوله: ولا يرعون أكناف إلخ، الهوينى: الدعة والخفض، وهو مصغر الهونى تأنيث الأهون. ويجوز أن يكون الهونى اسماً مبنياً من الهينة، وهي السكون، ولا تجعله تأنيث الأهون. والهدون: السكون والصلح. يصفهم بالحرص على القتال، وإيثار جانب الخصومة على الصلح. فيقول: لا يرعى هؤلاء القوم، من عزهم ومنعتهم، الأماكن التي أباحتها المسالمة، ووطأتها المهادنة، ولكن يرعون النواحي المحمية، والأراضي المنعية. وأبو الغول الطهوي هو كما قال الآمدي في المؤتلف والمختلف من قوم من بني طهية يقال لهم: بنو عبد شمس بن أبي سود. وكان يكنى أبا البلاد، وقيل له: أبو الغول، لأنه فيما زعم رأى غولاً، فقتلها، وقال: رأيت الغول تهوي جنح ليلٍ *** بسهبٍ كالعباية صحصحان فقلت لها: كلانا نضو أرضٍ *** أخو سفرٍ فصدي عن مكاني إذا عينان في وجهٍ قبيحٍ *** كوجه الهر مشقوق اللسان بعيني بومةٍ وشواة كلبٍ *** وجلدٍ في قر وفي شنان وله في هذا حديث وخبر في كتاب بني طهية. انتهى. ونسب ابن قتيبة تلك الأبيات لأبي الغول النهشلي. قال: علباء بن جوشن، من بني قطن بن نهشل، وكان شاعراً مجيداً، وهو القائل: وسوءةٍ يكثر الشيطان إن ذكرت *** منها التعجب جاءت من سليمانا لا تعجبن لخيرٍ جاء من يده *** فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا انتهى. وأبو الغول النهشلي غير أبي الغول الطهوي، نقلهما الآمدي عن أبي اليقظان؛ وقال في النهشلي: هو علباء بن جوشن، وإنه شاعر ذكره أبو اليقظان ولم ينشد له شعراً، ولم أرى له ذكراً في كتاب بني نهشل. انتهى. وأبو سود، بضم السين هو ابن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. وأم أبي سود: طهية بنت عبد شمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم. ونهشل هو ابن دارم بن مالك بن حنظلة المذكور. فأبو سود يكون عم نهشل. وعلباء بكسر العين المهملة وسكون اللام بعدها باء موحدة وألف ممدودة. وسليمان هو سليمان بن عبد الملك بن مروان. فالنهشلي شاعر إسلاميٌّ في الدولة المروانية، وأما الطهوي فلم أقف على كونه إسلامياً، وجاهلياً. وأنشد بعده: وهو من شواهد س: فلولا يوم يومٍ ما أردن *** جزاءك والقروض لها جزاء على أنه إذا خرج الظروف والأحوال عن الظرفية والحالية وجبت الإضافة ولم يجز التركيب. قال سيبويه: وأما يوم يومٍ؛ وصباح مساءٍ، وبيت بيتٍ، وبين بينٍ، فإن العرب تختلف في ذلك، يجعله بعضهم بمنزلة اسم واحد، وبعضهم يضيف الأول إلى الآخر، ولا يجعله اسماً واحداً، ولا يجعلون شيئاً من هذه الأسماء بمنزلة اسمٍ واحد إلا في حال الحال والظرف، كما لم يجعلوا يا ابن عم، ويا ابن أم بمنزلة شيء واحد إلا في حال النداء. والآخر من هذه الأسماء في موضع جرٍّ، وجعل لفظه كلفظ الواحد، وهما اسمان أحدهما مضافُ إلى الآخر. وزعم يونس، وهو رأيه، أن أبا عمرو، كان يجعل لفظه كلفظه، إذا كان شيءٌ منه ظرفاً، وحالاً. وقال الفرزدق: ولولا يوم يومٍ ما أردن ***...................البيت فالأصل في هذا والقياس الإضافة. انتهى. قال الأعلم: الشاهد فيه إضافة يوم الأول إلى الثاني، على حد قولهم: معديكرب، فيمن أضاف الأول إلى الثاني. يقول: لولا نصر مالكٍ في اليوم الذي تعلم ما طلبنا جزاءك. وجعل نصرهم له قرضاً، يطالبونه بالجزاء عليه.هذا كلامه. ولم يشرح وجه الإضافة. وظاهرها إضافة المترادفين. وقد شرحها أبو علي في التذكرة، قال: أما قوله حين لا حين، فالثاني غير الأول، لأن الحين يقع على الجزء اليسير من الزمان، فأضاف الحين الأول إلى الثاني، ولا زائدةٌ، فيكون من إضافة البعض إلى الكل نحو: حلقة فضةٍ، وعيد السنة، وسبت الأسبوع، فلا يكون إضافة الشيء إلى نفسه. ومثله قول الفرزدق: ولولا يوم يومٍ ما أردن ***.............. البيت فيوم الأول: وضح النهار، والثاني: البرهة، كالتي في قوله: ومن يولهم يومئذٍ دبره. وأنشد أبو عمرو: حبذا العرصات يوم *** في ليالٍ مقمرات فقال: يوماً في ليالي إرادة المدة، دون المعاقب الليل. انتهى. وأنشد بعده وهو من شواهد س: وجن الخازباز به جنونا على أن لام التعريف إذا دخلت على اللغات المذكورة ل خازباز لم تغير ما كان مبنياً عن بنائه. قال ابن بري في شرح أبيات إيضاح الفارسي: بني على الكسر، كما تبنى الأصوات، وفيه لغات. ولما أرادوا تعريفه أدخلوا أل عليه؛ لأن المركب حكمه حكم المفرد في ذلك، نحو: الخمسة عشر درهماً. قال أبو علي: وإنما جاز دخول أل عليه، وإن كان الغالب عليه وقوعه صوتاً، لأنهم أوقعوه على غير الأصوات في نحو قوله: يا خازباز أرسل اللهازم *** إني أخاف أن تكون لازما فقيل: إنه ورم. وقد يجوز أن يشبه بباب العباس، لأن ما دخلته أل من ذلك كثير، نحو: تداعين باسم الشيب وشيب: حكاية صوت جذب الماء ورشفه عند الشرب. انتهى. وصدره: تفقأ فوقه القلع السواري والبيت من قصيدةٍ لابن أحمر. وقبله: يظل يحفهن بقفقفيه *** ويلحفهن هفافاً ثخينا بهجلٍ من قساً ذفر الخزامى *** تهادى الجربياء به الحنين تفقأ فوقه القلع السواري ***.............. البيت يصف في هذه الأبيات نعاماً. ويحفهن، أي: يحف بياضات. والقفقفان: الجناحان. والقفقف كجعفر، بقافين بينهما فاءان. وجناح هفاف، أي: حفيف الطيران. وحمله ثخيناً لتراكب الريش عليه. أي: يلبس بيضه جناحيه، ويجعلهما للبيض كاللحاف، وجناحه خفيف مع ثخنه وكثرة ريشه، لأنه لو كان ثقيلاً لكسر البيض. وقوله: بهجل من قساً إلخ، الباء متعلقة بيلحفهن. والهجل، بفتح الهاء وسكون الجيم: المطمئن من الأرض. والروض أحسن ما يكون في مطمئن، لأن السيول تجتمع فيها. وقساً، بفتح القاف والسين المهملة: موضع. يريد أن هذا الموضع أدحيها ومحل بيضها. وذفر: صفة لهجل بفتح الذال المعجمة وكسر الفاء، وصفٌ من الذفر بفتحتين، وهو كل ريح ذكية من طيب ونتن. وأما الدر بالمهملة وسكون الفاء فهو النتن خاصة. والخزامى، بضم المعجمة: نبات طيب الريح. والجربياء، بكسر الجيم: ريح الشمال. وتهادى، أي: تتهادى، أي: تهدي إليه الحنين، وهو الشوق وتوقان النفس. وضمير به للهجل. وقوله: تفقأ فوقه، أي:فوق الهجل. وتفقأ، أي: تتفقأ، فهو مضارع، أي: تنشق السحائب فوق هذه الروضة التي في هذا الهجل. وقال المرزوقي في شرح الفصيح: يقال: تفقأ السحاب، أي: سال بالمطر. وأنشد البيت. وجملة تفقأ صفة أخرى من هجل وحال منه. والقلع بفتح القاف واللام: جمع قلعة، وهي القطعة العظيمة من السحاب. وقال ابن السكيت في لإصلاح المنطق: السحاب العظام. والسواري: جمع سارية، وهي السحابة التي تأتي ليلاً. والخازباز هنا: نبت. قال ابن السيرافي في شرح أبيات الإصلاح: جنونه: طوله وسرعة نباته. وبه، أي: بهذا الهجل. وكذلك قال قبله وحنيفة الدينوري في كتاب النبات: المجنون من الشجر كله، العشب: ما طال طولاً شديداً. وإذا كان كذلك قيل جن جنوناً. وأنشد هذا البيت. وقال في ثلاثة مواضع أخر من كتابه: الخازباز من ذبان العشب. وأنشدوا قول ابن أحمر في صفة عشب: وجن الخازباز به جنونا يعني في هزجه وطيرانه. وقال آخرون، هو نبتٌ. وجنونه: طوله وسموقه. انتهى. وفسره حمزة في أمثاله بالذباب عند قوله: الخازباز أخصب، قال: هو ذباب يطير في الربيع، يدل على خصب السنة. وأنشد البيت. وفسره الزمخشري أيضاً في المفصل بذباب العشب. ومثل للعشب بقوله: والخازباز السنم المجودا وهو من أرجوزة أورد بعضها ابن الأعرابي في نوادره، وهو: أرعيتها أطيب عودٍ عود *** الصل والصفصل واليعضدا والخازباز الناعم الرغيد *** والصليان السنم المجودا بحيث يدعو عامر مسعودا فهذا صوابه. وقد سبق الزمخشري ابن السكيت في إصلاح المنطق. وهو مركب من بيتين كما ترى. وهذه أسماء نباتات. والسنم بفتح السين وكسر النون: العالي. والمجود: الذي أصابه الجود، بالفتح، وهو المطر القوي. وعامر ومسعود: راعيان. قال ابن السكيت: قوله: بحيث يدعو إلخ، هذا بيتٌ يلقى فيسأل: لم يدعو أحدهما الآخر؟ فالجواب: إنما قال هذا لكثرة النبت وطوله، بحيث يواري مسعوداً عن عامر، فلا يعرف عامرٌ مكان مسعود؛ فيدعوه ليعرف مكانه. وأطيب: مفعول ثان. وروى بدله: أكرم. وها: ضمير الإبل مفعول أول. ومن روى: رعيتها، فأطيب حال وها ضمير البقعة وما بعده بدل من أطيب على الوجهين. وتسمية هذه النباتات عوداً على اعتبار تسمية الغيث شجرة. وابن أحمر شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الستين بعد الأربعمائة. أنشد فيها، كأن فعلة لم تملأ مواكبه *** ديار بكرٍ ولم تخلع ولم تهب على أن فعلة كناية عن موزونه مع اعتبار معناه، وهو خولة. والبيت للمتنبي من قصيدةٍ رثى بها خولة أخت سيف الدولة الحمداني، ولم يصرح بلفظها استعظاماً، لكونها ملكة بل كنى عن اسمها بفعلة، فلفظ فعلة حكمها حكم موزونها، ممتنع من الصرف للعلمية والتأنيث، فكذا فعلة ممتنع. وقد أورده الشارح المحقق في باب العلم أيضاً. ومنه قول المتنبي أيضاً: يا وجه داهية التي لولاك م *** أكل الضنى جسمي ورض الأعظما قال ابن فورجة: داهية ليست باسم علم لمحبوبته، ولكن كنى بها عن اسمها، على سبيل التضجر، لعظم ما حل به من بلائها، أي: إنها لم تكن إلا داهية عليه. وزعم ابن جني أن داهية اسم التي شبب بها. ولم يصب الواحدي في قوله: الوجه قول ابن جني: فترك صرفها في البيت، ولو لم يكن علماً كان الوجه صرفها. اه. وقد نقل الشارح المحقق عن سيبويه أن حال كناية العلم في الصرف ومنعه، كحال العلم. وبه يضمحل قوله: ولو لم تكن علماً لكان الوجه صرفها. وهذه أبياتٌ من أول القصيدة: يا أخت خير أخٍ يا بنت خير أبٍ *** كنايةً بهما عن أشرف النسب قال الواحدي: أراد يا أخت سيف الدولة، ويا بنت أبي الهيجاء، فكنى عن ذلك، ونصب كناية على المصدر، كأنه قال: كنيت كناية. أجل قدرك أن تسمي مؤبنةً *** ومن يصفك فقد سماك للعرب مؤبنة: مرثية، من التأبين وهو مدح الميت. وتسمي بمعنى تعرفي. أي: أنت أجل من أن تعرفي باسمك، بل وصفك يعرفك بما فيك من المحاسن والمحامد التي ليست في غيرك، كما قال أبو نواس: فهي إذا سميت فقد وصفت *** فيجمع الاسم معنيين معاً إلى أن قال: طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ *** فزعن فيه بآمالي إلى الكذب يريد خبر نعيها، وأنه رجا أن يكون كذباً، وتعلل بهذا الرجاء. والجزيرة: مدينة على شط دجلة بين الموصل وميافارقين. يقول: جاءني خبر موتها من الشام وقطع الجزيرة حتى وصل إلي، فلما سمعت التجأت إلى التعلل بالآمالي، فقلت: لعله يكون كذباً. فلم ينفعني ذلك: حتى إذا لم يدع لي صدقه أمل *** شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي يقول: حتى إذا صح الخبر، ولم يبق لي أملٌ في كونه كذباً، شرقت بالدمع لغلبة البكاء إياي، حتى كاد الدمع يشرق بي، أي: كثرة الدموع حتى صرت بالإضافة إليها لقلة كالشيء الذي يشرق به. والشرق بالدمع: أن يقطع الانتحاب نفسه، فيجعله في مثل حال الشرق بالشيء. والمعنى: كاد الدمع لإحاطته بي أن يكون كأنه شرقٌ بي. تعثرت به في الأفواه ألسنه *** والبرد في الطرق والأقلام في الكتب أورده الشارح المحقق في باب الوقف من شرح الشافية، قال: إن كان قبل الهاء متحركٌ، نحو: به وغلامه، فلا بد من الصلة، إلا أن يضطر شاعر فيحذفها، كقول المتنبي:....... وأنشد البيت. قال الواحدي: أي لهول ذلك الخبر، لم تقدر الألسن في الأفواه أن تنطق ولا البريد في الطريق أن يحمله، ولا الأقلام أن تكتبه. ولم يلحق الياء في الهاء من به، واكتفى بالكسرة ضرورة. وقد جاء عن العرب ما هو أشد من هذا، كقول الشاعر: واشرب الماء ما بي نحوه عطشٌ *** إلا لأن عيونه سيل واديها وهذا كقراءة من قرأ: لا يؤده إليك، بسكون الهاء. ويروى: تعثرت بك يخاطب الخبر، وترك لفظ الغيبة. كذا في شرح الواحدي. وقال المعري: يريد أن هذا الخبر نبأٌ عظيم لا تجترئ الأفواه على النطق به. وهذا قد يجوز أن يكون صحيحاً، لأن الإنسان ربما هاب الإخبار بالشيء لعظمه في نفسه، وكذلك الكاتب الذي يكتب بالخبر الشنيع، ربما يعثر قلمه هيبةً للأمر الذي دخل فيه، وإنما التعثر للكاتب. وأما إذا ادعى التعثر من البرد، فكذب لا محالة، لأن البريد لا يشعر بالخبر. وقد ذكر في موضع آخر ما يدل على أن حامل الكتاب الذي لا يشعر ما فيه غير شاقٍّ عليه حمله فكيف بالدابة التي لا يحكم عليها بالعقل. وذلك قوله لعضد الدولة: حاشاك أن تضعف عن حمل م *** تحمل السائر في كتبه وقال المبارك بن أحمد المستوفي في كتاب النظام: لا فرق بين تعثر القلم وتعثر البريد، لأن نسبة ذلك إليهما محال. وإذا اعتذر في القلم بتعثر الكاتب، فهلا اعتذر في البريد بتعثر أصحابه، لأن كلاً من الأقلام والبرد لا يشعر بالخبر. كأن فعلة لم تملأ مواكبه *** ديار بكر ولم تخلع ولم تهب قال ابن جني: كنى بفعلة عن اسمها، واسمها خولة. قال أبو العلاء: وهذا تقويةٌ لقوله: أجل قدرك أن تسمي مؤبنة قال الواحدي: يذكر مساعيها أيام حياتها، يقول: كأنها لم تفعل شيئاً مما ذكر، لأن ذلك انطوى بموتها. وقال ابن المستوفي في النظام: زعم أبو البقاء أن المعنى: أنها كانت تجهز الجيوش إلى ديار بكر للجهاد. وليس كذلك، لأن الموكب الجماعة يركبون للزينة والفرجة. قال الجوهري: الموكب بابةٌ من السير. والموكب: القوم الركوب على الإبل للزينة، وكذلك جماعة الفرسان. وفي قول أبي الطيب: ديار بكر دليلٌ على ما ذكرته؛ لأنه لو أراد ما ذكره أبو البقاء، كان قد قصر جهادها على موضع مخصوص، وهذا فيه نقصٌ من المدح. وعلى أن ديار بكر كان لسيف الدولة معظمها، فكيف تجهز جيشاً إلى بلاد أخيها. وترجمة المتنبي قد تقدمت في الشاهد الواحد والأربعين بعد المائة. وأنشد بعده: اكفف اكفف هو قطعة من بيت ثان من أحجية للحريري في مقاماته، وهما: يا من تقصر عن مد *** ه خطا مجاريه وتضعف ما مثل قولك للذي *** أضحى يحاجيك: اكفف اكفف على أن المراد بهذين اللفظين المكررين بطريق الإلغاز والتعمية: مهمه، وهو القفز. فإن اكفف يرادفه مه، ومكرره مهمه، فمجموع اكفف اكفف كنايةٌ عن: مهمه. وهذا تعمية وإلغاز. والمعمى واللغز في اللغة كلاهما بمعنى واحد، وهو الشيء المستور. وبينهما فرقٌ عند علماء الأدب. فالمعمى كما قال القطب في رسالة المعمى المسماة بكنز الأسما، في كشف المعمى: هو قولٌ يستخرج منه كلمة فأكثر بطريق الرمز والإيماء، بحيث يقبله الذوق السليم. واللغز: ذكر أوصاف مخصوصة بموصوف لينتقل إليه، وذلك بعبارة يدل ظاهرها على غيره وباطنها عليه. قال القطب في رسالته: قد فرقوا بينهما بأن الكلام إذا دل على اسم شيء من الأشياء بذكر صفاتٍ له تميزه عما عداه كان لغزاً. وإذا دل على اسم خاص بملاحظة كونه لفظاً بدلالة مرموزه سمي ذلك معمًّى. فالكلام الدال على بعض السماء يكون معمى من حيث أن مدلوله اسم من الأسماء بملاحظة الرمز على حروفه، ولغزاً من حيث أن مدلوله ذاتٌ من الذوات بملاحظة أوصافها. فعلى هذا يكون قول القائل في كمون: يا أيها العطار أعرب لن *** عن اسم شيءٍ قل في سومكا تنظره بالعين في يقظةٍ *** كما ترى بالقلب في نومكا يصلح أن يكون لغزاً بملاحظة دلالته على صفات الكمون، ويصلح أن يكون في اصطلاحهم معمًّى، باعتبار دلالته على اسم بطريق الرمز. انتهى. ويقال للمعمى في اللغة أحجية أيضاً، وهي في اصطلاح أهل الأدب نوعٌ منه. وقد نظم الحريري في المقامة السادسة والثلاثين عشرين أحجية، وهو أول من اخترعها وسماها أحجية. وقال: وضع الأحجية، لامتحان الألمعية، واستخراج الخبيئة الخفية. وشرطها أن تكون ذات مماثلةٍ حقيقية، وألفاظ معنوية، ولطيفةٍ أدبية. فمتى نافت هذا النمط، ضاهت السقط، ولم تدخل السفط. ومن أحاجيه قوله في ها، ديةً: أيا مستنبط الغام *** ض من لغزٍ وإضمار ألا اكشف لي ما مثل *** تناول ألف دينار وقد تلاه من جاء بعده فنظم في هذا الأسلوب ما راق وسحر الألباب، وشاق الأفهام لدركها من كل باب. والأحجية في الحقيقة من قسم الترادف والتحليل، وهما من أعمال فن المعمى. فالأحجية نوعٌ من المعمى، وهو فن استنبطه أدباء العجم، أسسوا له قواعد، وعقدوا له معاقد، حتى صار فناً متميزاً من سائر الفنون. وأول من دونه المولى شرف الدين علي اليزيدي مؤرخ الفتوحات التيمورية باللغة الفارسية. وكان شاعراً فصيحاً، وناثراً بليغاً في اللسانين، وتوفي سنة ثلاثين وثمانمائة. قال القطب: وما زال فضلاء العجم يقتفون أثره، ويوسعون دائرة الفن ويتعمقون فيه، إلى أن ألف فيه المولى نور الدين عبد الرحمن الجامي صاحب شرح الكافية، عشر مسائل قد دونت وشرحت. وكثر فيها التصنيف إلى أن نبغ في عصره المولى مير حسين النيسابوري، فأتى فيه بالسحر الحلال، وفاق فيه لتعمقه ودقة نظره سائر الأقران في الأمثال. كتب فيه رسالة تكاد تبلغ حد الإعجاز، أتى فيها بغرائب التعمية والإلغاز، حتى إن المولى عبد الرحمن الجامي مع جلالة قدره، قال: لو اطلعت عليها قبل الآن ما ألفت شيئاً في علم المعمى. وارتفع شأن مولانا مير حسين بسبب علم المعمى، مع تعمقه في سائر العقليات، فصار ملوك خراسان وأعيانها يرسلون أولادهم إليه، ليقرؤوا رسالته عليه؛ إلى أن توفي في عام اثني عشر وتسعمائة بعد وفاة الجامي بأربعة عشر عاماً. وظهر بعدهما فائقون في المعمى في كل قطر، بحيث لو جمعت تراجمهم لزادت على مجلد كبير. ثم قال القطب: وأنت إذا تصفحت كتب الأدب، وتتبعت دواوين شعراء العرب ظفرت من كلامهم بكثيرٍ مما يصدق عليه تعريف المعمى، لكنهم نظموه في قالب اللغز، يستخرج منه الاسم الذي ألغزوه بطريق الإيماء، ووجدت كثيراً من أعمال المعمى في غضون ألغازهم. فليس العجم أبا عذرة هذا الفن، ولكنهم دونوه ورتبوه. ورأيت كثيراً من ألغاز شرف الدين بن الفارض يصدق عليه تعريف المعمى في اصطلاح العجم. ويقرب من ذلك قول القائل في بختيار: وأهيف معشوق الدلال ممنعٍ *** يمزقني في الحب كل ممزق فلو أن لي نصف اسمه رق وارعوى *** والعكس من باقيه لم أتعشق إلى أن قال: وأعمال المعمى ثلاثة: الأول: العمل التحصيلي، وهو ما يتحصل به حروف الكلمة المطلوبة. والثاني: العمل التكميلي، وهو ما بسببه تتكمل الحروف الحاصلة وتترتب. وهذا بمنزلة الصورة، والأول بمنزلة المادة. والثالث: العمل التسهيلي، وهو الذي يسهل أحد العملين السابقين. وتحت كل نوع من هذه الأعمال أنواع متعددة. انتهى. قلت: وأول من دون في المعمى في اللغة العربية، وترجمه بالطريقة العجمية، العالم الفاضل قطب الدين المكي الحنفي، في رسالة سماها كنز الأسما، في كشف المعمى. وتلاه تلميذه عبد المعين بن أحمد، الشهير بابن البكاء البلخي الحنفي، وألف رسالة سماها الطراز الأسمى على كنز الأسما. وأما التأليف في الألغاز والأحاجي فقد صنف فيه جماعة عديدة، لهم فيها كتب مفيدة، وتصانيف سديدة، أجلها علماً وأعظمها حجماً، كتاب الإعجاز، في الأحاجي والألغاز تأليف أبي المعالي سعد الوراق الحظيري وهو كتاب تكل عن وصفه اللسن، جمع فيه ما تشتهيه الأنفس، وتلذ فيع الأعين، ذكر في أوله اشتقاق المعمى واللغز والأحجية، والفرق بينها وبين وما شاكلها، فلا بأس بإيراده هنا، فإنه قلما يوجد في كتاب على أسلوبه. قال في الجمهرة: الحجا: العقل. والحجيا من قولهم: حجياك ما كذا وكذا؟ وهي لعبةٌ وأغلوطة يتعاطاها الناس بينهم، نحو قولهم: أحاجيك ما ذو ثلاث آذان، يسبق الخيل بالرديان؟ يعنون السهم وما أشبه ذلك. وقال أيضاً اللغز: ميلك بالشيء عن جهته، وبه سمي اللغز من الشعر، كأنه عمي عن جهته. واللغيزاء بالمد: أن يحفر اليربوع، ثم يميل في بعض حفر ليعمي على طالبه. والألغاز: طرقٌ تلتوي وتشكل على سالكها، والواحد لغز. وقال الأزهري: قال الليث: اللغز: ما ألغزت من كلام فشبهت معناه، مثل قول الشاعر، أنشده الفراء: ولما رأيت النسر عز ابن دأيةٍ *** وعشش في وكريه جاشت له نفسي أراد به الشيب، شبهه به لبياضه، وشبه الشباب بابن دأية، وهو الغراب الأسود، لأن شعر الشباب أسود. قال: وأخبرني المنذري عن أبي الهيثم، أنه قال: اللغز بضمتين، واللغز بالسكون، واللغيزاء. والألغاز: حفرٌ يحفرها اليربوع في جحره تحت الأرض. يقال: ألغز اليربوع إلغازاً. فيحفر في جانبٍ منه طريقاً ويحفر في الجانب الآخر طريقاً، وكذلك في الجانب الثالث والرابع، فإذا طلبه البدوي بعصاه من جانبٍ، نفق من الجانب الآخر. والأحاجي: جمع أحجية، أفعولة من الحجا، وهو العقل، أي: مسألة تستخرج بالعقل. وقال الأزهري: قال الليث: تقول حاجيته فحجوته، إذا أتت عليه كلمةٌ مخالفة المعنى للفظ. والجواري يتحاجين الحجيا، تصغير الحجوى. وتقول الجارية للأخرى: حجياك ما كلن كذا وكذا؟ والأحجية: اسم المحاجاة، وفي لغةٍ: أحجوة، والياء أحسن. والحجوى: اسمٌ أيضاً للمحاجاة. والمعمى: المغطى. قال الأزهري: التعمية: أن يعمى الإنسان فيلبسه عليه تلبيساً. والأعماء: جمع عمًى، وأنشدونا: وبلدة عاميةٍ أعماؤه أي: دراسة. وأعماؤه: مجاهله، بقال: بلد عمًى لا يهتدى فيه، لأنه لا أعلام له يهتدى بها: والمعامي هي الأراضي المجهولة. وقال الليث: العمى: ذهاب البصر من العينين كلتيهما، والفعل منه عمي يعمى عمًى. وقال مجاهد في قوله تعالى: {قل رب لما حشرتني أعمى وقد كنت بصير}، قال: أعمى عن الحجة، وقد كنت بصيراً بها. وقال ابن عرفة: يقال: عمى عن رشده، وعمي عليه طريقه؛ إذا لم يهتد إليه. وروى أبو عبيد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا رزين العقيلي قال له: أين كان ربنا قبل أن خلق السموات والأرض؟ قال: كان في عماءٍ تحته هواء. وقال أبو عبيد: العماء في كلام العرب: السحاب، وهو ممدود. قال أبو عبيد: وإنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المنقول عنهم، ولا يدرى كيف كان ذلك العماء. قال: وأما العمى في البصر فمقصور، وليس هو من هذا الحديث في شيء. قال الأزهري: وبلغني عن أبي الهيثم في تفسير هذا الحديث أنه في عمًى مقصور، قال: وكل أمر لا تدركه القلوب بالعقول فهو عمًى. والمعنى أنه تبارك وتعالى كان حيث لا تدركه عقول بني آدم، ولا يبلغ كنهه الوصف، ولا تدركه الفطن. ثم قال بعد كلامٍ طويل: فصل في ذكر أسماء هذا الفن وعودها إلى معنى واحد. هذا الفن وأشباهه يسمى المعاياة، والعويص، واللغز، والرمز، والمحاجاة، وأبيات المعاني، والملاحن، والمرموس، والتأويل، والكناية، والتعريض، والإشارة، والتوجيه؛ والمعمى، والممثل. والمعنى في الجميع واحد، وإنما اختلفت أسماؤه بحسب اختلاف وجوه اعتباراته، فإنك إذا اعتبرته من حيث هو مغطى عنك سميته معمًّى؛ مأخوذ من لفظ العمى، وهو تغطية البصر عن إدراك المعقول. وكل شيء تغطى عنك فهو عمًى عليك. وإذا اعتبرته من حيث أنه ستر عنك، ورمس سميته مرموساً، مأخوذ من الرمس، وهو القبر، كأنه قبر، ودفن، ليخفى مكانه عن ملتمسيه. قد صنف بعض الناس في هذا كتاباً، وسماه كتاب المرموس، وأكثره ركيك عامي. وإذا اعتبرته من حيث أن معناه، يؤول إليك، أي: يرجع، ويؤول إلى أصل سميته مؤولاً، وسميت فعلك تأويلاً. وأكثر ما يختص هذا بالآيات والأخبار. والتفسير يختص باللفظ، والتأويل بالمعنى. وإذا اعتبرته من حيث صعوبة فهمه واعتياص استخراجه سميته عويصاً. وهذا يختص بمشكل كل علم، يقال منه مسألة عويصة، وعلم عويص. وإذا اعتبرته من حيث أن غيرك حاجاك به، أي: استخرج مقدار حجاك، وهو عقلك، ومقدار ريثك في استخراجه، مشتقاً من الحجو، وهو الوقوف واللبث، سميته محاجاة، ومسائله أحاجٍ وأحدها أحجية وأحجيا. وهذا أيضاً لا يختص بفن واحد من العلوم، وإن كان الحريري صاحب المقامات قد أفرد له باباً. وإذا اعتبرته من حيث أنه قد عمل له وجوهٌ وأبواب مشتبهة سميته لغزاً وسميت فعلك له إلغازاً، مأخوذ من لغز اليربوع. وإذا اعتبرته من حيث أن واضعه كان يعاييك، أي: يظهر إعياءك. وهو التعب فيه، سميته معاياة. وقد صنف الفقهاء في هذا الفن كتباً، وسموها كتب المعاياة. ولغيرهم من أرباب العلوم مصنفات. وإذا اعتبرته من حيث أن واضعه لم يفصح به قلت: رمز، والشيء مرموز، والفعل رمز وقريب مئة الاشارة. وإذا اعتبرته من حيث استخراج كثرة معانيه في الشعر، سميته أبيات المعاني، وكتب المعاني. وهذا يخص الأدب والشعر. وإذا اعتبرته من حيث هو ذو وجوه سميته الموجه، وسميت فعله التوجيه. وذلك مثل قول محمد بن حكينا، وقد كان أمين الدولة أبو الحسن بن صاعد الطبيب قاطعه ثم استماله، وكان ابن حكينا قد أضر بصره وافتقر، فكتب إليه: وإذا شئت أن تصالح بش *** ر بن بردٍ فاطرح عليه أباه فنفذ إليه برداً واسترضاه، فاصطلحا. وهذا أحسن ما سمعت في التوجيه. قوله: بشار بن برد، أي: أعمى. فاطرح عليه أباه، هذه لفظةٌ بغدادية، يقال: لمن يريد أن يصالح: اطرح عليه فلاناً، أي: احمله إليه ليشفع لك. ولم يتفق لأحدٍ في التوجيه أحسن من هذا. وإذا اعتبرته من حيث أن قائله لم يصرح بغرضه، سميته تعريضاً وكناية. وأكثر أرباب الحياء من الناس مضطرٌّ إلى مثله. وإذا اعتبرته من حيث أن قائله يوهمك شيئاً، ويريد غيره، سميته لحناً، وسميت مسائله الملاحن. وقد صنف الناس في هذا الفن كتباً، كالملاحن لابن دريد، والمنقذ للمفجع، والحيل في الفقه وغيره. فاعرف ذلك. والحريري هو أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري البصري صاحب المقامات. كان أحد أئمة عصره، ورزق السعادة والحظوة التامة في عمل المقامات، واشتملت على شيءٍ كثير من كلام العرب من لغاتها وأمثالها، ورموز أسرار كلامها. ومن عرفها حق معرفتها استدل بها على فضله وكثرة اطلاعه، وغزارة مادته. روي أن الزمخشري لما وقف عليها استحسنها، وكتب على ظهر نسخةٍ منها: أقسم بالله وآياته *** ومشعر الحج وميقاته أن الحريري حريٌّ بأن *** نكتب بالتبر مقاماته ثم صنع الزمخشري المقامات المنسوبة إليه، وهي قليلة بالنسبة إليها، وشرحها أيضاَ، وصنع في إثرها نوابغ الكلم. وقد اعتنى بشرح المقامات أفاضل العلماء شروحاً متنوعة تفوت الحصر والعد. وله أيضاً درة الغواص، وله أيضاً شروحٌ كثيرة قد اجتمع منها عندي خمسة شروح. وله أيضاً ملحة الإعراب في النحو؛ وشرحها أيضاً. وهو عند العلماء يعد ضعيفاً في النحو. وله ديوان رسائل وشعر كثير. وله قصائد استعمل فيها التجنيس كثيراً. ويحكى أنه كان دميماً قبيح المنظر، فجاءه شخصٌ غريب ليأخذ عنه، فلما رآه استزرى شكله، ففهم الحريري ذلك منه، فلما التمس منه أن يملي عليه، قال له: اكتب: ما أنت أول سارٍ غرة قمرٌ *** وائدٌ أعجبته خضرة الدمن فاختر لنفسك غيري إنني رجلٌ *** مثل المعيد فاسمع بي ولا ترني فخجل الرجل، وانصرف عنه. وكانت ولادته سنة ستٍّ وأربعين وأربعمائة، وتوفي في سنة ست عشرة وخمسمائة بالبصرة. والحريري نسبته إلى الحرير وعمله، وبيعه. وكان يزعم أنه من ربيعة الفرس، وكان مولعاً بنتف لحيته عند الفكرة، وكان يسكن في مشان البصرة، بفتح الميم والشين المعجمة، وهي بليدة فوق البصرة كثيرة النخل، موصوفة بشدة الوخم، وكان أصله منها، يقال: إنه كان له بها ثمانية عشر ألف نخلة وإنه كان من ذوي اليسار. ولما اشتهرت المقامات استدعاه من البصرة إلى بغداد وزير المسترشد جلال الدين عميد الدولة، أبو الحسن بن صدقة، وسأله عن صناعته، فقال: أنا رجلٌ منشئ. فاقترح عليه إنشاء رسالة في واقعةٍ عينها، فانفرد في ناحية من الديوان، ومكث زماناً طويلاً فلم يفتح الله عليه بشيء، فقام وهو خجلان. عمل هذين البيتين في أبو محمد المعروف بابن حكينا الشاعر البغدادي: شيخٌ لنا من ربيعة الفرس *** ينتف عثنونه من الهوس أنطقه الله بالمشان كم *** رماه وسط الديوان بالخرس وأما سعد الوراق، فهو أبو المعالي سعد بن علي بن القاسم الأنصاري الخزرجي الوراق الحظيري البغدادي، المعروف بدلال الكتب. كان له نظمٌ جيد، وألف مجاميع، منها كتاب زينة الدهر، وعصرة أهل العصر، وهو ذيلٌ على دمية القصر للباخرزي. وله كتابٌ سماه ملح الملح يدل على كثرة اطلاعه. وله كتاب الألغاز المذكور. وله شعرٌ جيد منه: ومعذرٍ في خده *** وردٌ وفي فيه مدام ما لان لي حتى تغ *** شى صبح سالفه ظلام كالمهر يجمع تحت ر *** كبه ويعطفه اللجام وله أيضاً: أحدقت ظلمة العذار بخدي *** ه فزادت في حبه حسراتي قلت: ماء الحياة في فمه العذ *** ب دعوني أخوض في الظلمات وله كل معنى مليح، مع جودة السبك. وتوفي في يوم الاثنين الخامس والعشرين من صفر سنة ثمان وستين وخمسمائة ببغداد. والحظيري، بفتح الحاء المهملة وكسر الظاء المعجمة: نسبة إلى موضع فوق بغداد، يقال له: الحظيرة، ينسب إليه كثير من العلماء. والثياب الحظيرية منسوبةٌ إليه أيضاً. ولخصت هاتين الترجمتين من الوفيات لابن خلكان. وأنشد بعده: وإني لأكنو عن قذور بغيره *** وأعرب أحياناً بها فأصارح على أنه يقال: كنوت، كما يقال كنيت. وأورده يعقوب بن السكيت في باب ما يقال بالياء والواو من إصلاح المنطق قال: ويقال: كنيته وكنوته. وأنشد أبو زياد: وإني لأكنو عن قذور البيت قال شارح أبياته ابن السيرافي: قذور: امرأة. يقول: أذكرها في بعض الأوقات باسم غيرها، وأصرح باسمها في وقت آخر، وأعرب، وأبين. يقال: أعرب عن الشيء يعرب إعراباً، إذا بينه. وأصارح: أظهر ولا أستر. انتهى. وقال ابن دريد: ناقة قذور: عزيزة النفس لا ترعى مع الإبل، ولا تبرك معها. انتهى. فيكون اسم المرأة منقولاً من هذا. وأبو زياد هو صاحب النوادر المشهورة، أنشد ذلك البيت في نوادره ولم يعزه لأحد. وهو يزيد بن عبد الله بن الحر بن همام بن دهر بن ربيعة بن عمرو بن نفاثة بن عبد الله بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. وقدم أبو زياد بغداد من البادية، أيام المهدي، لأمرٍ أصاب قومه، فأقام ببغداد أربعين سنة، وصنف كتاب النوادر، وهو كتاب كبير فيه فوائد كثيرة. وله كتاب الفروق. ومن شعره: له نارٌ تشب على يفاع *** إذا النيران ألبست القناعا ولم يك أكثر الفتيان مال *** ولكن كان أرحبهم ذراعا وأنشد بعده: رب من أنضجت غيظاً صدره هذا صدر، وعجزه: قد تمنى لي موتاً لم يطع وتقدم شرحه في الشاهد التاسع والثلاثين بعد الأربعمائة. وأنشد بعده: على أنني بعد ما قد مضى *** ثلاثون للهجر حولاً كميلا وتقدم الكلام عليه في الشاهد السادس عشر بعد المائتين. وأنشد بعده: وهو من شواهد س: كم يجود مقرفٍ نال العل *** وكريمٍ بخله قد وضعه على أن يونس يجيز في الاختيار الفصل، بين كم الخبرية، وبين مميزها المتضايفين بالظرف، كما في البيت. قال سيبويه: وقد يجوز أن تجر، يعني: كم، وبينها وبين الاسم حاجز، فتقول: كم فيها رجلٍ. فإن قال قائل: أضمر من بعد فيها؛ قيل له: ليس في كل موضع يضمر الجار. وقد يجوز على قول الشاعر: كم بجودٍ مقرفٍ نال العل *** وكريمٍ بخله قد وضعه الجر والرفع والنصب على ما فسرنا. انتهى. قال الأعلم: فالرفع على أن تجعل كم ظرفاً، ويكون لتكثير المرار، وترفع مقرف بالابتداء وما بعده خبر، والتقدير: كم مرةٍ مقرفٌ نال العلا. والنصب على التمييز، لقبح الفصل بينه وبين كم في الجر. وأما الجر فعلى أنه أجاز الفصل بين كم، وما عملت فيه بالظرف ضرورة. وموضع كم في الموضعين موضع رفع بالابتداء، والتقدير: كثيرٌ من المقرفين نال العلا بجودٍ. والمقرف: النذل اللئيم الأب. يقول: قد يرتفع اللئيم بجوده، ويتضع الرفيع الكريم الأب ببخله. انتهى. وقال ابن الأنباري في مسائل الخلاف: ذهب الكوفيون إلى أنه إذا فصل بين كم الخبرية، وبين الاسم بظرف كان مخفوضاً، بالنقل والقياس. أما بالنقل، فقوله: كم بجود مقرفٍ نال العلا وقال الآخر: كم من بني بكر بن سعدٍ سيدٍ وأما القياس فلأن خفض الاسم بتقدير من، نحو: كم رجل أكرمت، بدليل أن المعنى يقتضيه، فتقدر من في الفصل، كما تقدر في الاتصال. ولا يجوز أن تكون بمنزلة عددٍ ينصب كثلاثين، ولو كانت بمنزلته لكان ينبغي أن لا يجوز الفصل بينهما. وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز فيه الجر ويجب نصبه، لأن كم هي العاملة للجر، لأنها بمنزلة عدد مضاف، فإذا فصل بظرفٍ بطلت الإضافة، لأن الفصل بين المتضايفين بالظرف لا يجوز في الاختيار، فعدل إلى النصب كما قال: كم نالني منهم فضلاً على عدمٍ والتقدير: كم فضل، فلما فصل نصب. وإنما عدل إلى النصب لأن كم بمنزلة عدد ينصب ما بعده. ولم يمتنع النصب بالفصل لأن له نظيراً. وأما قوله: بجود مقرف، فالرواية الصحيحة مقرفٌ بالرفع، وأن الجر شاذٌّ، وهذا هو الجواب عن البيت الثاني. وقولهم: إن من مقدرة قلنا: إن كم عند المحققين من أصحابكم بمنزلة رب، يخفض الاسم بها كرب ولأن حذف حرف الجر له مواضع مخصوصة، وليس هذا منها. وقولهم: إنها لو كانت بمنزلة عدد ينصب ما بعده كثلاثين، لكان ينبغي أن لا يجوز الفصل.قلنا: إنما جاز فيها جوازاً حسناً دون نحو ثلاثين لأن كم منعت من بعض ما لثلاثين من التصرف، فجعل هذا عوضاً مما منعته. ألا ترى أن ثلاثين تكون فاعلة لفظاً ومعنى ومفعولة، فلما منعت كم من هذا جعل لها ضربٌ من التصرف، ليقع التعادل. على أنه جاء الفصل بين ثلاثين ومميزها في الشعر كقوله: على أنني بعد ما قد مضى *** ثلاثون للهجر حولاً كميلا انتهى. وقوله: بجود متعلق بنال، والباء سببية، وكم على هذا الوجه مبتدأ وهي خبرية ونال العلا الخبر. ومن روى بنصب مقرف فهي أيضاً خبرية. قال أبو علي: وقد تجعل كم في الخبر بمنزلة عشرين فينصب ما بعدها، ويختار ذلك إذا وقع الفصل بين المضاف والمضاف إليه. فتكون كم أيضاً مبتدأ، ونال العلا الخبر ونصب مقرف على التمييز. ومن روى برفع مقرف، فهي أيضاً خبرية وموضعها نصب بأنها ظرف، والعامل فيها نال، ومقرف: مبتدأ، ونال العلا خبره. وإنما لم تكن كم في الخبر لأنها هنا ظرف زمان. وقوله: وكريم بالجر عطف على مقرف على رواية الجر، وجملة بخله قد وضعه من المبتدأ والخبر خبر لكم المقدرة. والبيت من أبيات نسبها صاحب الأغاني لأنس بن زنيم، قالها لعبيد الله بن زياد بن سمية. كذا قال صاحب الأغاني وشراح أبيات سيبويه وشراح الجمل وهي: سل أميري ما الذي غيره *** عن وصالي اليوم حتى ودعه لا تهني بعد إكرامك لي *** فشديدٌ عادة منتزعه لا يكن وعدك برقاً خلب *** إن خير البرق ما الغيث معه كم بجودٍ مقرفٍ نال العل *** وشريفٍ بخله قد وضعه وقوله: سل أميري إلخ، أنشده الشارح المحقق في شرح الشافية على أن يدع سمع ماضيه ودع كما في البيت. قال سيبويه: استغنوا عن وذر وودع، بقولهم: ترك. وقد جاء ودع على جهة الشذوذ، قرئ في الشواذ: ما ودعك، وكقوله: حتى ودعه. قال سويد بن أبي كاهل: فسعى مسعاته في قومه *** ثم لم يدرك ولا عجزاً ودع وقال آخر: فكان ما قدموا لأنفسهم *** أكثر نفعاً من الذي ودعوا وقد جاء وادع أيضاً في الشعر، انشده أبو علي في البصريات، وهو: فأيهما ما اتبعن فإنني *** حزينٌ على ترك الذي أنا وادع وقد جاء المصدر أيضاً في الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات وليختمن الله على قلوبهم . وقد جاء اسم المفعول أيضاً. قال خفاف بن ندبة: إذا ما استحمت أرضه من سمائه *** جرى وهو مودوعٌ وواعد مصدق قال الصغاني: أي: متروك لا يضرب، ولا يزجر. وقول ابن بري إن مودوعاً هنا من الدعة التي هي السكون، لا من الترك، يرد عليه أن ودع بمعنى سكن غير متعدٍّ، يقال: ودع في بيته. وقوله: لا تهني هو من الإهانة. والخلب من البرق: الذي لا مطر معه، ولا ينتفع بسحابه. وتضرب به العرب المثل لمن أخلف وعده. قال أعشى همدان: لا يكن وعدك برقاً خلب *** كاذباً يلمع في عرض الغمام الأبيات. ونسب صاحب الحماسة البصرية هذه البيات في باب الوصف لعبد الله بن كريز. وزاد بعد البيت الثاني: واذكر البلوى التي أبليتني *** ومقالاً قلته في المجمعه ورويت أيضاً لأبي الأسود الدؤلي. والله أعلم بحقيقة الحال. وأنس بن زنيم شاعر صحابي، مضاف إلى جده. قال الآمدي:هو أنس ابن أبي أناس الكناني بن زنيم بن محمية بن عبد بن عدي بن الديل بن بكر ابن كنانة بن خزيمة بن مدركة. وهو شاعرٌ مشهور حاذق، وهو القائل: وعوراء من قيل امرئ قد رددته *** بسالمة العينين طالبةٍ عذرا ولو أنه إذ قالها قلت مثله *** واكثر منها أورثت بيننا غمرا فأعرضت عنه وانتظرت به غد *** لعل غداً يبدي لمؤتمرٍ أمرا لأنزع ضيماً ثاوياً في فؤاده *** وأقلم أظفاراً أطال بها الحفر وقال ابن حجر في الإصابة: ذكر ابن إسحاق في المغازي أن عمرو بن سالم الخزاعي، خرج في أربعين راكباً يستنصرون رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش، فأنشده: لا هم إني ناشدٌ محمد *** عهد أبينا وأبيه الأتلدا الأبيات. ثم قال: يا رسول الله، إن أنس بن زنيم هجاك! فهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه، فبلغه ذلك، فقدم عليه صلى الله عليه وسلم معتذراً، وأنشده أبياتاً مدحه بها، وكلمه فيه نوفل بن معاوية الدؤلي فعفا عنه. ومن تلك الأبيات: فلما حملت من ناقةٍ فوق رحله *** أبر وأوفى ذمة من محمد قال دعبل بن علي في طبقات الشعراء: هذا أصدق بيتٍ قالته العرب. ولأنس مع عبد الله بن زياد أمير العراق أخبارٌ أوردها الأصفهاني صاحب الأغاني في ترجمة حارثة بن بدر الغداني فإنه كان بينهما أهاجٍ بعد تصافٍ. وروى أن أنساً لما رأى من عبيد الله بن زياد جفوة، وأثرى لحارثة بن بدر، قال: أهان وأقسى ثم تنتصحونني *** ومن ذا الذي يعطي نصيحته قسرا رأيت أكف المصلتين عليكم *** ملاءاً وكفي من عطائكم صفرا متى تسألوني ما علي وتمنعو *** الذي لي لا أسطع على ذلكم صبرا وإني صرفت الناس عما يريبكم *** ولو شئت قد أغليت في حربكم قدرا وإني مع الساعي عليكم بسيفه *** إذا عظمكم يوماً رأيت به كسرا فقال عبيد الله لحارثة: أجبه. فاستعفاه؛ لمودةٍ كانت بينهما، فأكرهه على ذلك وأقسم عليه، فقال: تبدلت من أنسٍ إنه *** كذوب المودة خوانها أراه بصيراً بعيب الخليل *** وشر الأخلاء عورانها فأجاب أنس: إن الخيانة شر الخلي *** ل والكفر عندك ديوانها بصرت به في قديم الزمان *** كما بصر العين إنسانها ودام الشر بينهما زماناً طويلاً. وذكر ما جرى بينهما وشعر كل واحدٍ في الآخر بإغراء عبيد الله بن زياد. وأنشد بعده: وهو من شواهد س: كم في بني سعد بن بكرٍ سيدٍ *** ضخم الدسيعة ماجدٍ نفاع على أن فيه دليلاً على جواز الفصل بالظرف المستقر عند يونس، كما جاز الفصل بالظرف اللغو في البيت السابق. وسيبويه لا يجيز الفصل بالظرف إلا لضرورة. وأنشد هذا البيت. قال الأعلم: الشاهد فيه خفض سيد ب كم ضرورة، ولو رفع سيد ونصب لجاز كما تقدم. وبيان كونه ظرفاً مستقراً أن كم في محل رفع مبتدأ، والظرف الفاصل في محل رفع خبر المبتدأ. وأخطأ ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل في زعمه أن الظرف حالٌ من سيد، وكان في الأصل صفةً فلما قدم عليه، صار حالاً منه. ووجه الخطأ أن المبتدأ يبقى بلا خبر. وضخم وماجد ونفاع، بجر الثلاثة صفات لسيد. والدسيعة بفتح الدال وكسر السين وبعد المثناة التحتية عين، والثلاثة بالإهمال، ومعناها العطية. قال الأعلم: هي من دسع البعير بجرته، إذا دفع بها. ويقال هي الجفنة والمعنى أنه واسع المعروف. والماجد: الشريف. يصف كثرة السادات في هذه القبيلة. والبيت وقع غفلاً في كتاب سيبويه والمفصل، ولم يعزه أحدٌ من شراحهما إلى قائله. وزعم العيني أنه للفرزدق. والله أعلم به. وأنشد بعده:
|