الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)
قال ابن عبد الظاهر: وباب سعادة ربما ينسب إلى سعادة بن حيان غلام المعز، وكان قد ورد من عنده في جيش إلى جوهر وولي الرملة بعد ذلك.قال: وباب القنطرة منسوبٌ إلى القنطرة التي أمامه، وهي من بناء القائد جوهر بناها عند خوفه من القرامطة ليجوز عليها إلى المقس. والقوس الذي بالشارع الأعظم خارج باب زويلة على رأس المنجبية عند الطيوريين الآن كان باباً بناه الحاكم بأمر الله خارج القاهرة، وكان يعرف بالباب الجديد.وباب الخوخة الذي على القرب من قنطرة الموسكي أظنه من بناء الفاطميين أيضاً. ولما ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب الديار المصرية انتدب لعمارة أسوار القاهرة ومصر في سنة تسع وستين وخمسمائة الطواشي بهاء الدين قراقوش الأسدي الرومي على كثرة من أسرى الفرنج عندهم يومئذ، بنى سوراً دائراً عليها وعلى قلعة الجبل والفسطاط، ولم يزل البناء به حتى توفي السلطان صلاح الدين رحمه الله وهو الموجود الآن؛ وجعل فيها عدة أبواب: منها: باب البحر، وباب الشعرية، وباب البرقية، وباب المحروق، وابتنى برجين عظيمين أحدهما بالمقس على القرب من جامع باب البحر، وهو الذي هدمه الصاحب شمس الدين المقسي وزير الأشرف بن شعبان بن حسين على رأس السبعين والسبعمائة، وأدخله في حقوق الجامع المذكور حين جدد بناءه؛ والثاني بباب القنطرة جنوبي الفسطاط.قال القاضي محي الدين بن عبد الظاهر: وقياس هذا السور من أوله إلى آخره تسعة وعشرون ألف ذراع وثلثمائة وذراعان بالهاشمي، من ذلك من باب البحرح إلى البرج بالكوم الأحمر، يعني رأس منشأة المهراني المتقدم ذكرها في الكلام على خطط الفسطاط عند فوهة خليج القاهرة عشرة آلاف ذراع؛ ومن الكوم الأحمر المذكور إلى قلعة الجبل من جهة مسجد سعد الدولة سبعة آلاف ذراع ومائتا ذراع؛ ومن مسجد سعد الدولة المذكور إلى باب البحر ثمانية آلاف ذراع وثلثمائة واثنان وتسعون ذراعاً، ودائرة القلعة ثلاثة آلاف ذراع ومائة وعشرة أذرع.واقتصر السلطان عماد الدين صاحب حماة في تاريخه على ذرع السور من غير تفصيل ولم يتعرض للذراعين الزائدين.قلت: وهذا السور قد دثره أكثر، وتغيرت معالم غالبه، للصوق عمائر الأملاك به حتى إنه لا يتميز في غالب الأماكن من الأملاك، وسقط ما بين باب البحر إلى الكوم الأحمر حتى لم يبق له أثر. على أن ما هو داخل سور القاهرة الأول من الأماكن أرضه سبخة وماؤه زعاق.قال ابن عبد الظاهر: ولذلك عتب المعز عند وصوله إلى الديار المصرية ودخوله القاهرة على جوهر لكونه لم يعمرها مكان المقس على القرب من باب البحر أو جنوبي الفسطاط على القرب من الرصد لتكون قريبة من النيل، عذبة مياه الآبار.واعلم أن خطط القاهرة قد اتسعت وزادت العمارة حولها، وصار ما هو خارج سورها أضعاف ما هو داخله. ثم منها ما هو منسوب إلى دولة الفاطميين ومنها ما هو منسوب إلى من تقدمهم من الملوك، إما لدروس اسمه الأول وغلبة اسمه الثاني عليه، وإما لاستحداثه بعد أن لم يكن؛ ومنها ما هو مجهول لانقطاع شهرته بطول الأيام ومرور الليالي. وإنما يقع التعرض هنا للأماكن الشهرة، الدائرة على الألسنة دون غيرها؛ وأنا أذكرها على ترتيب الأماكن لا على ترتيب القدم والحدوث.أما خططها المشهورة داخل السور:فمنها حارة بهاء الدين داخل باب الفتوح، وتعرف بالطواشي بهاء الدين قراقوش باني سور القاهرة المتقدم ذكره وكانت في دولة الفاطميين تعرف بين الحارتين؛ ثم اختطها قوم في الدولة الفاطمية يعرفون بالريحانية والعزيزية فعرفت بهم. فلما سكنها بهاء الدين قراقوش المذكور، اشتهرت به ونسي ما قبل ذلك.ومنها حارة برجوان وتعرف ببرجوان الخادم، كان خادم القصور في أيام العزيز بالله بن المعز ثاني خلفاء الفاطميين بمصر، ووصاه على ابنه الحاكم فعظم شأنه، ثم قتله الحاكم بعد ذلك. ويقال إنه خلف في تركته ألف سراويل بألف تكة حرير.وبهذه الحارة كانت دار المظفر ابن أمير الجيوش بدر الجمالي.ومنها خط الكافوري كان بستاناً لكافور الإخشيدي، وبنيت القاهرة وهو بستان، وبقي إلى سنة إحدى وخمسين وستمائة، فاختطه طائفة البحرية والعزيزية إصطبلات، وأزيلت أشجاره وبقيت نسبته إلى كافور على ما كنت عليه.ومنها خط الخرنشف كان ميداناً للخلفاء الفاطميين، وكان لهم سرداب تحت الأرض إليه من باب القصر يمرون فيه إلى الميدان المذكور راكبين، ثم جعل مصرفاً للماء لما بنيت المدرسة الصالحية، ثم بنى به الغز بعد الستمائة إصطبلات بالخرنشف وسكنوها فسمي بذلك.ومنها درب شمس الدولة على القرب من باب الزهومة، وكان في الدولة الفاطمية يعرف بحارة الأمراء، وبها كانت دار الوزير عباس وزير الظافر، وبها المدرسة المسرورية بناها مسرور الخادم، وكان أحد خدام القصر في الدولة الفاطمية وبقي إلى الدولة الأيوبية، واختص بالسلطان صلاح الدين وتقدم عنده، ثم سكنها شمس الدولة توران شاه بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين يوسف، وعمر بها درباُ فعرف به ونسب إليه.ومنها حارة زويلة وتنسب إلى زويلة: قبيلة من البربر الواصلين صحبة القائد جوهر على ما تقدم ذكره في الكلام على باب زويلة، وهي حارة عظيمة متشعبة.ومنها الجودرية وتعرف بطائفة يقال لها الجودرية من الدولة الفاطمية نسبة إلى جودر خادم عبيد الله المهدي أبي الخلفاء الفاطميين، اختطوها وسكونها حين بنى جوهرٌ القاهرة، ثم سكنها اليهود بعد ذلك إلى أن بلغ الحاكم الفاطمي أنهم يهزأون بالمسلمين ويقعون في حق الإسلام، فسد عليهم أبوابهم وأحرقهم ليلاً، وسكنوا بعد ذلك حارة زويلة المتقدمة الذكر.ومنها الوزيرية وتعرف بالوزير أبي الفرج يعقوب بن كلس وزير المعز بالله الفاطمي، وكان يهودي الأصل يخدم في الدولة الإخشيدية، ثم هرب إلى المعز الفاطمي بالمغرب لمال لزمه، فلقي عسكر المعز مع جوهر فرجع معه، وعظمت مكانته عند المعز حتى استوزره، وكانت داره مكان مدرسة الصاحب صفي الدين بن شكر، وزير العادل أبي بكر بن أيوب، المعروفة بالصاحبية بسويقة الصاحب، وكانت قبل ذلك تعرف بدار الديباج.ومنها المحمودية قال القاضي محي الدين بن عبد الظاهر: وللعلها منسوبة إلى الطائفة المعروفة بالمحمودية القادمة في أيام العزيز بالله الفاطمي إلى مصر.ومنها حارة الروم داخل بابي زويلة اختطها الروم الواصلون صحبة جوهر القائد حين بنائه القاهرة فعرفت بهم ونسبت إليهم إلى الآن.ومنها الباطلية قال ابن عبد الظاهر: تعرف بقوم أتوا المعز باني القاهرة وقد قسم العطاء في الناس فلم يعطهم شيئاً، فقالوا: نحن على باطل؟ فسميت الباطلية.ومنها حارة الديلم وتعرف بالديلم الواصلين صحبة أفتكين المعزي وغلام المعز بن بويه الديلمي، وكان قد تغلب على الشام أيام المعز الفاطمي وقاتل القائده جوهراً واستنصر بالقرامطة، وخرج إليهم العزيز بالله فأسره في الرملة وقدم به إلى القاهرة فأجزل له العطاء، وأنزله هو وأصحابه بهذه الخطة. وبها كانت دار الصالح طلائع بن رزيك باني الجامع الصالحي خارج باب زويلة، وكان يسكنها قبل الوزراة؛ وخوخته بها معروفة إلى الآن بخوخة الصالح.ومنها حارة كتامة على القرب من الجامع الأزهر بجوار الباطلية، وتعرف بقبيلة كتامة من البربر الواصلين صحبة جوهر من الغرب.ومنها إصطبل الطارمة بظاهر مشهد الحسين، كان إصطبلاً للقصر، وبهذا الخط كانت دار الفطرة التي يعمل فيها فطرة العيد، بناها المأمون بن البطائحي وزير الآمر، وكانت الفطرة قبل ذلك تعمل بأبواب القصر، وسيأتي الكلام على الفطرة مستوفى في الكلام على ترتيب المملكة في الدولة الفاطمية فيما بعد إن شاء الله تعالى.ومنها حارة الصالحية قبلي مشهد الحسين، كانت طائفة من غلمان الصالح طلائع بن رزيك قد سكنوها فعرفت بهم ونسبت إليهم.ومنها البرقية قال ابن عبد الظاهر: اختطها قوم من أهل برقة قدموا صحبة جوهر فعرفت بهم. ورأيت بخط بعض الفضلاء بحاشية خطط ابن عبد الظاهر أن الصالح طلائع بن رزيك لما قتل عباساً وزير الظافر وتقلد الوزراة عن الآمر، أقام جماعة من الأمراء يقال لهم البرقية عوناً له واسكنهم هذه الخطة فنسبت إليهم.ومنها قصر الشوك على القرب من رحبة الأيدمري، قال ابن عبد الظاهر: كان قبل عمارة القاهرة منزلة لبني عذرة تعرف بقصر الشوك.ومنها خزانة البنود وكانت خزانة السلاح في الدولة الفاطمية، ثم جعلت سجناً في الأيام المستنصرية، ثم احتكرت بعد ذلك وجعلت آدراً.ومنها رحبة باب العيد تنسب إلى باب العيد: أحد أبواب القصر المسمى بباب العيد المقدم ذكره.ومنها درب ملوخية ينسب لملوخية صاحب ركاب الحاكم، وبه مدرسة القاضي الفاضل وزير السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وبه كانت داره.ومنها العطوف وأصل اسمها العطوفية: نسبة إلى عطوف خادم الحاكم.ومنها الجوانية قال ابن عبد الظاهر: وهي صفة لمحذوف، وأصلها حارة الروم الجوانية، وذلك أن الروم الواصلين صحبة جوهر اختطوا حارة الروم المتقدمة الذكر وهذه الحارة، وكان الناس يقولون: حارة الروم الجوانية فثقل ذلك عليهم، فأطلقوا على هذه الجوانية وقصروا اسم حارة الروم على تلك.قال: والوراقون إلى هذا الوقت يقولون حارة الروم السفلى، وحارة الروم العليا المعروفة بالجوانية، ثم قال: ويقال إنها منسوبة إلى الأشراف الجوانيين الذين منهم الشريف الجواني النسابة.وأما خططها المشهورة خارج السور: فمنها الحسينية كانت في الأيام الفاطمية ثماني حارات خارج باب الفتوح أولها: الحارة المعروفة بحارة بهاء الدين المتقدم ذكرها، وهي حارة حامد، والمنشأة الكبرى، والحارة الكبيرة، والمنشأة الصغيرة، وحارة عبيد الشراء، والحارة الوسطة، وسوق الكبير بمصر، والوزيرية، وكان يسكنها الطائفة المعروفة بالوزيرية والريحانية من الأرمن والعجمان وعبيد الشراء.قال ابن عبد الظاهر: وكان بها من الأرمن قريب من سبعة آلاف نفس، ثم سكنها جماعة من الأشراف الحسينيين قدموا في أيام الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب من الحجاز إلى مصر، فنزلوا بهذه الأمكنة واستوطنوها فسميت بهم، ثم سكنها الأجناد بعد ذلك وبنوا بها الأبينة العظيمة والآدر الضخمة.قال ابن عبد الظاهر: هي أعظم حارات الجناد.قلت: وذلك بحسب ما كان الحال عليه في زمانه، ولكنها قد خربت في زماننا هذا، وانتقل الأجناد إلى الأماكن القريبة من القلعة بصليبة الجامع الطولوني ونحوها.وبنى بهاء الدين قراقوش خاناً للسبيل تنزله المارة وأبناء السبيل فعرف خطه به.ومنها الخندق خارج الحسينية بالخندق؛ كان عنده خندق احتفره العزيز بالله الفاطمي، وكان المعز قد أسكن المغاربة هناك في سنة ثلاث وستين وثلثمائة حين تبسطوا في القرافة والقاهرة وأخرجوا الناس من منازلهم، وأمر منادياً ينادي لهم كل ليلة: من بات منهم في المدينة استحق العقوبة.ومنها أرض الطبالة منسوبة لامرأة مغنية اسمها نشب، وقيل طرب، كانت مغنية المستنصر الفاطمي واسمه معد.قال القاضي محي الدين بن عبد الظاهر: ولما ورد الخبر عليه بأنه خطب له ببغداد في نوبة البساسيري قريب السنة غنته نشب هذه: فوهبها هذه الأرض في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة فحكرت وبنيت آدراً فعرفت بها. قال: وكانت من ملح القاهرة وبهجتها؛ وفيها يقول ابن سعيد المغربي مجانساً بين القرط الذي ترعاه الدواب والقرط الذي يكون في الأذن: ومنها خط باب القنطرة قال ابن عبد الظاهر: ذكر لي علم الدين بن مماتي أنه في كتب الأملاك القديمة يسمى بالمرتاحية.ومنها المقس قال القضاعي في خططه: كانت ضيعة تعرف بأم دنينٍ وكانت العاشر الذي يأخذ المكس يقعد بها لاستخراج المال، فقيل المكس بالكاف ثم ابدلت الكاف في الألسنة قافا.قال ابن عبد الظاهر: ومن الناس من يقول فيه المقسم لأن قسمة الغنائم في الفتوح كانت فيه. قال: ولم أر ذلك مسطوراً، وكانت الدكة من نواحيه بستاناً إذا ركب الخليفة من الخليج يوم الكسر أتى إليه في البر الغربي من الخليج في مركبة ويدخله بمفرده فيسقي منه فرسه، ثم يخرج إلى قصره على ما سيأتي ذكره في الكلام على ترتيب المملكة في الدولة الفاطمية، إن شاء الله تعالى.قال ابن عبد الظاهر: والدكة الآن آدرٌ وحارات شهرتها تغني عن وصفها فسبحان من لا يتغير.قلت: وقد خرب أكثر تلك الآدر والحارات حتى لم يبق منها إلا الرسوم، وبعضها باقٍ يسكنه آحاد للناس.ومنها ميدان القمح كان قديماً بستاناً سلطانياً يسمى بالمقسي يدخل الماء إليه من الخليج المعروف بالخليج الذكر الذي بناه كافور الإخشيدي، ثم أمر الظاهر الفاطمي بنقل أنشابه وحفره وجعله بركة قدام اللؤلؤة، وأبقى الخليج المذكور مسلطاً على البركة ليستنقع الماء فيها. فلما ضعفت أمر الخلافة الفاطمية، وهجرت رسومها القديمة في التفرج في اللؤلؤة وغيرها، بنت السودان المعرفون بالطائفة الفرحية الساكنون بالمقس عند ضيقه عليهم قبالة اللؤلؤة حارة سميت حارة اللصوص بسبب تعديهم فيها مع غيرهم، ثم تنقلت بها الحال حتى صار على ما هو عليه الآن.ومنها بر ابن التبان غربي خليج القاهرة، وينسب إلى ابن التبان رئيس حراقة الخلافة الفاطمية، وكان الآمر الفاطمي قد أمر بالعمارة قبالة الخرق غربي الخليج، فأول من عمر به ابن التبان المذكور، أنشأ به مسجداً وبستاناً وداراً فعرفت الخطة به إلى الآن.ومنها خط اللوق وهو خط قديم متسع ينتهي إلى الميدان المعد لركوب السلطان عند وفاء النيل، قد عمر بالأبنية وسكنه رعاع الناس وأوباشهم والمكان المعروف الآن بباب اللوق جزء منه.ومنها بركة الفيل وهي بركة عظيمة متسعة جنوبي سور القاهرة عليها الأبنية العظيمة المستديرة بها.قال ابن عبد الظاهر: وتنسب إلى رجل من أصحاب ابن طولون يعرف بالفيل؛ وما أحسن قول ابن سعيد المغربي: ومنها خط الجامع الطولوني من الصليبة وما والآها، وقد تقدم في الكلام على خطط الفسطاط أن هذه الأرض كانت منازل لأحمد بن طولولن وعسكره، والجبل الذي في جانبها البحري يعرف بجبل يشكر، وعليه بناء الجامع الطولوني المذكور، واستحدث الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله عليه قصوراً جاءت في نهاية الحسن والإتقان، وهي المعروفة بالكبش، ولم يزل يسكنها أكابر الأمراء إلى أن خربها العوام في وقعة الجلبان قبل السبعين والسبعمائة، وهي على ذلك إلى الآن، وقد شرع الناس الآن في استحكار أماكنها للعمارة فيها في حدود سنة ثمانمائة.ومنها خط حارة المصامدة وتنسب لطائفة المصامدة من البربر الذين قدموا مع المعز من المغرب، وكان المقدم عليهم عبد الله المصمودي، وكان المأمون بن البطائحي وزير الآمر قد قدمه ونوه بذكره، وسلم إليه أبوابه للمبيت عليها، وأضاف إليه جماعة من أصحابه.ومنها الهلالية قال ابن عبد الظاهر: أظنها الحارة التي بناها المأمون بن البطائحي خارج الباب الجديد الذي بناه الحاكم بالشارع على يسرة الخارج منه للمصامدة لما قدمهم ونوه بذكرهم، وحذر أن يبني بينها وبين بركة الفيل حتى صارت هذه الحارة مشرفة على شاطيء بركة الفيل إلى بعض أيام الحافظ.ومنها المنتجبية قال ابن عبد الظاهر: بلغني أنها منسوبة لشخص في الدولة الفاطمية يعرف بمنتجب الدولة.ومنها اليانسية قال ابن عبد الظاهر: أظنها منسوبة ليانس وزير الحافظ، وكان يلقب بأمير الجيوش سيف الإسلام، ويعرف بيانس الفاصد لأنه فصد حسن أبن الحافظ، وتركه محلول الفصادة حتى مات.قال: وكان في الدولة من اسمه يانس العزيزي، واليانسية: جماعة كانوا في زمن العزيز بالله، ومنهم يانس الصقلي، ونسبة هذه الحارة محتملة لأن تكون لكل منهم، وقد ذكر ابن عبد الظاهر عدة حارات كانت للجند خارج باب زويلة غير ما لعله ذكره سرداً، منها ما هو مشهور معروف، وهو حارة حلب، والحبانية، ومنها ما ليس كذلك وهو الشوبك، والمأمونية، والحارة الكبيرة، والمنصورة الصغيرة، وحارة أبي بكر.وأما جوامعها فأقدمها الجامع الأزهر:بناه القائد جوهر بعد دخول مولاه المعز إلى القاهرة وإقامته بها، وفرغ من بنائه وجمعت فيه الجمعة في شهر رمضان لسبع خلون من سنة إحدى وستين وثلثمائة، ثم جدد العزيز بن المعز فيه أشياء وعمر به أماكن وهو أول جامع عمر بالقاهرة.قال صاحب نهاية الأرب: وجدده العزيز بن المعز، ولما عمر الحاكم جامعه نقل الخطبة إليه وبقي الجامع الأزهر شاغراً، ثم أعيدت إليه الخطبة وصلي فيه الجمعة في ثامن شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وستمائة في سلطنة الظاهر بيبرس، وتزايد أمره حتى صار أرفع الجوامع بالقاهرة قدراً.قال ابن عبد الظاهر: وسمعت جماعة يقولون إن به طلسماً لا يسكنه عصفور.الجامع الثاني الجامع الحاكمي:بناه الحاكم الفاطمي على القرب من باب الفتوح وباب النصر، وفرغ من بنائه في سنة ست وتسعين وثلثمائة، وكان حين بنائه خارج القاهرة إذ كان بناؤه قبل بناء باب الفتوح وباب النصر الموجودين الآن، وكان هو خارج القوسين اللذين هما باب الفتوح وباب النصر الأولان.ثم قال: وفي سيرة العزيز أنه اختط أساسه في العاشر من رمضان سنة تسع وسبعين وثلثمائة، وفي سيرة الحاكم أنه ابتدأه بعض الوزراء وأتمه الحاكم؛ وعلى البدنة المجاورة لباب الفتوح أنها بنيت في زمن المستنصر في أيام أمير الجيوش سنة ثمانين وأربعمائة، ثم استولى عليها من ملكها والزيادة التي إلى جانبه بناها الظاهر بن الحاكم ولم يكملها، ثم ثبت في الدولة الصالحية نجم الدين أيوب أنها من الجامع وأن بها محراباً، فانتزعت ممن هي معه وأضيفت للجامع، وبني بها ما هو موجود الآن في الأيام المعزية أيبك التركمانيّ ولم تسقف.الجامع الثالث الجامع الأقمر:بناه الآمر الفاطميّ بوساطة وزيره المأمون بن البطائحي؛ وكمل بناؤه في سنة تسع عشرة وخمسمائة؛ ويذكر أن اسم الآمر والمأمون عليه.قلت: ولم يكن به خطبة إلى أن جدّد الأمير يلبغا السالمي، أحد أمراء الظاهر برقوق عمارته في سنة إحدى وثمانمائة ورتّب فيه خطبة.الجامع الرابع الجامع بالمقس بباب البحر، وهو المعروف بالجامع الأنور:بناه الحاكم الفاطميّ أيضاً في سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة.الجامع الخامس الجامع الظافريّ، وهو المعروف الآن بجامع الفكّاهين:بناه الظفر الفاطميّ داخل بابي زويلة في سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وكان زريبة للكباش، وسبب بنائه جامعاً أن خادماً كان في مشترف على الزريبة فرأي ذبّاحاً وقد أخذ رأسين من الغنم فذبح أحدهما ورمى سكّينه وذهب لقضاء حاجة له، فأتى رأس الغنم الآخر فأخذ السكين بفمه ورماها في البالوعة، وجاء الذّبّاح فلم يجد السّكين، فاستصرخ الخادم وخلصه منه، فرفعت القصة إلى أهل القصر فأمروا بعمارته.الجامع السادس الجامع الصالحي:بناه الصالح طلائع بن رزّيك وزير الفائز والعاضد من الفاطميين خارج باب زويلة، بقصد نقل رأس الحسين عليه السلام من عسقلان إليه، عند خوف هجوم الفرنج عليها، فلما فرغ منه لم يمكّنه الفائز من ذلك، وابتنى له المشهد المعروف بمشهد الحسين بجوار القصر، ونقله إليه في سنة تسع وأربعين وخمسمائة؛ وبنى به صهريجاً وجعل له ساقية تنقل الماء إليه من الخليج أيام النيل على القرب من باب الخرق.ولم يكن به خطبة، وأول ما أقيمت الجمعة فيه في الأيام المعزية أيبك التركماني في سنة اثنتين وخمسين وستمائة، وخطب به أصيل الدين أبو بكر الإسعردي؛ ثم كثرت عمارة الجوامع بالقاهرة في الدولة التركية خصوصاً في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون وما بعدها، فعمر بها من الجوامع ما لا يكاد يحصى كثرة؛ كجامع المارديني، وجامع قوصون خارج باب زويلة وغيرهما من الجوامع وأقيمت الجمعة في كثير من المدارس والمساجد الصغار المتفرقة في الأخطاط لكثرة الناس وضيق الجوامع عنهم.وأما مدارسها- فكانت في الدولة الفاطمية وما قبلها قليلة الوجود بل تكاد أن تكون معدومة، غير أنه كان بجوار القصر دارٌ تعرف بدار العلم خلف خان نسرور، كان داعي الشيعة يجلس فيها، ويجتمع إليه من التلامذة من يتكلم في العلوم المتعلقة بمذهبهم، وجعل الحاكم لها جزءاً من أوقافه التي وقفها على الجامع الأزهر وجامع المقس وجامع راشدة؛ ثم أبطل الأفضل بن أمير الجيوش هذه الدار لاجتماع الناس فيها والخوض في المذاهب خوفاً من الإجتماع على المذهب النزاري، ثم أعادها لآمر بواسطة خدام القصر بشرط أن يكون متوليها رجلاً ديناً والداعي هو الناظر فيها، ويقام فيها متصدرون برسم قراءة القرآن.وقد ذكر المسبحي في تاريخه: أن الوزير أبا الفرج يعقوب بن كلس سأل العزيز بالله في حمله رزق جماعة من العلماء، وأطلق لكل منهم كفايته من الرزق، وبنى لهم داراً بجانب الجامع الأزهر فإذا كان يوم الجمعة حلقوا بالجامع بعد الصلاة وتكلموا في الفقه، وأبو يعقوب قاضي الخندق رئيس الحلقة والملقي عليهم إلى وقت العصر، وكانوا سبعة وثلاثين نفراً.ثم جاءت الدولة الأيوبية فكانت الفاتحة لباب الخير، والغارسة لشجرة الفضل، فابتنى الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر دار الحديث الكاملية بين القصرين في سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وقرر بها مذاهب الأئمة الأربعة وخطبةً، وبقي إلى جانبها خراب حتى بني آدراً في الأيام المعزية أيبك التركماني في سني خمسين وستمائة، ووقف على المدرسسة المذكورة، وبنى من بنى من أكابر دولتهم مدارس لم تبلغ شأو هذه، وشتان بين الملوك وغيرهم.ثم جاءت الدولة التركية فأربت على ذلك وزادت عليه، فابتنى الظاهر بيبرس المدرسة الظاهرية بين القصرين بجوار المدرسة الصالحية، ثم ابتنى المنصور قلاوون المدرسة المنصورية من داخل بيمارستانه الآتي ذكره وجعل قبالتها تربةً سنية.ثم ابتنى الناصر محمد بن قلاوون المدرسة الناصرية بجوار البيمارستان المذكور.ثم ابتنى الناصر حسن بن الناصر محمد بن قلاوون مدرسته العظمى تحت القلعة، وهي التي لم يسبق إلى مثلها، ولا سمع في مصرٍ من الأمصار بنظيرها، ويقال إن إيوانها يزيد في القدر على إيوان كسرى بأذرع.ثم ابتنى ابن أخيه الأشرف شعبان بن حسين المدرسة الأشرفية بالصوة تحت القلعة ومات ولم يكملها، ثم هدمها الناصر فرج بن الظاهر برقوق لتسلطها على القلعة في سنة أربع عشرة وثمانمائة، ونقل أحجارها إلى عمارة القاعات التي أنشأها بالحوش بقلعة الجبل، ولم تعهد مدرسة قصدت بالهدم قبلها.ثم ابتنى الظاهر برقوق مدرسته الظاهرية بين القصرين بجوار المدرسة الكاملية فجاءت في نهاية الحسن والعظمة، وجعل فيها خطبة، وقرر فيها صوفية على عادة الخوانق ودروساً للأئمة، وتغالى في ضخامة البناء، ونظم الشعراء فيها، فكان مما أتى به بعضهم من أبيات: وتواردوا كلهم على هذا المعنى، فاقترح علي بعض الأكابر نظم شيء من هذا المعنى فنظمت أبياتاً جاء منها: وفي خلال ذلك ابتنى أكابر الأمراء وغيرهم من المدارس ما ملأ الأخطاط وشحنها.وأما الخوانق والربط- فمما لم يعهد بالديار المصرية قبل الدولة الأيوبية، وكان المبتكر لها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله، فابتنى الخانقاه الصلاحية المعروفة بسعيد السعداء، وسعيد السعداء لقب لخادم للمستنصر الفاطمي اسمه قنبر كانت الدار له، ثم صارت آخر الأيام سكن الصالح طلائع بن زريك، ولما ولي الوزارة فتح من دار الوزارة إليها سرداباً تحت الأرض، وسكنها شاور السعدي وزير العاضد ثم ولده الكامل.فلما ملك السلطان صلاح الدين جعلها خانقاه، ووقف عليها قيسارية الشرب داخل القاهرة، وبستان الحبانية بزقاق البركة.وأما مساجد الصلوات الخمس- فأكثر من أن تحصى وأعز من أن تستقصى، بكل خط منها مسجد أو مساجد لكل منها إمام راتب ومصلون.وأما البيمارستان- فقال القاضي محيي الدبن بن عبد الظاهر: بلغني أن البيمارستان كان أولاً بالقشاشين، يعني المكان المعروف الآن بالخراطين على القرب من الجامع الأزهر، وهناك كانت دار الضرب بناها المأمون بن البطائحي وزير الآمر قبالة البيمارستان المذكور، وقرر دور الضرب بالإسكندرية وقوص وصور وعسقلان، ثم لما ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب الديار المصرية واستولى على القصر، كان في القصر قاعةٌ بناها العزيز بن المعز في سنة أربع وثمانين وثلثمائة، فجعلها السلطان صلاح الدين بيمارستاناً، وهو البيمارستان العتيق الذي داخل القصر، وهو باقٍ على هيئته إلى الآن، ويقال إن فيها طلسماًُ لا يدخلها نمل، وإن ذلك هو السبب الموجب لجعلها بيمارستاناً.قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: ولقد سألت المباشرين بالبيمارستان المذكور عن ذلك في سنة سبع وخمسين وستمائة فقالوا صحيح.ثم ابتنى السلطان الملك المنصور قلاوون رحمه الله دار ست الملك أخت الحاكم، المعروفة بالدار القطبية، بيمارستانا في سنة ثلاث وثمانين وستمائة بمباشرة الأمير علم الدين الشجاعي، وجعل من داخله المدرسة المنصورية والتربة المتقدم ذكرهما، فبقي معالم بعض الدار على ما هو عليه، وغير بعضها. وهو من المعروف العظيم الذي ليس له نظير في الدنيا، ونظره رتبة سنية يتولاه الوزراء ومن في معناهم.قال في مسالك الأبصار: وهو الجليل المقدار، الجليل الآثار، الجميل الإيثار، العظيم بنائه، وكثرة أوقافه، وسعة إنفاقه، وتنوع الأطباء والكحالين والجرائحية فيه.قلت: ولم تزل القاهرة في كل وقت تتزايد عمارتها، وتتجدد معالمها، خصوصاً بعد خراب الفسطاط، وانتقال أهله إليها على ما تقدم ذكره حتى صارت على ما هي عليه في زماننا: من القصور العلية، والدور الضخمة، والمنازل الرحيبة، والأسواق المتدة، والمناظر النزهة، والجوامع البهجة، والمدراس الرائقة، والخوانق الفاخرة، مما لم يسمع بمثله في قطرٍ من الأقطار، ولا عهد نظيره في مصر من الأمصار.وغالب مبانيها بالآجر، وجوامعها ومدارسها وبيوت رؤسائها مبنيةٌ بالحجر المنحوت، مفروشة الأرض بالرخام، مؤزرة الحيطان به، وغالب أعاليها من أخشاب النخل والقصب المحكم الصنعة؛ وكلها أو أكثرها مبيضةٌ الجدر بالكلس الناصع البياض، ولأهلها القوة العظيمة في تعلية بعض المساكن على بعض حتى إن الدار تكون من طبقتين إلى أربع طبقات بعضها على بعض، في كل طبقة مساكن كاملةٌ بمنافعها ومرافقها، وأسطحة مقطعة بأعلاها بهندسة محكمة، وصناعة عجيبة.قال في مسالك الأبصار: لا يرى مثل صناع مصر في هذا الباب، وبظاهرها البساتين الحسان، والمناظر النزهة، والآدر المطلة على النيل، والخلجان الممتدة منه ومن مده؛ وبها المستنزهات المستطابة، خصوصاً زمن الربيع لغدرانها الممتدة من مقطعات النيل وما حولها من الزروع المختلفة وأزهارها المائسة التي تسر الناظر وتبهج الخاطر.قال أبن الأثير في عجائب المخلوقات: وأجمع المسافرون براً وبحراً أنه لم يكن أحسن منها منظراً، ولا أكثر ناساً، وإليها يجلب ما في سائر أقاليم الأرض من كل شيء غريب وزي عجيب؛ وملكها ملكٌ عظيم، كثير الجيوش، حسن الزي لا يماثله في زيه ملكٌ من ملوك الأرض؛ وأهلها في رفاهية عيشٍ وطيب مأكل ومشرب؛ ونساؤه في غاية الجمال والظرف.قال في مسالك الأبصار: أخبرني غير واحد من رأى المدن الكبار أنه لم ير مدينة اجتمع فيها من الخلق ما اجتمع فيه القاهرة.قال: وسألت الصدر مجد الدين إسماعيل عن بغداد وتوريز هل يجمعان خلقاً مثل مصر؟ فقال: في مصر خلق قدر من في جميع البلاد.قال في التعريف: والقاهرة اليوم أم الممالك، وحاضرة البلاد، وهي في وقتنا دار الخلافة، وكرسي الملك، ومنبع الحكماء، ومحط الرحال، ويتبعها كل شرق وغرب خلا الهند فإنه نائي المكان، بعيد المدى، يقع لنا من أخباره ما نكبره، ونسمع من حديثه ما لا نألفه.قال: وكان يخلق لنا أن نجعل كل النطق بالقاهرة دائرة، وإنما نفردها بما اشتملت عليه حدود الديار المصرية، ثم ندير بأم كل مملكة نطاقها، ثم إليها مرجع الكل وإلى بحرها مصب تلك الخلج.قال في مسالك الأبصار: إلا أن أرضها سبخة، ولذلك يعجل الفساد إلى مبانيها.وذكر القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر نحو ذلك وأن المعز لام القائد جوهراً على بنائها في هذا الموضع، وترك جانب النيل عند المقس أو جنوبي الفسطاط حيث الرصد الآن.القاعدة الثالثة القلعة:بفتح القاف ويعبر عنها بقلعة الجبل، وهي مقرة السلطان الآن ودار مملكته.بناها الطواشي بهاء الدين قراقوش المتقدم ذكره للملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله، وموقعها بين ظاهر القاهرة والجبل والفسطاط وما يليه من القرافة المتصلة بعمارة القاهرة والقرافة وطولها وعرضها على ما تقدم في الفسطاط أيضاً، وهي على نشز مرتفع من تقاطيع الجبل المقطم، ترتفع في موضع وتنخفض في آخر.وكان موضعها قبل أن تبنى، مساجد من بناء الفاطميين: منها مسجد رديني الذي هو بين آدر الحريم السلطانية.قال االقاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: قال لي والدي رحمه الله: عرض علي الملك الكامل إمامته، فامتنعت لكونه بين آدر الحريم. ولم يسكنها السلطان صلاح الدين رحمه الله، ويقال: إن ابنه الملك العزيز سكنها مدة في حياة أبيه، ثم انتقل منها إلى دار الوزارة.قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: قال لي والدي رحمه الله: كنا نطلع إليها قبل أن تسكن في ليالي الجمع نبيت متفرجين كما نبيت في جواسق الجبل والقرافة.وأول من سكنها الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب انتقل إليها من قصر الفاطميين سنة أربع وستمائة، واستقرت بعده سكناً للسلاطين إلى الآن.ومن غريب ما يحكى أن السلطان صلاح الدين رحمه الله طلع إليها ومعه أخوه العادل أبو بكر، فقال السلطان لأخيه العادل: هذه القلعة بنيت لأولادك فثقل ذلك على العادل وعرف السلطان صلاح الدين ذلك منه، فقال: لم تفهم عني إنما أردت أني أنا نجيب فلا يكون لي أولاد نجباء، وأنت غير نجيب فتكون أولادك نجباء فسري عنه، وكان الأمر كما قال السلطان صلاح الدين، وبقيت خالية حتى ملك العادل مصر والشام، فاستناب ولده الملك الكامل محمداً في الديار المصرية فسكنها.وذكر في مسالك الأبصار أن أول من سكنها العادل أبو بكر، ولما سكنها الكامل المذكور، احتفل بأمرها واهتم بعمارتها وعمر بها أبراجاً، منها البرج الأحمر وغيره.وفي أواخر سنة اثنتين وثمانين وستمائة عمر بها السلطان الملك المنصور قلاوون برجاً عظيماً على جانب السر الكبير، وبنى عليه مشترفاتٍ حسنة البنيان، بهجة الرخام، رائقة الزخرفة، وسكنها في صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة.ثم عمر بها السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ثلاثة أماكن، كملت بها معانيها، واستحق بها القلعة على بانيها:أحدها- القصر الأبلق الذي يجلس به السلطان في عامة أيامه، ويدخل عليه فيه امراؤه وخواصه، وقد استجد به السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين رحمه الله في جانبه مقعداً بإزاء الإسطبلات السلطانية جاء في نهاية من الحسن والبهجة.والثاني- الإيوان الكبير الذي يجلس فيه السلطان في أيام المواكب للخدمة العامة وإقامة العدل في الرعية.والثالث- جامع الخطبة الذي يصلي فيه السلطان الجمعة، وستأتي صفة هذه الأماكن كلها.وهذه القلعة ذات سور وأبراج، فسيحة الأفنية، كثيرة العمائر، ولها ثلاثة أبواب يدخل منها إليها: أحدها- من جهة القرافة والجبل المقطم، وهو أقل أبوابها سالكاً وأعزها استطراقاً.والثاني- باب السر- ويختص الدخول والخروج منه بأكابر الأمراء وخواص الدولة: كالوزير وكاتب السر ونحوهما، يتوصل إليه من الصوة، وهي بقية النشز الذي بنيت عليه لقلعة من جهة القاهرة، بتعريج يمشي فيه مع جانب جدارها البحري حتى ينتهي إليه بحيث يكون مدخله منه مقابل الإيوان الكبير الذي يجلس فيه السلطان أيام المواكب، وهذا الباب لا يزال مغلقاً حتى ينتهي إليه من يستحق الدخول أو الخروج منه فيفتح له ثم يغلق.والثالث- وهو بابها الأعظم الذي يدخل منه باقي الأمراء وسائر الناس، يتوصل إليه من أعلى الصوة المتقدم ذكرها، يرقي إليه في درج متناسبة حتى يكون مدخله في أول الجانب الشرقي من القلعة؛ ويتوصل منه ساحة مستطيلة ينتهي منها إلى دركاه جليلة يجلس بها الأمراء حتى يؤذن لهم بالدخول؛ وفي قبلي هذه الدركاه دار النيابة وهي التي يجلس بها النائب الكافل للحكم إذا كان ثم نائب وقاعة الصاحب وهي التي يجلس بها الوزير وكتاب الدولة، وديوان الإنشاء وهو الذي يجلس فيه كاتب السر وكتاب ديوانه، وكذلك ديوان الجيش وسائر الدواوين السلطانية.وبصدر هذه الدركاه باب يقال له باب القلة، يدخل منه إلى دهاليز فسيحة، على يسرة الداخل منها بابٌ يتوصل منه إلى جامع الخطبة المتقدم ذكره؛ وهو من أعظم الجوامع، وأحسنها وأبهجها نظراً، وأكثرها زخرفة، متسع الأرجاء، مرتفع البناء، مفروش الأرض بالرخام الفائق، مبطن السقوف بالذهب؛ في وسطه قبة يليها مقصورة يصلي فيها السلطان الجمعة، مستورة هي والرواقات المشتملة عليها بشبابيك من حديد محكمة الصنعة، يحف بصحنه رواقات من جميع جهاته ويتوصل من ظاهر هذا الجامع إلى باب الستارة، ودور الحريم السلطانية.وبصدر الدهاليز المتقدمة الذكر مصطبةٌ يجلس عليها مقدم المماليك، وعندها مدخل باب السر المتقدم ذكره، وفي مجنبة ذلك ممر يدخل منه إلى ساحة يواجه الداخل إليها باب الإيوان الكبير المتقدم ذكره، وهو إيوان عظيم عديم النظير، مرتفع الأبنية، واسع الأفنية، عظيم العمد، عليه شبابيك من حديد عظيمة الشأن محكمة الصنعة؛ وبصدره سرير الملك، وهو منبرٌ من رخامٍ مرتفعٌ، يجلس عليه السلطان في أيام المواكب العظام لقدوم رسل الملوك ونحو ذلك.ويتيامن عن هذا الإيوان إلى ساحة لطيفة بها باب القصر الأبلق المتقدّم ذكره، وبنواحيها مصاطب يجلس عليها خواصّ الأمراء قبل دخولهم إلى الخدمة؛ ويدخل من باب القصر إلى دهاليز عظيمة الشأن، نبيهة القدر، يتوصّل منها إلى القصر المذكور، وهو قصر عظيم البناء، شاهق في الهواء، به إيوانان في جهتي الشّمال والجنوب، أعظمهما الشّماليّ، يطلّ منهما على الإصطبلات السلطانية، ويمتدّ النظر منهما إلى سوق الخيل والقاهرة والفسطاط وحواضرها، إلى مجرى النيل، وما يلي ذلك منبلاد الجيزة والجبل وما والى ذلك؛ وبصدره منبر من رخام كالذي في الإيوان الكبير يجلس عليه السلطان أحياناً في وقت الخدمة على ما يأتي ذكره.والإيوان الثاني وهو القبليّ خاص بخروج السلطان وخواصّه منه، من باب السر إلى الإيوان الكبير خارج القصر للجلوس فيه أيام المواكب العامّة، ويدخل من القصر المتقدّم ذكره إلى ثلاثة قصور جوّانية: واحد منها مسامت لأرض القصر الكبير، واثنان مرفوعان، يصعد إليهما بدرج؛ في جميعها شبابيك من حديد تشرف على ما يشرف عليه القصر، ويدخل من القصور الجوّانية إلى دور الحريم وأبواب الستور السلطانية؛ وهذه القصور جميعها ظاهرها بالحجر الأسود والأصفر، وداخلها مؤزّر بالرخام والفصّ المذهب المشجر بالصّدف وأنواع الملونات، والسقوف المبطّنة بالذهب واللاّزورد تخرق لضوء في جدرانها بطاقاتٍ من الزجاج القبرسيّ الملوّن كقطع الجوهر المؤلفة في العقود، وجميع أرضها مفروشة بالرخام المنقول من أقطار الأرض مما لا يوجد مثله.قال في مسالك الأبصار: فأما الآدر السلطانية فعلى ما صح عندي خبره أنها ذوات بساتين وأشجار ومناخات للحيوانات البديعة والأبقار والأغنام والطيور الدّواجن.وخارج هذه القصور طباق واسعة للمماليك السلطانية، ودورٌ عظامٌ لخواص الأمراء من مقدّمي الألوف، ومن عظم قدره من امراء الطّبلخاناه والعشرات، ومن خرج عن حكم الخاصكية إلى حكم البرانيين.وبها بيوت ومساكن لكثير من الناس، وسوق للمآكل؛ ويباع بها النّفيس من السلاح والقماش مع الدّلالين يطوفون به.وبهذه القلعة مع ارتفاع أرضها وكونها مبنية على جبل بئر ماء معين منقوبة في الحجر، احتفرها بهاء الدين قراقوش المتقدّم ذكره حين بناء القلعة، وهي من أعجب الآبار، بأسفلها سواقٍ تدور فيها الأبقار، وتنقل الماء في وسطها، وبوسطها سواق تدور فيها الأبقار أيضاً وتنقل الماء إلى أعلاها؛ ولها طريق إلى الماء ينزل البقر فيه إلى معينها في مجاز، وجميع ذلك نحتٌ في الحجر ليس فيه بناء.قال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر: وسمعت من يحكي من المشايخ أنها لما نقرت، جاء ماؤها عذباً فأراد قراقوش أو نوّابه الزيادة في مائها فوسع نقراً في الجبل، فخرجت منه عين مالحة غيرت عذوبتها. ويقال: إن أرضها تسامت أرض بركة الفيل؛ وهذه البئر ينتفع بها أهل القلعة فيما عدا الشرب من سائر أنواع الاستعمالات. أما شربهم فمن الماء العذب المنقول إليها من النيل بالرّوايا على ظهور الجمال والبغال مع ما ينساق إلى السلطان ودور أكابر الأمراء المجاورين للسلطان من ماء النيل في المجاري، بالسواقي النّقّالات والدواليب التي تديرها الأبقار وتنقل الماء من مقرّ إلى آخر حتّى ينتهي إلى القلعة، ويدخل إلى القصور والآدر في ارتفاع نحو خمسمائة ذراع.وقد استجد السلطان الملك الظاهر برقوق بهذه القلعة صهريجاً عظيماً يملأ في كل سنة زمن النيل من الماء المنقول إلى القلعة من السواقي النّقّالات، ورتب عليه سبيلاً بالدّركاه التي بها دار النيابة يسقى فيه الماء وحصل به للناس رفق عظيم.وتحت مشترف هذه القلعة مما يلي القصور السلطانية ميدانٌ عظيم يحول بين الإصطبلات السلطانية وسوق الخيل، ممرّج بالنجيل الأخضر، فسيح المدى، يسافر النظر في أرجائه، به أنواع من الوحوش المستحسنة المنظر، وتربط به الخواصّ من الخيول السلطانية للتفسح؛ وفيه يصلي السلطان العيدين على ما سيأتي ذكره؛ وفيه تعرض الخيول السلطانية في أوقات الاطلاقات ووصول التقادم والمشترى، وربما أطعم فيه الجوارح السلطانية؛ وإذا أراد السلطان النزول إليه خرج من باب إيوان القصر وركب من درج تليه إلى إصطبل الخيول الخاص، ثم نزل إليه راكباً وخواصّ الأمراء في خدمته مشاةٌ، ثم يعود إلى القصر كذلك.قال القاضي محي الدين بن عبد الظاهر في خططه: وكان هذا الميدان وما حوله يعرف قديماً بالميدان، وبه قصر أحمد بن طولون وداره التي يسكنها، والأماكن المعروفة بالقطائع حوله على ما تقدم في خطط الفسطاط، ولم يزل كذلك حتى بنى الملك الكامل بن العادل بن أيوب هذا الميدان تحت القلعة حين سكنها، وأجرى السواقي النقالات من النيل إليه، وعمر إلى جانبه ثلاث برك تملأ لسقيه؛ ثم تعطل في أيامه مدةً، ثم أهتم به الملك العادل ولده، ثم أهتم به الصالح نجم الدين أيوب اهتماماً عظيماً، وجدد له ساقية أخرى، وغرس في جوانبه أشجاراً فصار في نهاية الحسن، فلما توفي الصالح تلاشى حاله إلى أن هدم في سنة خمسين وستمائة، أو سنة إحدى وخمسين في الأيام المعزية أيبك التركماني، وهدمت السواقي والقناطر وعفت آثارها، وبقي كذلك حتى عمره السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون رحمه الله، فأحسن عمارته ورصفه أبدع ترصيف، وهو على ذلك إلى الآن.أما الميدان السلطاني الذي بخط اللوق، وهو الذي يركب إليه السلطان عند وفاء النيل للعب الكرة، فبناه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وجعل به المناظر الحسنة ونصب الطوارق على بابه كما تنصب على باب القلاع وغيرها، ولم تزل الطوارق منصوبة عليه إلى ما بعد السبعمائة؛ وسيأتي الكلام على كيفية الركوب إليه في المواكب في الكلام على ترتيب المملكة فيما بعد إن شاء الله تعالى.والقلعة التي بالروضة تقدم الكلام عليها في الكلام على خطط الفسطاط.ومما يتصل بهذه القواعد الثلاث ويلتحق بها القرافة التي هي مدفن أمواتها، وهي تربة عظيمة ممتدة في سفح المقطم، موقعها بين المقطم والفسطاط وبعض القاهرة، تمتد من قلعة الجبل المتقدم ذكرها آخذةً في جهة الجنوب إلى بركة الحبش وما حولها. وكان سبب جعلها مقبرة ما رواه ابن الحكم عن الليث بن سعد: أن المقوقس سأل عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار، فتعجب عمرو من ذلك، وكتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك، فكتب إليه عمر: أن سله لم أعطاك به ما أعطاك وهي لا تزرع ولا يستنبط بها ماء ولا ينتفع بها؛ فسأله، فقال: إنا لنجد صفتها في الكتب أن فيها غراس الجنة، فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك، فكتب إليه عمر: إني لأرى غرس الجنة إلا للمؤمنين فاقبر بها من مات قبلك من المسلمين ولا تبعها بشيء، فقال المقوقس لعمر: ما على ذا عاهدتنا، فقطع لهم قطعة تدفن فيها النصارى، وهي التي على القرب من بركة الحبش، وكان أول من قبر بسفح المقطم من المسلمين رجلاً من المعافر اسمه عامر، فقيل عمرت.ويروى أن عيسى عليه السلام مر على سفح المقطم في سياحة ومعه أمه، فقال: يا أماه! هذه مقبرة أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وفيها ضارئح الأنبياء عليهم السلام كإخوة يوسف وغيرهم. وبها قبر آسية امرأة فرعون، ومشاهد جماعة من أهل البيت والصحابة والتابعين والعلماء والزهاد والأولياء.وقد بنى الناس بها الأبنية الرائقة، والمناظر البهجة، والقصور البديعة، يسرح الناظر في أرجائها، ويبتهج الخاطر برؤيتها؛ وبها الجوامع والمساجد والزوايا والربط والخوانق، وهي في الحقيقة مدينة عظيمة إلا أنها قليلة الساكن.
|