فصل: فَصْلٌ: (الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ لَا يَتَمَنَّى الْحَيَاةَ إِلَّا لِلْحَقِّ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***


‏[‏دَرَجَاتُ الصِّدْقِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى صِدْقُ الْقَصْدِ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ‏.‏ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ صِدْقُ الْقَصْدِ‏.‏ وَبِهِ يَصِحُّ الدُّخُولُ فِي هَذَا الشَّأْنِ‏.‏ وَيُتَلَافَى بِهِ كُلُّ تَفْرِيطٍ‏.‏ وَيُتَدَارَكُ بِهِ كُلُّ فَائِتٍ‏.‏ وَيَعْمُرُ كُلُّ خَرَابٍ‏.‏ وَعَلَامَةُ هَذَا الصَّادِقِ‏:‏ أَنْ لَا يَتَحَمَّلَ دَاعِيَةً تَدْعُو إِلَى نَقْضِ عَهْدٍ‏.‏ وَلَا يَصْبِرَ عَلَى صُحْبَةِ ضِدٍّ‏.‏ وَلَا يَقْعُدَ عَنِ الْجِدِّ بِحَالٍ‏.‏

يَعْنِي بِصِدْقِ الْقَصْدِ‏:‏ كَمَالَ الْعَزْمِ، وَقُوَّةَ الْإِرَادَةِ، بِأَنْ يَكُونَ فِي الْقَلْبِ دَاعِيَةٌ صَادِقَةٌ إِلَى السُّلُوكِ، وَمَيْلٌ شَدِيدٌ يَقْهَرُ السِّرَّ عَلَى صِحَّةِ التَّوَجُّهِ‏.‏ فَهُوَ طَلَبٌ لَا يُمَازِجُهُ رِيَاءٌ وَلَا فُتُورٌ‏.‏ وَلَا يَكُونُ فِيهِ قِسْمَةٌ بِحَالٍ‏.‏ وَلَا يَصِحُّ الدُّخُولُ فِي شَأْنِ السَّفَرِ إِلَى اللَّهِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلِقَائِهِ إِلَّا بِهِ‏.‏

وَيُتَلَافَى بِهِ كُلُّ تَفْرِيطٍ‏.‏ فَإِنَّهُ حَامِلٌ عَلَى كُلِّ سَبَبٍ يَنَالُ بِهِ الْوُصُولَ، وَقَطْعِ كُلِّ سَبَبٍ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ‏.‏ فَلَا يَتْرُكُ فُرْصَةً تَفُوتُهُ‏.‏ وَمَا فَاتَهُ مِنَ الْفُرَصِ السَّابِقَةِ تَدَارَكَهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ‏.‏ فَيُصْلِحُ مِنْ قَلْبِهِ مَا مَزَّقَتْهُ يَدُ الْغَفْلَةِ وَالشَّهْوَةِ‏.‏ وَيُعَمِّرُ مِنْهُ مَا خَرَّبَتْهُ يَدُ الْبَطَالَةِ‏.‏ وَيُوقِدُ فِيهِ مَا أَطْفَأَتْهُ أَهْوِيَةُ النَّفْسِ‏.‏ وَيَلُمُّ مِنْهُ مَا شَعَّثَتْهُ يَدُ التَّفْرِيطِ وَالْإِضَاعَةِ‏.‏ وَيَسْتَرِدُّ مِنْهُ مَا نَهَبَتْهُ أَكُفُّ اللُّصُوصِ وَالسُّرَّاقِ‏.‏ وَيَزْرَعُ مِنْهُ مَا وَجَدَهُ بُورًا مِنْ أَرَاضِيهِ‏.‏ وَيَقْلَعُ مَا وَجَدَهُ شَوْكًا وَشِبْرِقًا فِي نَوَاحِيهِ‏.‏ وَيَسْتَفْرِغُ مِنْهُ مَا مَلَأَتْهُ مَوَادُّ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ الْفَاسِدَةِ الْمُتَرَامِيَةِ بِهِ إِلَى الْهَلَاكِ وَالْعَطَبِ‏.‏ وَيُدَاوِي مِنْهُ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي أَصَابَتْهُ مِنْ عَبَرَاتِ الرِّيَاءِ‏.‏ وَيَغْسِلُ مِنْهُ الْأَوْسَاخَ وَالْحَوْبَاتِ الَّتِي تَرَاكَمَتْ عَلَيْهِ عَلَى تَقَادُمِ الْأَوْقَاتِ، حَتَّى لَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ لَأَحْزَنَهُ سَوَادُهُ وَوَسَخُهُ الَّذِي صَارَ دِبَاغًا لَهُ، فَيُطَهِّرُهُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ مِنْ يَنَابِيعِ الصِّدْقِ الْخَالِصَةِ مِنْ جَمِيعِ الْكَدُورَاتِ، قَبْلَ أَنْ يَكُونَ طَهُورُهُ بِالْجَحِيمِ وَالْحَمِيمِ‏.‏ فَإِنَّهُ لَا يُجَاوِرُ الرَّحْمَنَ قَلْبٌ دَنِسٌ بِأَوْسَاخِ الشَّهَوَاتِ وَالرِّيَاءِ أَبَدًا‏.‏ وَلَا بُدَّ مِنْ طَهُورٍ‏.‏ فَاللَّبِيبُ يُؤْثِرُ أَسْهَلَ الطَّهُورَيْنِ وَأَنْفَعَهُمَا‏.‏ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَعَلَامَةُ هَذَا الصَّادِقِ‏:‏ أَنْ لَا يَتَحَمَّلَ دَاعِيَةً تَدْعُو إِلَى نَقْضِ عَهْدٍ‏.‏

يَعْنِي أَنَّ الصَّادِقَ حَقِيقَةً‏:‏ هُوَ الَّذِي قَدِ انْجَذَبَتْ قُوَى رُوحِهِ كُلُّهَا إِلَى إِرَادَةِ اللَّهِ وَطَلَبِهِ، وَالسَّيْرِ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِلِقَائِهِ‏.‏ وَمَنْ تَكُونُ هَذِهِ حَالَهُ‏:‏ لَا يَحْتَمِلُ سَبَبًا يَدْعُوهُ إِلَى نَقْضِ عَهْدِهِ مَعَ اللَّهِ بِوَجْهٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى صُحْبَةِ ضِدٍّ‏.‏

الضِّدُّ عِنْدَ الْقَوْمِ‏:‏ هُمْ أَهْلُ الْغَفْلَةِ، وَقُطَّاعُ طَرِيقِ الْقَلْبِ إِلَى اللَّهِ‏.‏ وَأَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى الصَّادِقِ‏:‏ صُحْبَتُهُمْ، بَلْ لَا تَصْبِرُ نَفْسُهُ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا، إِلَّا مَعَ ضَرُورَةٍ‏.‏ وَتَكُونُ صُحْبَتُهُمْ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِقَالَبِهِ وَشَبَحِهِ، دُونَ قَلْبِهِ وَرُوحِهِ‏.‏ فَإِنَّ هَذَا لَمَّا اسْتَحْكَمَتِ الْغَفْلَةُ عَلَيْهِ كَمَا اسْتَحْكَمَ الصِّدْقُ فِي الصَّادِقِ‏:‏ أَحَسَّتْ رُوحُهُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِالْمُضَادَّةِ‏.‏ فَاشْتَدَّتِ النُّفْرَةُ‏.‏ وَقَوِيَ الْهَرَبُ‌‌‌‏.‏ وَبِحَسَبِ هَذِهِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَإِحْسَاسِ الصَّادِقِ بِهَا‏:‏ تَكُونُ نُفْرَتُهُ وَهَرَبُهُ عَنِ الْأَضْدَادِ‏.‏ فَإِنَّ هَذَا الضِّدَّ إِنْ نَطَقَ أَحَسَّ قَلْبُ الصَّادِقِ‏:‏ أَنَّهُ نَطَقَ بِلِسَانِ الْغَفْلَةِ، وَالرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ، وَطَلَبِ الْجَاهِ‏.‏ وَلَوْ كَانَ ذَاكِرًا أَوْ قَارِئًا، أَوْ مُصَلِّيًا أَوْ حَاجًّا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ‏.‏ فَنَفَرَ قَلْبُهُ مِنْهُ‏.‏ وَإِنْ صَمَتَ أَحَسَّ قَلْبُهُ‏:‏ أَنَّهُ صَمَتَ عَلَى غَيْرِ حُضُورٍ وَجَمْعِيَّةٍ عَلَى اللَّهِ، وَإِقْبَالٍ بِالْقَلْبِ عَلَيْهِ، وَعُكُوفِ السِّرِّ عَلَيْهِ‏.‏ فَيَنْفِرُ مِنْهُ أَيْضًا‏.‏ فَإِنَّ قَلْبَ الصَّادِقِ قَوِيُّ الْإِحْسَاسِ‏.‏ فَيَجِدُ الْغَيْرِيَّةَ وَالْأَجْنَبِيَّةَ مِنَ الضِّدِّ‏.‏ وَيَشَمُّ الْقَلْبُ الْقَلْبَ كَمَا يَشَمُّ الرَّائِحَةَ الْخَبِيثَةَ‏.‏ فَيَزْوِي وَجْهَهُ لِذَلِكَ‏.‏ وَيَعْتَرِيهِ عُبُوسٌ‏.‏ فَلَا يَأْنَسُ بِهِ إِلَّا تَكَلُّفًا‏.‏ وَلَا يُصَاحِبُهُ إِلَّا ضَرُورَةً‏.‏ فَيَأْخُذُ مِنْ صُحْبَتِهِ قَدْرَ الْحَاجَةِ، كَصُحْبَةِ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ، أَوْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَصَالِحِهِ، كَالزَّوْجَةِ وَالْخَادِمِ وَنَحْوِهِ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَلَا يَقْعُدُ عَنِ الْجِدِّ بِحَالٍ‏.‏

يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا كَانَ صَادِقًا فِي طَلَبِهِ مُسْتَجْمِعَ الْقُوَّةِ‏:‏ لَمْ يَقْعُدْ بِهِ عَزْمُهُ عَنِ الْجِدِّ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ‏.‏ فَلَا تَرَاهُ إِلَّا جَادًّا‏.‏ وَأَمْرُهُ كُلُّهُ جِدٌّ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ لَا يَتَمَنَّى الْحَيَاةَ إِلَّا لِلْحَقِّ‏]‏

قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ أَنْ لَا يَتَمَنَّى الْحَيَاةَ إِلَّا لِلْحَقِّ مِنْ دَرَجَاتِ الصِّدْقِ‏.‏ وَلَا يَشْهَدَ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا أَثَرَ النُّقْصَانِ‏.‏ وَلَا يَلْتَفِتَ إِلَى تَرْفِيهِ الرُّخَصِ‏.‏

أَيْ لَا يُحِبُّ أَنْ يَعِيشَ إِلَّا لِيَشْبَعَ مِنْ رِضَا مَحْبُوبِهِ‏.‏ وَيَقُومَ بِعُبُودِيَّتِهِ‏.‏ وَيَسْتَكْثِرَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُقِرُّبُهُ إِلَيْهِ، وَتُدْنِيهِ مِنْهُ‏.‏ لَا لِعِلَّةٍ مِنْ عِلَلِ الدُّنْيَا‏.‏ وَلَا لِشَهْوَةٍ مِنْ شَهَوَاتِهَا، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ لَوْلَا ثَلَاثٌ لَمَا أَحْبَبْتُ الْبَقَاءَ‏:‏ لَوْلَا أَنْ أَحْمِلَ عَلَى جِيَادِ الْخَيْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمُكَابَدَةُ اللَّيْلِ، وَمُجَالَسَةُ أَقْوَامٍ يَنْتَقُونَ أَطَايِبَ الْكَلَامِ كَمَا يُنْتَقَى أَطَايِبُ التَّمْرِ‏.‏

يُرِيدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ الْجِهَادَ، وَالصَّلَاةَ، وَالْعِلْمَ النَّافِعَ‏.‏ وَهَذِهِ دَرَجَاتُ الْفَضَائِلِ‏.‏ وَأَهْلُهَا هُمْ أَهْلُ الزُّلْفَى، وَالدَّرَجَاتِ الْعُلْيَا‏.‏

وَقَالَ مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِنْدَ مَوْتِهِ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أُحِبُّ الْبَقَاءَ لِجَرْيِ الْأَنْهَارِ، وَلَا لِغَرْسِ الْأَشْجَارِ، وَلَا لَنُكْحِ الْأَزْوَاجِ، وَلَكِنْ لِظَمَأِ الْهَوَاجِرِ، وَمُكَابَدَةِ اللَّيْلِ، وَمُزَاحَمَةِ الْعُلَمَاءِ بِالرُّكَبِ عِنْدَ حِلَقِ الذِّكْرِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَلَا يَشْهَدُ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا أَثَرَ النُّقْصَانِ‏.‏

يَعْنِي لَا يَرَى نَفْسَهُ إِلَّا مُقَصِّرًا‏.‏ وَالْمُوجِبُ لَهُ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ‏:‏ اسْتِعْظَامُ مَطْلُوبِهِ، وَاسْتِصْغَارُ نَفْسِهِ، وَمَعْرِفَتُهُ بِعُيُوبِهَا، وَقِلَّةُ زَادِهِ فِي عَيْنِهِ‏.‏ فَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَعَرَفَ نَفْسَهُ‏:‏ لَمْ يَرَ نَفْسَهُ إِلَّا بِعَيْنِ النُّقْصَانِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى تَرْفِيهِ الرُّخَصِ‏.‏

فَلِأَنَّهُ- لِكَمَالِ صِدْقِهِ، وَقُوَّةِ إِرَادَتِهِ، وَطَلَبِهِ لِلتَّقَدُّمِ- يَحْمِلُ نَفْسَهُ عَلَى الْعَزَائِمِ‏.‏ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى الرَّفَاهِيَةِ الَّتِي فِي الرُّخَصِ‏.‏

وَهَذَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّفْصِيلِ‏.‏ فَإِنَّ الصَّادِقَ يَعْمَلُ عَلَى رِضَا الْحَقِّ تَعَالَى وَمَحَابِّهِ‏.‏ فَإِذَا كَانَتِ الرُّخَصُ أَحَبَّ إِلَيْهِ تَعَالَى مِنَ الْعَزَائِمِ‏:‏ كَانَ الْتِفَاتُهُ إِلَى تَرْفِيهِهَا‏.‏ وَهُوَ عَيْنُ صِدْقِهِ‏.‏ فَإِذَا أَفْطَرَ فِي السَّفَرِ، وَقَصَرَ وَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ‏.‏ وَخَفَّفَ الصَّلَاةَ عِنْدَ الشُّغْلِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الرُّخَصِ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهَا‏:‏ فَهَذَا الِالْتِفَاتُ إِلَى تَرْفِيهِهَا لَا يُنَافِي الصِّدْقَ‏.‏

بَلْ هَاهُنَا نُكْتَةٌ‏.‏ وَهِيَ أَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْتِفَاتُهُ إِلَيْهَا تَرَفُّهًا وَرَاحَةً‏.‏ وَأَنْ يَكُونَ مُتَابَعَةً وَمُوَافَقَةً‏.‏ وَمَعَ هَذَا فَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا تَرَفُّهًا وَرَاحَةً لَا يُنَافِي الصِّدْقَ‏.‏ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا‏.‏ وَفِيهِ شُهُودُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَتَعْبُّدُهُ بِاسْمِهِ الْبَرِّ، اللَّطِيفِ، الْمُحْسِنِ، الرَّفِيقِ فَإِنَّهُ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ‏.‏ وَفِي الصَّحِيحِ‏:‏ مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا‏.‏ مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا لِمَا فِيهِ مِنْ رُوحِ التَّعَبُّدِ بِاسْمِ‏:‏ الرَّفِيقِ، اللَّطِيفِ وَإِجْمَامِ الْقَلْبِ بِهِ لِعُبُودِيَّةٍ أُخْرَى‏.‏ فَإِنَّ الْقَلْبَ لَا يَزَالُ يَتَنَقَّلُ فِي مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ‏.‏ فَإِذَا أَخَذَ بِتَرْفِيهِ رُخْصَةِ مَحْبُوبِهِ‏:‏ اسْتَعَدَّ بِهَا لِعُبُودِيَّةٍ أُخْرَى‏.‏ وَقَدْ تَقْطَعُهُ عَزِيمَتُهَا عَنْ عُبُودِيَّةٍ هِيَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا، كَالصَّائِمِ فِي السَّفَرِ الَّذِي يَنْقَطِعُ عَنْ خِدْمَةِ أَصْحَابِهِ، وَالْمُفْطِرِ الَّذِي يَضْرِبُ الْأَخْبِيَةَ، وَيَسْقِي الرُّكَّابِ، وَيَضُمُّ الْمَتَاعَ‏.‏ وَلِهَذَا قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ‏.‏

أَمَّا الرُّخَصُ التَّأْوِيلِيَّةُ، الْمُسْتَنِدَةُ إِلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ، وَالْآرَاءِ الَّتِي تُصِيبُ وَتُخْطِئُ‏:‏ فَالْأَخْذُ بِهَا عِنْدَهُمْ عَيْنُ الْبَطَالَةِ مُنَافٍ لِلصِّدْقِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الصِّدْقُ فِي مَعْرِفَةِ الصِّدْقِ‏]‏

قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ الصِّدْقُ فِي مَعْرِفَةِ الصِّدْقِ‏.‏ فَإِنَّ الصِّدْقَ لَا يَسْتَقِيمُ- فِي عِلْمِ أَهْلِ الْخُصُوصِ- إِلَّا عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ‏.‏ وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَ رِضَا الْحَقِّ بِعَمَلِ الْعَبْدِ، أَوْ حَالِهِ، أَوْ وَقْتِهِ، وَإِيقَانِ الْعَبْدِ وَقَصْدِهِ‏:‏ بِكَوْنِ الْعَبْدِ رَاضِيًا مَرْضِيًّا‏.‏ فَأَعْمَالُهُ إِذَنْ مَرَضِيَّةٌ‏.‏ وَأَحْوَالُهُ صَادِقَةٌ‏.‏ وَقُصُودُهُ مُسْتَقِيمَةٌ‏.‏ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ كُسِيَ ثَوْبًا مُعَارًا‏.‏ فَأَحْسَنُ أَعْمَالِهِ‏:‏ ذَنْبٌ‏.‏ وَأَصْدَقُ أَحْوَالِهِ‏:‏ زُورٌ‏.‏ وَأَصْفَى قُصُودِهِ‏:‏ قُعُودٌ‏.‏

يَعْنِي أَنَّ الصِّدْقَ الْمُتَحَقِّقَ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ صَدَقَ فِي مَعْرِفَةِ الصِّدْقِ‏.‏ فَكَأَنَّهُ قَالَ‏:‏ لَا يَحْصُلُ حَالُ الصِّدْقِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ عِلْمِ الصِّدْقِ‏.‏

ثُمَّ عَرَّفَ حَقِيقَةَ الصِّدْقِ‏.‏ فَقَالَ لَا يَسْتَقِيمُ الصِّدْقُ- فِي عِلْمِ أَهْلِ الْخُصُوصِ- إِلَّا عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ‏.‏ وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَ رِضَا الْحَقِّ بِعَمَلِ الْعَبْدِ، أَوْ حَالِهِ، أَوْ وَقْتِهِ، وَإِيقَانِهِ، وَقَصْدِهِ‏.‏ وَهَذَا مُوجِبُ الصِّدْقِ وَفَائِدَتُهُ وَثَمَرَتُهُ‏.‏

فَالشَّيْخُ ذَكَرَ الْغَايَةَ الدَّالَّةَ عَلَى الْحَقِيقَةِ الَّتِي يُعَرَفُ انْتِفَاءُ الْحَقِيقَةِ بِانْتِفَائِهَا‏.‏ وَثُبُوتُهَا بِثُبُوتِهَا‏.‏

فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا صَدَقَ اللَّهَ‏:‏ رَضِيَ اللَّهُ بِعَمَلِهِ، وَحَالِهِ وَيَقِينِهِ، وَقَصْدِهِ‏.‏ لَا أَنَّ رِضَا اللَّهِ نَفْسُ الصِّدْقِ‏.‏ وَإِنَّمَا يُعْلَمُ الصِّدْقُ بِمُوَافَقَةِ رِضَاهُ سُبْحَانَهُ‏.‏ وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ الْعَبْدُ رِضَاهُ‏؟‏‏.‏

فَمِنْ هَاهُنَا كَانَ الصَّادِقُ مُضْطَرًّا- أَشَدَّ الضَّرُورَةِ- إِلَى مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ، وَالتَّسْلِيمِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ، وَالتَّعَبُّدِ بِطَاعَتِهِ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ، مَعَ إِخْلَاصِ الْقَصْدِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرْضِيهِ مِنْ عَبْدِهِ إِلَّا ذَلِكَ‏.‏ وَمَا عَدَا هَذَا فَقُوتُ النَّفْسِ، وَمُجَرَّدُ حَظِّهَا، وَاتِّبَاعُ أَهْوَائِهَا‏.‏ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِنَ الْمُجَاهَدَاتِ وَالرِّيَاضِيَّاتِ وَالْخَلَوَاتِ مَا كَانَ‏.‏ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْ عَبْدِهِ عَمَلًا، أَوْ يَرْضَى بِهِ، حَتَّى يَكُونَ عَلَى مُتَابَعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَالِصًا لِوَجْهِهِ سُبْحَانَهُ‏.‏

وَمِنْ هَاهُنَا يُفَارِقُ الصَّادِقُ أَكْثَرَ السَّالِكِينَ‏.‏ بَلْ يَسْتَوْحِشُ فِي طَرِيقِهِ‏.‏ وَذَلِكَ لِقِلَّةِ سَالِكِهَا‏.‏ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ سَائِرُونَ عَلَى طُرُقِ أَذْوَاقِهِمْ، وَتَجْرِيدِ أَنْفَاسِهِمْ لِنُفُوسِهِمْ، وَمُتَابَعَةِ رُسُومِ شُيُوخِهِمْ‏.‏ وَالصَّادِقُ فِي وَادٍ‏.‏ وَهَؤُلَاءِ فِي وَادٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ فَيَكُونُ الْعَبْدُ رَاضِيًا مَرْضِيًّا‏.‏

لِأَنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا‏.‏ فَرَضِيَ اللَّهُ بِهِ عَبْدًا‏.‏ وَأَعْمَالُهُ إِذًا مَرَضِيَّةٌ لِلَّهِ‏.‏ وَأَحْوَالُهُ صَادِقَةٌ مَعَ اللَّهِ‏.‏ وَقُصُودُهُ مُسْتَقِيمَةٌ عَلَى مُتَابَعَةِ أَوَامِرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ كُسِيَ ثَوْبًا مُعَارًا، فَأَحْسَنُ أَعْمَالِهِ‏:‏ ذَنْبٌ‏.‏ وَأَصْدَقُ أَحْوَالِهِ‏:‏ زُورٌ‏.‏ وَأَصْفَى قُصُودِهِ‏:‏ قُعُودٌ‏.‏

هَذَا يُرَادُ بِهِ أَمْرَانِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يُكْسَى حِلْيَةَ الصَّادِقِينَ‏.‏ وَيُلْبَسَ ثِيَابَهُمْ عَلَى غَيْرِ قُلُوبِهِمْ وَأَرْوَاحِهِمْ‏.‏ فَثَوْبُ الصِّدْقِ عَارِيَةٌ لَهُ، لَا مِلْكٌ لَهُ‏.‏ فَهُوَ كَالْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَمْ يُعْطَ‏.‏ فَإِنَّهُ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ‏.‏ فَهَذَا أَحْسَنُ أَعْمَالِهِ‏:‏ ذَنْبٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ‏.‏ كَمَا يُعَاقَبُ الْمَقْتُولُ فِي الْجِهَادِ، وَالْقَارِئُ الْقُرْآنَ الْمُتَنَسِّكُ، وَالْمُتَصَدِّقُ، وَيَكُونُونَ أَوَّلَ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏.‏ لَمَّا لَبِسُوا ثِيَابَ الصَّادِقِينَ عَلَى قُلُوبِ الْمُرَائِينَ‏.‏

هَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ‏.‏ مَا أَظُنُّ الشَّيْخَ قَصَدَهُ‏.‏

وَإِنَّمَا أَظُنُّهُ قَصَدَ مَعْنًى آخَرَ‏.‏ وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى تَيَقَّنَ الْعَبْدُ‏:‏ أَنَّ وُجُودَهُ ثَوْبٌ مُعَارٌ، لَيْسَ مِنْهُ، وَلَا لَهُ‏.‏ وَإِنَّمَا إِيجَادُهُ وَصِفَاتُهُ، وَإِرَادَتُهُ، وَقُدْرَتُهُ، وَأَعْمَالُهُ‏:‏ عَارِيَةٌ مِنَ الْفِعَالِ وَحْدَهُ‏.‏ وَالْعَبْدُ لَيْسَ لَهُ مِنْ ذَاتِهِ إِلَّا الْعَدَمُ‏.‏ فَوُجُودُهُ وَحَيَاتُهُ‏:‏ ثَوْبٌ أُعِيرَهُ‏.‏ فَمَتَى نَظَرَ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى كِسْوَتِهِ‏:‏ رَأَى أَحْسَنَ أَعْمَالِهِ ذُنُوبًا فِي هَذَا الْمَقَامِ‏.‏ وَأَصْدَقَ أَحْوَالِهِ زُورًا، وَأَصْفَى قُصُودِهِ قُعُودًا‏.‏ فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ مِنْهُ عَمَلًا، وَلَا حَالًا وَلَا قَصْدًا‏.‏ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا الْجَهْلُ وَالظُّلْمُ‏.‏ فَكُلُّ مَا مِنَ النَّفْسِ‏:‏ فَهُوَ ذَنْبٌ وَزُورٌ وَقُعُودٌ‏.‏ وَمَا كَانَ مَرْضِيًّا فَهُوَ بِاللَّهِ وَمِنَ اللَّهِ وَلِلَّهِ‏.‏ لَا بِالنَّفْسِ، وَلَا مِنْهَا، وَلَا لَهَا‏.‏ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا رَأَى أَنَّهُ قَدْ فَعَلَ الطَّاعَةَ‏:‏ كَانَتْ رُؤْيَتُهُ لِذَلِكَ ذَنْبًا‏.‏ فَإِنَّهُ قَدْ نَسَبَ الْفِعْلَ إِلَيْهِ‏.‏ وَاللَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْفِعْلِ‏.‏

فَعَلَى هَذَا لَا يَتَخَلَّصُ الْعَبْدُ مِنَ الذَّنْبِ قَطُّ‏.‏ فَإِنَّهُ إِذَا خَلَّصَ فِعْلَهُ مِنَ الرِّيَاءِ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُفْسِدُهُ‏:‏ اقْتَرَنَ بِهِ آخَرُ‏.‏ لَا يُمَكِنُهُ الْخَلَاصُ مِنْهُ‏.‏ وَهُوَ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ‏.‏

وَالصَّوَابُ‏:‏ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِذَنْبٍ، وَلَا هُوَ مَقْدُورٌ لِلْعَبْدِ وَلَا مَأْمُورٌ بِهِ‏.‏ وَالْكَمَالُ فِي حَقِّهِ‏:‏ أَنْ يَشْهَدَ الْأَمْرَ كَمَا هُوَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ فَاعِلٌ حَقِيقَةً، كَمَا أَضَافَ اللَّهُ إِلَيْهِ الْفِعْلَ فِي كِتَابِهِ كُلِّهِ‏.‏ وَاللَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ فَاعِلًا‏.‏ فَإِذَا شَهِدَ نَفْسَهُ فَاعِلًا حَقِيقَةً‏.‏ وَشَهِدَ فَاعِلِيَّتَهُ بِاللَّهِ، وَمِنَ اللَّهِ‏.‏ لَا مِنْ نَفْسِهِ‏:‏ فَلَا ذَنْبَ فِي هَذَا الشُّهُودِ، وَلَا زُورَ بِحَمْدِ اللَّهِ‏.‏ وَهُوَ نَظَرَ بِمَجْمُوعِ عَيْنَيْهِ إِلَى السَّبَبِ، وَالْمُسَبَّبِ، وَالشَّرْعِ، وَالْقَدَرِ، وَالْخَلْقِ، وَالْأَمْرِ، وَأَنَّهُ مَتَى شَهِدَ نَفْسَهُ عَاصِيًا، مُخَالِفًا، مُذْنِبًا‏:‏ كَانَ عَاصِيًا بِهَذَا الشُّهُودِ‏.‏ لِأَنَّ الْفَاعِلَ فِيهِ غَيْرُهُ‏.‏ وَهَذَا مُنَافٍ لِلْعُبُودِيَّةِ أَشَدَّ مُنَافَاةٍ‏.‏ وَهُوَ مِنْ سَيْرِ الْقَوْمِ إِلَى شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَاعْتِقَادِهِمْ‏:‏ أَنَّهُ غَايَةُ السَّالِكِينَ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ الشَّيْخُ هَاهُنَا مَا نَطَقَ بِلِسَانِ الْأَبْرَارِ‏.‏ وَإِنَّمَا نَطَقَ بِلِسَانِ الْمُقَرَّبِينَ‏.‏ وَلَا رَيْبَ أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ وَلَسْنَا نُرِيدُ أَنَّ شُهُودَ فِعْلِهِ ذَنْبٌ فِي الشَّرْعِ، بَلْ يَكُونُ حَسَنَةً كَمَا ذَكَرْتُمْ‏.‏ لَكِنْ هُوَ حَسَنَةٌ لِلْبَرِّ، ذَنْبٌ لِلْمُقَرَّبِ‏.‏ فَإِنَّ نَصِيبَ الْبَرِّ مِنَ السَّيِّئَةِ‏:‏ مَا جَاءَ بِهِ الْعِلْمُ‏.‏ وَنَصِيبُ الْمُقَرَّبِ‏:‏ مَا جَاءَتْ بِهِ الْمَعْرِفَةُ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ‏.‏

قِيلَ‏:‏ هَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ قَطْعًا‏.‏ فَإِنَّ الْمَعْرِفَةَ الصَّحِيحَةَ‏:‏ مُطَابِقَةٌ لِلْحَقِّ فِي نَفْسِهِ شَرْعًا وَقَدَرًا‏.‏ وَمُخَالِفُ ذَلِكَ فَمَعْرِفَةٌ فَاسِدَةٌ‏.‏

وَالْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ‏:‏ نِسْبَةُ الْأَفْعَالِ إِلَى الْفَاعِلِينَ قِيَامًا وَمُبَاشَرَةً، وَصُدُورًا مِنْهُمْ‏.‏ وَذَلِكَ مَحَلُّ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ‏.‏

وَالْقَدْحُ فِي ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِإِبْطَالِ الشَّرْعِ وَالْجَزَاءِ‏.‏ فَإِنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا أَمَرَ بِأَفْعَالِنَا وَنَهَى عَنْهَا‏.‏ وَالْجَزَاءَ إِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا‏.‏ فَشُهُودُ أَفْعَالِنَا كَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِالشَّرْعِ وَالْجَزَاءِ‏.‏ وَنِسْبَتُهَا إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى، قَضَاءً وَقَدَرًا، وَخَلْقًا لِلْأَسْبَابِ الَّتِي مِنْهَا إِرَادَتُنَا وَقُدْرَتُنَا‏.‏ فَلَمْ يُجْبِرْنَا عَلَيْهَا وَلَمْ يُكْرِهْنَا‏.‏ بَلْ خَلَقَهَا بِمَا أَعْطَانَا مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، اللَّتَيْنِ هُمَا مِنْ أَسْبَابِ الْفِعْلِ‏.‏

فَهَذَا الْمَشْهَدُ يُحَقِّقُ عُبُودِيَّةَ ‏{‏إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ وَالْمَشْهَدُ الْأَوَّلُ‏:‏ يُحَقِّقُ عُبُودِيَّةَ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏ وَهُمَا يُحَقِّقَانِ مَشْهَدَيْ ‏{‏فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

وَمَا جَاءَ بِهِ الْعِلْمُ لَا يُنَاقِضُ مَا جَاءَتْ بِهِ الْمَعْرِفَةُ حَقِيقَتُهَا‏.‏ بَلِ الْمَعْرِفَةُ رُوحُ الْعِلْمِ وَلُبُّهُ وَكَمَالُهُ‏.‏ وَحَقِيقَتُهَا‏:‏ الْعِلْمُ الَّذِي أَثْمَرَ لِصَاحِبِهِ مَقْصُودَهُ‏.‏ وَلِسَانُ الْأَبْرَارِ لَا يُخَالِفُ لِسَانَ الْمُقَرَّبِينَ‏.‏ إِنَّمَا يُخَالِفُ لِسَانَ الْفُجَّارِ‏.‏

نَعَمْ لِسَانُ الْمُقَرَّبِينَ أَعْلَى مِنْهُ وَأَرْفَعُ، عَلَى مُقْتَضَى أَعْمَالِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ‏.‏ فَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِ‏:‏ كَنِسْبَةِ مَقَامِ التَّوَكُّلِ إِلَى الرِّضَا، وَالرِّضَا إِلَى الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ كَلَامُكُمْ هَذَا بِلِسَانِ الْعِلْمِ‏.‏ وَلَوْ تَكَلَّمْتُمْ بِلِسَانِ الْحَالِ لَعَلِمْتُمْ صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَاهُ‏.‏ فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَالِ صَاحِبُ شُهُودٍ‏.‏ وَصَاحِبَ الْعِلْمِ صَاحِبُ غَيْبَةٍ‏.‏ وَالشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ‏.‏ وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَيْكُمْ إِشَارَةً حَالِيَّةً عِلْمِيَّةً‏.‏ تَنَزُّلًا مِنَ الْحَالِ إِلَى الْعِلْمِ‏.‏

فَنَقُولُ‏:‏ الْحَالُ تَأَثُّرٌ عَنْ نُورٍ مِنْ أَنْوَارِ الْأَحَدِيَّةِ وَالْفَرْدَانِيَّةِ‏.‏ يَسْتُرُ الْعَبْدَ عَنْ نَفْسِهِ، وَيُبْدِي ظُهُورَ مَشْهُودِهِ‏.‏ وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي هَذَا الْحَالِ قَدْ يُعْتَقَدُ أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْمَشْهُودُ‏.‏ حَتَّى قَالَ أَبُو يَزِيدَ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ‏:‏ سُبْحَانِي سُبْحَانِي، وَمَا فِي الْجُبَّةِ إِلَّا اللَّهُ‏.‏ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ زُورٌ‏.‏ وَأَنَّ سَبَبَهُ نُورٌ مِنْ أَنْوَارِ الْأَحَدِيَّةِ، وَصَاحِبُهُ مَعْذُورٌ‏.‏ مَا دَامَ مَسْتُورًا عَنْ نَفْسِهِ بِوَارِدِهِ‏.‏ فَإِذَا رُدَّ إِلَى رَسْمِهِ وَعَقْلِهِ وَحِسِّهِ‏:‏ حَالَ ذَلِكَ الْحَالُ وَزَالَ، وَعَلِمَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ كَانَ زُورًا‏.‏ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْمَشْهُودُ‏.‏

فَإِنْ أَنْكَرْتُمْ ذَلِكَ فَلَا كَلَامَ مَعَكُمْ‏.‏ وَإِنِ اعْتَرَفْتُمْ بِهِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ‏.‏

فَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ أَصْدَقِ أَحْوَالِ الصَّادِقِ‏:‏ زُورًا‏.‏ وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فِي الْحَالِ‏:‏ عُرِفَ مِثْلُهُ فِي كَوْنِ أَحْسَنِ أَعْمَالِهِ‏:‏ ذَنْبًا‏.‏ فَإِنَّهُ- لِصِدْقِهِ فِي الطَّلَبِ، وَبَذْلِهِ الْجَهْدَ فِي الْعَمَلِ، وَاسْتِفْرَاغِهِ الْوُسْعَ فِيهِ- يَغِيبُ بِذَلِكَ عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَأَنَّ الْمُحَرِّكَ لَهُ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ آلَةٌ وَمَجْرَى لِلْمَشِيئَةِ، وَأَنَّ نَفْسَهُ أَعْجَزُ وَأَضْعَفُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا، أَوْ بِهَا، أَوْ مِنْهَا فِعْلٌ، أَوْ إِرَادَةٌ، أَوْ حَرَكَةٌ‏.‏ فَإِذَا رَجَعَ إِلَى الْحَقِيقَةِ فَشَهِدَ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُحَرِّكُ لَهُ، وَأَنَّ مَشِيئَتَهُ هِيَ الَّتِي أَوْجَبَتْ سَعْيَهُ، رَأَى أَحْسَنَ أَعْمَالِهِ‏:‏ ذَنْبًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ‏.‏

وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ أَصْفَى قُصُودِهِ قُعُودًا فَلِأَنَّ الْقَاصِدَ إِلَى الْحَقِيقَةِ مَتَى شَهِدَ مَقْصُودَهُ‏:‏ قَعَدَ عَنْ قَصْدِهِ‏.‏ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْمُرَادَ‏:‏ أَقْرَبُ إِلَى اللِّسَانِ مِنْ نُطْقِهِ، وَإِلَى الْقَلْبِ مِنْ قَصْدِهِ‏.‏ فَالْقَصْدُ إِلَيْهِ‏:‏ هُوَ عَيْنُ الْقُعُودِ عَنِ الْقَصْدِ‏.‏ لِأَنَّ الْقَصْدَ إِنَّمَا يَكُونُ لِبَعِيدٍ عَنِ الْقَاصِدِ‏.‏ أَمَّا مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْقَاصِدِ مِنْ ذَاتِهِ‏:‏ فَمَتَى شَاهَدَ الْقَاصِدُ الْحَقِيقَةَ‏:‏ عَلِمَ أَنَّ قَصْدَهُ عَيْنُ الْقُعُودِ عَنْ قَصْدِهِ‏.‏ وَالْعِبَارَةُ تَزِيدُ هَذَا الْمَعْنَى جَفْوَةً‏.‏ وَالْحَوَالَةُ فِيهِ عَلَى الْحَالِ وَالذَّوْقِ‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ‏:‏ مَنْ أَحَالَكَ عَلَى الْحَالِ فَمَا أَنْصَفَكَ‏.‏ فَإِنَّهُ أَحَالَكَ عَلَى أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ‏.‏ فَإِنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَقَدَ شَيْئًا وَطَلَبَهُ طَلَبًا صَادِقًا، وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ‏:‏ كَانَ لَهُ لَا مَحَالَةَ فِيهِ حَالٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ‏.‏ بِحَسَبِ صِدْقِهِ فِي طَلَبِهِ، وَجَمْعِ هِمَّتِهِ وَقَصْدِهِ عَلَيْهِ‏.‏ وَهَذَا يَكُونُ لِلْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ، بَلْ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ‏.‏ فَيَكُونُ الرَّجُلُ لَهُ شُهُودٌ بِمَشْهُودِهِ، وَحَالٌ فِي طَلَبِهِ، لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ حَقًّا وَلَا بَاطِلًا‏.‏ فَإِنَّ كُلَّ مَنِ اعْتَقَدَ عَقِيدَةً، وَارْتَاضَ وَصُقِلَ قَلْبُهُ بِأَنْوَاعِ الرِّيَاضَةِ‏.‏ وَجَزَمَ بِمَا اعْتَقَدَهُ‏:‏ تَجَلَّتْ لَهُ صُورَةُ مُعْتَقَدِهِ فِي عَالَمِ نَفْسِهِ‏.‏ فَيَظُنُّ ذَلِكَ كَشْفًا صَحِيحًا‏.‏ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي طَلَبِهِ وَحُبِّهِ لِمَا اعْتَقَدَهُ‏:‏ كَانَ لَهُ فِيهِ حَالٌ وَتَأْثِيرٌ بِحَسَبِهِ‏.‏ فَالْحَوَالَةُ عَلَى الْحَالِ حَوَالَةُ مُفْلِسٍ مِنَ الْعِلْمِ عَلَى غَيْرِ مَلِيءٍ بِهِ‏.‏

وَمِنْ هَاهُنَا دَخَلَ الدَّاخِلُ عَلَى أَكْثَرِ السَّالِكِينَ‏.‏ وَانْعَكَسَ سَيْرُهُمْ، حَيْثُ أَحَالُوا الْعِلْمَ عَلَى الْحَالِ‏.‏ وَحَكَّمُوهُ عَلَيْهِ‏.‏

وَسَيْرُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَعِبَادِهِ الْأَبْرَارِ وَالْمُقَرَّبِينَ بِخِلَافِ هَذَا‏.‏ وَهُوَ إِحَالَةُ الْحَالِ عَلَى الْعِلْمِ، وَتَحْكِيمُهُ عَلَيْهِ وَتَقْدِيمُهُ، وَوَزْنُهُ بِهِ وَقَبُولُ حُكْمِهِ‏.‏ فَإِنْ وَافَقَهُ الْعِلْمُ، وَإِلَّا كَانَ حَالًا فَاسِدًا، مُنْحَرِفًا عَنْ أَحْوَالِ الصَّادِقِينَ بِحَسَبِ بُعْدِهِ عَنِ الْعِلْمِ‏.‏ فَالْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْحَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ‏.‏ وَالْعِلْمُ رَاعٍ وَالْحَالُ مِنْ رَعِيَّتِهِ‏.‏ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا أَصْلَ بِنَاءِ سُلُوكِهِ فَسُلُوكُهُ فَاسِدٌ‏.‏ وَغَايَتُهُ‏:‏ الِانْسِلَاخُ مِنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ‏.‏ كَمَا جَرَى ذَلِكَ لِمَنْ جَرَى لَهُ‏.‏ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ مَا ذَكَرْتُمْ- مِنْ غَيْبَةِ الشَّاهِدِ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ، وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ، وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَبِمَحْبُوبِهِ عَنْ حُبِّهِ- لَكِنْ نُنْكِرُ كَوْنَ هَذَا أَكْمَلَ حَالًا مِنْ صَاحِبِ الْبَقَاءِ وَالتَّمْيِيزِ، وَشُهُودِ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ‏.‏ فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَشْهَدَ حَالُهُ زُورًا‏.‏ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا حَصَلَ لِصَاحِبِ السُّكْرِ وَالِاصْطِلَامِ مِنَ الزُّورِ‏.‏ فَهُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ حَقِيقَةً وَشَرْعًا‏.‏

وَأَمَّا الْغَائِبُ عَنِ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ بِشُهُودِ فِعْلِهِ‏:‏ فَإِنَّهُ مَتَى صَحِبَهُ اسْتِصْحَابُ عَقْدِ التَّوْحِيدِ، وَأَنَّ مَصْدَرَ كُلِّ شَيْءٍ مَشِيئَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ لَا يَتَحَرَّكُ مُتَحَرِّكٌ فِي ظَاهِرِهِ أَوْ بَاطِنِهِ إِلَّا بِهِ سُبْحَانَهُ‏:‏ فَلَا تَضُرُّهُ الْغَيْبَةُ عَنْ هَذَا الْمَشْهَدِ، بِاسْتِغْرَاقِهِ فِي الْقَصْدِ وَالطَّلَبِ وَالْفِعْلِ‏.‏ إِذْ حُكْمُهُ جَارٍ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ‏.‏ وَلَيْسَ ضِيقُ قَلْبِهِ عَنِ اسْتِحْضَارِ ذَلِكَ وَقْتَ اسْتِجْمَاعِ إِرَادَتِهِ وَفِعْلِهِ وَطَلَبِهِ- ذَنْبًا‏.‏ لَا لِلْخَاصَّةِ وَلَا لِلْعَامَّةِ‏.‏ وَلَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَامِهِ أَيْضًا‏.‏ فَإِنَّ الذَّنْبَ تَعَمُّدُ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ‏.‏ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ‏.‏ وَلَا هُوَ مُطَالَبٌ بِالْغَيْبَةِ عَنْ شُهُودِ الْحَقِيقَةِ، وَالْفَنَاءِ فِيهَا عَنْ شُهُودِ الْفِعْلِ وَقِيَامِهِ بِهِ، مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ‏.‏

وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّ مُشَاهَدَةَ الْقُرْبِ تَجْعَلُ الْقَصْدَ قُعُودًا‏:‏ فَكَلَامٌ لَهُ خَبِئٌ‏.‏ وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ بَعْضُ الْمَغْرُورِينَ الْمَخْدُوعِينَ بِقَوْلِهِ‏:‏

مَا بَالُ عَيْنِكَ لَا يَقَرُّ قَرَارُهَا‏؟‏ *** وَإِلَامَ ظِلُّكَ لَا يَنِي مُتَنَقِّلًا‏؟‏

فَلَسَوْفَ تَعْلَمُ أَنَّ سَيْرَكَ لَمْ يَكُنْ *** إِلَّا إِلَيْكَ إِذَا بَلَغْتَ الْمَنْزِلَا

وَكَأَنَّ صَاحِبَهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ وُجُودُ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ‏.‏ وَوُجُودُهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ إِرَادَتِهِ وَلُطْفِهِ‏.‏ هَذَا خَبِئُ هَذَا الْكَلَامِ‏.‏ وَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ إِلْحَادِ هَذَا وَأَمْثَالِهِ وَإِفْكِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا‏.‏ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ‏.‏

وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْقُرْبِ تَحْقِيقُ مَعْنَى قُرْبِ اللَّهِ مِنَ الْعَبْدِ‏:‏ فَإِنْ أَرَدْتُمْ عُمُومَ قُرْبِهِ إِلَى كُلِّ لِسَانِ مَنْ نَطَقَهُ وَإِلَى كُلِّ قَلْبِ مَنْ قَصَدَهُ‏:‏ فَهَذَا- لَوْ صَحَّ- لَكَانَ قُرْبَ قُدْرَةٍ وَعِلْمٍ وَإِحَاطَةٍ، لَا قُرْبًا بِالذَّاتِ وَالْوُجُودِ‏.‏ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُمَازِجُ خَلْقَهُ، وَلَا يُخَالِطُهُمْ، وَلَا يَتَّحِدُ بِهِمْ‏.‏ مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَرِدْ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الْأَخْيَارِ تَسْمِيَتُهُ قُرْبًا، وَلَمْ يَجِئِ الْقُرْبُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ قَطُّ إِلَّا خَاصًّا كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏

وَإِنْ أَرَدْتُمُ الْقُرْبَ الْخَاصَّ إِلَى اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ‏:‏ فَهَذَا قُرْبُ الْمَحَبَّةِ، وَقُرْبُ الرِّضَا وَالْأُنْسِ، كَقُرْبِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ‏.‏ وَهُوَ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْقُرْبِ‏.‏ لَا مِثَالَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ‏.‏ فَإِنَّ الرُّوحَ وَالْقَلْبَ يَقْرُبَانِ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ، وَالرُّوحُ وَالْقَلْبُ فِي الْبَدَنِ‏.‏ وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ‏.‏

وَهَذَا الْقُرْبُ لَا يُنَافِي الْقَصْدَ وَالطَّلَبَ، بَلْ هُوَ مَشْرُوطٌ بِالْقَصْدِ‏.‏ فَيَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ بِدُونِهِ‏.‏ وَكُلَّمَا كَانَ الطَّلَبُ وَالْقَصْدُ أَتَمَّ‏:‏ كَانَ هَذَا الْقُرْبُ أَقْوَى‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏}‏‏؟‏

قِيلَ‏:‏ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلنَّاسِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهُ قُرْبُهُ بِعِلْمِهِ‏.‏ وَلِهَذَا قَرَنَهُ بِعِلْمِهِ بِوَسْوَسَةِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ‏.‏ وَحَبْلُ الْوَرِيدِ حَبْلُ الْعُنُقِ، وَهُوَ عِرْقٌ بَيْنَ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ الَّذِي مَتَى قُطِعَ مَاتَ صَاحِبُهُ‏.‏ وَأَجْزَاءُ الْقَلْبِ وَهَذَا الْحَبْلُ يَحْجُبُ بَعْضَهَا بَعْضًا‏.‏ وَعِلْمُ اللَّهِ بِأَسْرَارِ الْعَبْدِ وَمَا فِي ضَمِيرِهِ لَا يَحْجُبُهُ شَيْءٌ‏.‏

وَالْقَوْلُ الثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ قُرْبُهُ مِنَ الْعَبْدِ بِمَلَائِكَتِهِ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَلْبِهِ‏.‏ فَيَكُونُ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْعِرْقِ‏.‏ اخْتَارَهُ شَيْخُنَا‏.‏

وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ‏:‏ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ‏}‏ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي قَصَّهُ عَلَيْهِ بِأَمْرِ اللَّهِ‏.‏ فَنَسَبَ تَعْلِيمَهُ إِلَيْهِ‏.‏ إِذْ هُوَ بِأَمْرِهِ، وَكَذَلِكَ جِبْرِيلُ هُوَ الَّذِي قَرَأَهُ عَلَيْهِ‏.‏ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ فَإِذَا قَرَأَهُ رَسُولُنَا فَأَنْصِتْ لِقِرَاءَتِهِ حَتَّى يَقْضِيَهَا‏.‏

قُلْتُ‏:‏ أَوَّلُ الْآيَةِ يَأْبَى ذَلِكَ‏.‏ فَإِنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ وَكَذَلِكَ خَلْقُهُ لِلْإِنْسَانِ إِنَّمَا هُوَ بِالْأَسْبَابِ وَتَخْلِيقِ الْمَلَائِكَةِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَخْلِيقِ النُّطْفَةِ فَيَقُولُ الْمَلَكُ الَّذِي يَخْلُقُهُ‏:‏ يَارَبِّ، ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى‏؟‏ أَسَوِيٌّ أَمْ غَيْرُ سَوِيٍّ‏؟‏ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ‏.‏ فَهُوَ سُبْحَانُهُ الْخَالِقُ وَحْدَهُ‏.‏ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ اسْتِعْمَالُ الْمَلَائِكَةِ بِإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فِي التَّخْلِيقِ‏.‏ فَإِنَّ أَفْعَالَهُمْ وَتَخْلِيقَهُمْ خَلْقٌ لَهُ سُبْحَانَهُ‏.‏ فَمَا ثَمَّ خَالِقٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ غَيْرُهُ‏.‏

وَالْمَقْصُودُ‏:‏ أَنَّ هَذَا مَوْضِعٌ ضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ‏.‏ وَزَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ، وَاشْتُبِهَتْ فِيهِ مَعِيَّةُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِحَاطَةِ بِالْقُرْبِ‏.‏ وَاشْتُبِهَتْ فِيهِ آثَارُ قُرْبِ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالْمُوَافَقَةِ، وَغَلَبَةِ ذِكْرِهِ، وَمُرَاقَبَتِهِ بِقُرْبِ ذَاتِهِ‏.‏ وَاشْتُبِهَ فِيهِ مَا فِي الذِّهْنِ بِمَا فِي الْخَارِجِ‏.‏ وَاشْتُبِهَ اضْمِحْلَالُ شُهُودِ الرَّسْمِ وَانْمِحَاؤُهُ مِنَ الْقَلْبِ بِعَدَمِهِ وَفَنَائِهِ‏.‏ وَاشْتُبِهَتْ فِيهِ آثَارُ الصِّفَاتِ بِحَقِيقَتِهَا، وَأَنْوَارُ الْمَعْرِفَةِ بِأَنْوَارِ الذَّاتِ‏.‏

وَأَصْحَابُهُ- لِتَحْكِيمِهِمُ الْحَالَ وَالذَّوْقَ- لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى لِسَانِ الْعِلْمِ، وَلَا يُصْغُونَ إِلَيْهِ‏.‏ وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ‏.‏ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ الْإِيثَارِ

‏[‏حَقِيقَةُ الْإِيثَارِ‏]‏

وَمِنْ مَنَازِلِ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ مَنْزِلَةُ الْإِيثَارِ حَقِيقَتُهَا‏.‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

فَالْإِيثَارُ ضِدَّ الشُّحِّ‏.‏ فَإِنَّ الْمُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ تَارِكٌ لِمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ‏.‏ وَالشَّحِيحُ‏:‏ حَرِيصٌ عَلَى مَا لَيْسَ بِيَدِهِ‏.‏ فَإِذَا حَصَلَ بِيَدِهِ شَيْءٌ شَحَّ عَلَيْهِ‏.‏ وَبَخِلَ بِإِخْرَاجِهِ‏.‏ فَالْبُخْلُ ثَمَرَةُ الشُّحِّ‏.‏ وَالشُّحُّ يَأْمُرُ بِالْبُخْلِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ‏.‏ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ‏.‏ أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا‏.‏ وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا‏.‏

فَالْبَخِيلُ‏:‏ مَنْ أَجَابَ دَاعِيَ الشُّحِّ‏.‏ وَالْمُؤْثِرُ‏:‏ مَنْ أَجَابَ دَاعِيَ الْجُودِ‏.‏

كَذَلِكَ السَّخَاءُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ هُوَ السَّخَاءُ‏.‏ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ سَخَاءِ الْبَذْلِ‏.‏

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ‏:‏ سَخَاءُ النَّفْسِ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ أَفْضَلُ مِنْ سَخَاءِ النَّفْسِ بِالْبَذْلِ‏.‏

وَهَذَا الْمَنْزِلُ‏:‏ هُوَ مَنْزِلُ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ وَالْإِحْسَانِ‏.‏

وَسُمِّيَ بِمَنْزِلِ الْإِيثَارِ لِأَنَّهُ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، فَإِنَّ الْمَرَاتِبَ ثَلَاثَةٌ‏.‏

إِحْدَاهَا‏:‏ أَنْ لَا يَنْقُصَهُ الْبَذْلُ، وَلَا يَصْعُبَ عَلَيْهِ‏.‏ فَهُوَ مَنْزِلَةُ السَّخَاءِ‏.‏

الثَّانِيَةُ‏:‏ أَنْ يُعْطِيَ الْأَكْثَرَ، وَيُبْقِيَ لَهُ شَيْئًا، أَوْ يُبْقِيَ مِثْلَ مَا أَعْطَى‏.‏ فَهُوَ الْجُودُ‏.‏

الثَّالِثَةُ‏:‏ أَنْ يُؤْثِرَ غَيْرَهُ بِالشَّيْءِ مَعَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَرْتَبَةُ الْإِيثَارِ وَعَكْسُهَا الْأَثَرَةُ وَهُوَ اسْتِئْثَارُهُ عَنْ أَخِيهِ بِمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ‏.‏ وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ‏:‏ إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً‏.‏ فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ وَالْأَنْصَارُ‏:‏ هُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالْإِيثَارِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ‏}‏ فَوَصَفَهُمْ بِأَعْلَى مَرَاتِبِ السَّخَاءِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِيهِمْ مَعْرُوفًا‏.‏

وَكَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنَ الْأَجْوَادِ الْمَعْرُوفِينَ‏.‏ حَتَّى إِنَّهُ مَرِضَ مَرَّةً، فَاسْتَبْطَأَ إِخْوَانَهُ فِي الْعِيَادَةِ‏.‏ فَسَأَلَ عَنْهُمْ‏؟‏ فَقَالُوا‏:‏ إِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحْيُونَ مِمَّا لَكَ عَلَيْهِمْ مِنَ الدَّيْنِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ أَخْزَى اللَّهُ مَالًا يَمْنَعُ الْإِخْوَانَ مِنَ الزِّيَارَةِ‏.‏ ثُمَّ أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي‏:‏ مَنْ كَانَ لِقَيْسٍ عَلَيْهِ مَالٌ فَهُوَ مِنْهُ فِي حِلٍّ‏.‏ فَمَا أَمْسَى حَتَّى كُسِرَتْ عَتَبَةُ بَابِهِ، لِكَثْرَةِ مَنْ عَادَهُ‏.‏

وَقَالُوا لَهُ يَوْمًا‏:‏ هَلْ رَأَيْتَ أَسْخَى مِنْكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ‏.‏ نَزَلْنَا بِالْبَادِيَةِ عَلَى امْرَأَةٍ‏.‏ فَحَضَرَ زَوْجُهَا‏.‏ فَقَالَتْ‏:‏ إِنَّهُ نَزَلَ بِكَ ضَيْفَانِ‏.‏ فَجَاءَ بِنَاقَةٍ فَنَحَرَهَا، وَقَالَ‏:‏ شَأْنُكُمْ‏؟‏ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جَاءَ بِأُخْرَى فَنَحَرَهَا‏.‏ فَقُلْنَا‏:‏ مَا أَكَلْنَا مِنَ الَّتِي نَحَرْتَ الْبَارِحَةَ إِلَّا الْيَسِيرَ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ إِنِّي لَا أُطْعِمُ ضَيْفَانِي الْبَائِتَ‏.‏ فَبَقِينَا عِنْدَهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، وَالسَّمَاءُ تُمْطِرُ‏.‏ وَهُوَ يَفْعَلُ ذَلِكَ‏.‏ فَلَمَّا أَرَدْنَا الرَّحِيلَ وَضَعْنَا مِائَةَ دِينَارٍ فِي بَيْتِهِ، وَقُلْنَا لِلْمَرْأَةِ‏:‏ اعْتَذِرِي لَنَا إِلَيْهِ‏.‏ وَمَضَيْنَا‏.‏ فَلَمَّا طَلَعَ النَّهَارُ إِذَا نَحْنُ بَرَجُلٍ يَصِيحُ خَلْفَنَا‏:‏ قِفُوا‏.‏ أَيُّهَا الرَّكْبُ اللِّئَامُ‏.‏ أَعْطَيْتُمُونِي ثَمَنَ قِرَايَ‏؟‏ ثُمَّ إِنَّهُ لَحِقَنَا، وَقَالَ‏:‏ لَتَأْخُذُنَّهُ أَوْ لَأُطَاعِنَنَّكُمْ بِرُمْحِي‏.‏ فَأَخَذْنَاهُ وَانْصَرَفَ‏.‏

فَتَأَمَّلْ سِرَّ التَّقْدِيرِ، حَيْثُ قَدَّرَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ- سُبْحَانَهُ- اسْتِئْثَارَ النَّاسِ عَلَى الْأَنْصَارِ بِالدُّنْيَا- وَهُمْ أَهْلُ الْإِيثَارِ- لِيُجَازِيَهُمْ عَلَى إِيثَارِهِمْ إِخْوَانَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى نُفُوسِهِمْ بِالْمَنَازِلِ الْعَالِيَةِ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ عَلَى النَّاسِ‏.‏ فَتَظْهَرُ حِينَئِذٍ فَضِيلَةُ إِيثَارِهِمْ وَدَرَجَتُهُ وَيَغْبِطُهُمْ مَنِ اسْتَأْثَرَ عَلَيْهِمْ بِالدُّنْيَا أَعْظَمَ غِبْطَةٍ‏.‏ وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏.‏

فَإِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ يَسْتَأْثِرُونَ عَلَيْكَ- مَعَ كَوْنِكَ مِنْ أَهْلِ الْإِيثَارِ- فَاعْلَمْ أَنَّهُ لِخَيْرٍ يُرَادُ بِكَ‏.‏ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَرَاتِبُ الْجُودِوَالْجُودُ عَشْرُ مَرَاتِبَ‏.‏

إِحْدَاهَا‏:‏ الْجُودُ بِالنَّفْسِ‏.‏ وَهُوَ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

يَجُودُ بِالنَّفْسِ، إِذْ ضَنَّ الْبَخِيلُ بِهَا *** وَالْجُودُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الْجُودِ

الثَّانِيَةُ‏:‏ الْجُودُ بِالرِّيَاسَةِ‏.‏ وَهُوَ ثَانِي مَرَاتِبِ الْجُودِ‏.‏ فَيَحْمِلُ الْجَوَادَ جُودُهُ عَلَى امْتِهَانِ رِيَاسَتِهِ، وَالْجُودِ بِهَا‏.‏ وَالْإِيثَارِ فِي قَضَاءِ حَاجَاتِ الْمُلْتَمِسِ‏.‏

الثَّالِثَةُ‏:‏ الْجُودُ بِرَاحَتِهِ وَرَفَاهِيَتِهِ، وَإِجْمَامِ نَفْسِهِ‏.‏ فَيَجُودُ بِهَا تَعَبًا وَكَدًّا فِي مَصْلَحَةِ غَيْرِهِ‏.‏ وَمِنْ هَذَا جُودُ الْإِنْسَانِ بِنَوْمِهِ وَلَذَّتِهِ لِمُسَامِرِهِ، كَمَا قِيلَ‏:‏

مُتَيَّمٌ بِالنَّدَى، لَوْ قَالَ سَائِلُهُ‏:‏ *** هَبْ لِي جَمِيعَ كَرَى عَيْنَيْكَ، لَمْ يَنَمِ

الرَّابِعَةُ‏:‏ الْجُودُ بِالْعِلْمِ وَبَذْلِهِ‏.‏ وَهُوَ مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْجُودِ‏.‏ وَالْجُودُ بِهِ أَفْضَلُ مِنَ الْجُودِ بِالْمَالِ‏.‏ لِأَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ مِنَ الْمَالِ‏.‏

وَالنَّاسُ فِي الْجُودِ بِهِ عَلَى مَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةٍ‏.‏ وَقَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ وَتَقْدِيرُهُ النَّافِذُ‏:‏ أَنْ لَا يَنْفَعَ بِهِ بَخِيلًا أَبَدًا‏.‏

وَمِنَ الْجُودِ بِهِ‏:‏ أَنْ تَبْذُلَهُ لِمَنْ يَسْأَلُكَ عَنْهُ، بَلْ تَطْرَحُهُ عَلَيْهِ طَرْحًا‏.‏

وَمِنَ الْجُودِ بِالْعِلْمِ‏:‏ أَنَّ السَّائِلَ إِذَا سَأَلَكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ‏:‏ اسْتَقْصَيْتَ لَهُ جَوَابَهَا جَوَابًا شَافِيًا، لَا يَكُونُ جَوَابُكَ لَهُ بِقَدْرِ مَا تُدْفَعُ بِهِ الضَّرُورَةُ، كَمَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَكْتُبُ فِي جَوَابِ الْفُتْيَا‏:‏ نَعَمْ، أَوْ‏:‏ لَا‏.‏ مُقْتَصِرًا عَلَيْهَا‏.‏

وَلَقَدْ شَاهَدْتُ مِنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- فِي ذَلِكَ أَمْرًا عَجِيبًا‏:‏

كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ حُكْمِيَّةٍ، ذَكَرَ فِي جَوَابِهَا مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، إِذَا قَدَرَ، وَمَأْخَذَ الْخِلَافِ، وَتَرْجِيحَ الْقَوْلِ الرَّاجِحِ‏.‏ وَذَكَرَ مُتَعَلَّقَاتِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي رُبَّمَا تَكُونُ أَنْفَعَ لِلسَّائِلِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ‏.‏ فَيَكُونُ فَرَحُهُ بِتِلْكَ الْمُتَعَلَّقَاتِ، وَاللَّوَازِمِ‏:‏ أَعْظَمَ مِنْ فَرَحِهِ بِمَسْأَلَتِهِ‏.‏ وَهَذِهِ فَتَاوِيهِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- بَيْنَ النَّاسِ‏.‏ فَمَنْ أَحَبَّ الْوُقُوفَ عَلَيْهَا رَأَى ذَلِكَ‏.‏

فَمِنْ جُودِ الْإِنْسَانِ بِالْعِلْمِ‏:‏ أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَسْأَلَةِ السَّائِلِ‏.‏ بَلْ يَذْكُرُ لَهُ نَظَائِرَهَا وَمُتَعَلِّقَهَا وَمَأْخَذَهَا، بِحَيْثُ يَشْفِيهِ وَيَكْفِيهِ‏.‏

وَقَدْ سَأَلَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُتَوَضِّئِ بِمَاءِ الْبَحْرِ‏؟‏ فَقَالَ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مِيتَتُهُ فَأَجَابَهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ‏.‏ وَجَادَ عَلَيْهِمْ بِمَا لَعَلَّهُمْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ إِلَيْهِ أَحْوَجُ مِمَّا سَأَلُوهُ عَنْهُ‏.‏

وَكَانُوا إِذَا سَأَلُوهُ عَنِ الْحُكْمِ نَبَّهَهُمْ عَلَى عِلَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ‏.‏ كَمَا سَأَلُوهُ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أَيُنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ نَعَمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَلَا إِذَنْ وَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُقْصَانُ الرُّطَبِ بِجَفَافِهِ، وَلَكِنْ نَبَّهَهُمْ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ‏.‏ وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي أَجْوِبَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ مِثْلَ قَوْلِهِ‏:‏ إِنْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرَةً‏.‏ فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَخِيكَ شَيْئًا‏.‏ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ‏؟‏ وَفِي لَفْظٍ‏:‏ أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ‏:‏ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ‏؟‏ فَصَرَّحَ بِالْعِلَّةِ الَّتِي يَحْرُمُ لِأَجْلِهَا إِلْزَامُهُ بِالثَّمَنِ‏.‏ وَهِيَ مَنْعُ اللَّهِ الثَّمَرَةَ الَّتِي لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي فِيهَا صُنْعٌ‏.‏

وَكَانَ خُصُومُهُ- يَعْنِي شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ- يَعِيبُونَهُ بِذَلِكَ‏.‏ وَيَقُولُونَ‏:‏ سَأَلَهُ السَّائِلُ عَنْ طَرِيقِ مِصْرَ- مَثَلًا- فَيَذْكُرُ لَهُ مَعَهَا طَرِيقَ مَكَّةَ، وَالْمَدِينَةِ، وَخُرَاسَانَ، وَالْعِرَاقِ، وَالْهِنْدِ‏.‏ وَأَيُّ حَاجَةٍ بِالسَّائِلِ إِلَى ذَلِكَ‏؟‏‏.‏

وَلَعَمْرُ اللَّهِ لَيْسَ ذَلِكَ بِعَيْبٍ، وَإِنَّمَا الْعَيْبُ‏:‏ الْجَهْلُ وَالْكِبْرُ‏.‏ وَهَذَا مَوْضِعُ الْمَثَلِ الْمَشْهُورِ‏:‏

لَقَّبُوهُ بِحَامِضٍ وَهْوَ خَلٌّ *** مِثْلَ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى الْعُنْقُودِ

الْخَامِسَةُ‏:‏ الْجُودُ بِالنَّفْعِ بِالْجَاهِ‏.‏ كَالشَّفَاعَةِ وَالْمَشْيِ مَعَ الرَّجُلِ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ وَنَحْوِهِ‏.‏ وَذَلِكَ زَكَاةُ الْجَاهِ الْمُطَالَبُ بِهَا الْعَبْدُ‏.‏ كَمَا أَنَّ التَّعْلِيمَ وَبَذْلَ الْعِلْمِ زَكَاتُهُ‏.‏

السَّادِسَةُ‏:‏ الْجُودُ بِنَفْعِ الْبَدَنِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ‏.‏ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ‏.‏ كُلُّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ‏:‏ صَدَقَةٌ‏.‏ وَيُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ، فَيَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ‏:‏ صَدَقَةٌ‏.‏ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ‏:‏ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خُطْوَةٍ يُمْشِيهَا الرَّجُلُ إِلَى الصَّلَاةِ‏:‏ صَدَقَةٌ‏.‏ وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ‏:‏ صَدَقَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ‏.‏

السَّابِعَةُ‏:‏ الْجُودُ بِالْعِرْضِ، كَجُودِ أَبِي ضَمْضَمٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ‏.‏ كَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا مَالَ لِي أَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى النَّاسِ‏.‏ وَقَدْ تَصَدَّقْتُ عَلَيْهِمْ بِعِرْضِي، فَمَنْ شَتَمَنِي، أَوْ قَذَفَنِي‏:‏ فَهُوَ فِي حِلٍّ‏.‏ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَنْ يَسْتَطِيعُ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ‏؟‏‏.‏

وَفِي هَذَا الْجُودِ مِنْ سَلَامَةِ الصَّدْرِ، وَرَاحَةِ الْقَلْبِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنْ مُعَادَاةِ الْخَلْقِ مَا فِيهِ‏.‏

الثَّامِنَةُ‏:‏ الْجُودُ بِالصَّبْرِ، وَالِاحْتِمَالِ، وَالْإِغْضَاءِ‏.‏ وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ شَرِيفَةٌ مِنْ مَرَاتِبِهِ‏.‏ وَهِيَ أَنْفَعُ لِصَاحِبِهَا مِنَ الْجُودِ بِالْمَالِ، وَأَعَزُّ لَهُ وَأَنْصَرُ، وَأَمَلَكُ لِنَفْسِهِ، وَأَشْرَفُ لَهَا‏.‏ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إِلَّا النُّفُوسُ الْكِبَارُ‏.‏

فَمَنْ صَعُبَ عَلَيْهِ الْجُودُ بِمَالِهِ فَعَلَيْهِ بِهَذَا الْجُودِ‏.‏ فَإِنَّهُ يَجْتَنِي ثَمَرَةَ عَوَاقِبِهِ الْحَمِيدَةِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ‏.‏ وَهَذَا جُودُ الْفُتُوَّةِ‏.‏ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ‏}‏ وَفِي هَذَا الْجُودِ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ‏}‏ فَذَكَرَ الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ مَقَامَ الْعَدْلِ، وَأَذِنَ فِيهِ‏.‏ وَمَقَامَ الْفَضْلِ، وَنَدَبَ إِلَيْهِ‏.‏ وَمَقَامَ الظُّلْمِ، وَحَرَّمَهُ‏.‏

التَّاسِعَةُ‏:‏ الْجُودُ بِالْخُلُقِ وَالْبِشْرِ وَالْبَسْطَةِ‏.‏ وَهُوَ فَوْقَ الْجُودِ بِالصَّبْرِ، وَالِاحْتِمَالِ وَالْعَفْوِ‏.‏ وَهُوَ الَّذِي بَلَغَ بِصَاحِبِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ‏.‏ وَهُوَ أَثْقَلُ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ‏.‏ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ إِلَيْهِ وَفِي هَذَا الْجُودِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَسَارِّ، وَأَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ مَا فِيهِ‏.‏ وَالْعَبْدُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسَعَهُمْ بِخُلُقِهِ وَاحْتِمَالِهِ‏.‏

الْعَاشِرَةُ‏:‏ الْجُودُ بِتَرْكِهِ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ عَلَيْهِمْ‏.‏ فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ‏.‏ وَلَا يَسْتَشْرِفُ لَهُ بِقَلْبِهِ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ بِحَالِهِ، وَلَا لِسَانِهِ‏.‏ وَهَذَا الَّذِي قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ‏:‏ إِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ سَخَاءِ النَّفْسِ بِالْبَذْلِ‏.‏

فَلِسَانُ حَالِ الْقَدَرِ يَقُولُ لِلْفَقِيرِ الْجَوَادِ‏:‏ وَإِنْ لَمْ أُعْطِكَ مَا تَجُودُ بِهِ عَلَى النَّاسِ، فَجُدْ عَلَيْهِمْ بِزُهْدِكَ فِي أَمْوَالِهِمْ‏.‏ وَمَا فِي أَيْدِيهِمْ، تُفَضَّلْ عَلَيْهِمْ، وَتُزَاحِمْهُمْ فِي الْجُودِ، وَتَنْفَرِدْ عَنْهُمْ بِالرَّاحَةِ‏.‏

وَلِكُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْجُودِ مَزِيدٌ وَتَأْثِيرٌ خَاصٌّ فِي الْقَلْبِ وَالْحَالِ‏.‏ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ ضَمِنَ الْمَزِيدَ لِلْجَوَادِ، وَالْإِتْلَافَ لِلْمُمْسِكِ‏.‏ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏مَعْنَى الْإِيثَارِ وَالْأَثَرَةِ‏]‏

قَالَ صَاحِبُ ‏"‏ الْمَنَازِلِ ‏"‏ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏

الْإِيثَارُ‏:‏ تَخْصِيصٌ وَاخْتِيَارٌ‏.‏ وَالْأَثَرَةُ‏:‏ تَحْسُنُ طَوْعًا‏.‏ وَتَصِحُّ كَرْهًا‏.‏

فَرَّقَ الشَّيْخُ بَيْنَ الْإِيثَارِ وَالْأَثَرَةِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَجَعَلَ الْإِيثَارَ اخْتِيَارًا وَالْأَثَرَةَ مُنْقَسِمَةً إِلَى اخْتِيَارِيَّةٍ، وَاضْطِرَارِيَّةٍ‏.‏ وَبِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا يُعْلَمُ مَعْنَى كَلَامِهِ‏.‏ فَإِنَّ الْإِيثَارَ هُوَ الْبَذْلُ، وَتَخْصِيصُكَ لِمَنْ تُؤْثِرُهُ عَلَى نَفْسِكَ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا اخْتِيَارًا‏.‏

وَأَمَّا الْأَثَرَةُ فَهِيَ اسْتِئْثَارُ صَاحِبِ الشَّيْءِ بِهِ عَلَيْكَ، وَحَوْزُهُ لِنَفْسِهِ دُونَكَ‏.‏ فَهَذِهِ لَا يُحْمَدُ عَلَيْهَا الْمُسْتَأْثِرُ عَلَيْهِ‏.‏ إِلَّا إِذَا كَانَتْ طَوْعًا‏.‏ مِثْلَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى مُنَازَعَتِهِ وَمُجَاذَبَتِهِ، فَلَا يَفْعَلُ‏.‏ وَيَدَعُهُ وَأَثَرَتَهُ طَوْعًا‏.‏ فَهَذَا حَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ كَانَتْ أَثَرَةَ كَرْهٍ‏.‏

وَيَعْنِي بِالصِّحَّةِ‏:‏ الْوُجُودَ، أَيْ تُوجَدُ كَرْهًا‏.‏ وَلَكِنْ إِنَّمَا تَحْسُنُ إِذَا كَانَتْ طَوْعًا مِنَ الْمُسْتَأْثِرِ عَلَيْهِ‏.‏

فَحَقِيقَةُ الْإِيثَارِ بَذْلُ صَاحِبِهِ وَإِعْطَاؤُهُ‏.‏ وَالْأَثَرَةُ اسْتِبْدَالُهُ هُوَ بِالْمُؤْثَرِ بِهِ‏.‏ فَيَتْرُكُهُ وَمَا اسْتُبْدِلَ بِهِ‏:‏ إِمَّا طَوْعًا، وَإِمَّا كَرْهًا‏.‏ فَكَأَنَّكَ آثَرْتَهُ بِاسْتِئْثَارِهِ حَيْثُ خَلَّيْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَلَمْ تُنَازِعْهُ‏.‏

قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي عُسْرِنَا، وَيُسْرِنَا، وَمَنْشَطِنَا، وَمَكْرَهِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ‏.‏ فَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ‏:‏ لَهُمْ مَعَهُ وَمَعَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ، وَالْأَثَرَةُ‏:‏ عَدَمُ مُنَازَعَةِ الْأَمْرِ مَعَ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ خَاصَّةً، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَأْثِرْ عَلَيْهِمْ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏دَرَجَاتُ الْإِيثَارِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى أَنْ تُؤْثِرَ الْخَلْقَ دَرَجَاتُ الْإِيثَارِ عَلَى نَفْسِكَ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ‏.‏ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ أَنْ تُؤْثِرَ الْخَلْقَ عَلَى نَفْسِكَ فِيمَا لَا يَخْرِمُ عَلَيْكَ دِينًا‏.‏ وَلَا يَقْطَعُ عَلَيْكَ طَرِيقًا، وَلَا يُفْسِدُ عَلَيْكَ وَقْتًا‏.‏

يَعْنِي‏:‏ أَنْ تُقَدِّمَهُمْ عَلَى نَفْسِكَ فِي مَصَالِحِهِمْ‏.‏ مِثْلَ أَنْ تُطْعِمَهُمْ وَتَجُوعَ‏.‏ وَتَكْسُوَهُمْ وَتَعْرَى، وَتَسْقِيَهُمْ وَتَظْمَأَ، بِحَيْثُ لَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى ارْتِكَابِ إِتْلَافٍ لَا يَجُوزُ فِي الدِّينِ‏.‏ وَمِثْلَ أَنْ تُؤْثِرَهُمْ بِمَالِكَ وَتَقْعُدَ كَلًّا مُضْطَرًّا، مُسْتَشْرِفًا لِلنَّاسِ أَوْ سَائِلًا‏.‏ وَكَذَلِكَ إِيثَارُهُمْ بِكُلِّ مَا يُحَرِّمُهُ عَلَى الْمُؤْثِرِ دِينُهُ‏.‏ فَإِنَّهُ سَفَهٌ وَعَجْزٌ‏.‏ يُذَمُّ الْمُؤْثِرُ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ النَّاسِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ وَلَا يَقْطَعُ عَلَيْكَ طَرِيقًا أَيْ لَا يَقْطَعُ عَلَيْكَ طَرِيقَ الطَّلَبِ وَالْمَسِيرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مِثْلَ أَنْ تُؤْثِرَ جَلِيسَكَ عَلَى ذِكْرِكَ، وَتَوَجُّهِكَ وَجَمْعِيَّتِكَ عَلَى اللَّهِ‏.‏ فَتَكُونَ قَدْ آثَرْتَهُ عَلَى اللَّهِ‏.‏ وَآثَرْتَ بِنَصِيبِكَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ الْإِيثَارَ‏.‏ فَيَكُونَ مَثَلُكَ كَمَثَلِ مُسَافِرٍ سَائِرٍ عَلَى الطَّرِيقِ لَقِيَهُ رَجُلٌ فَاسْتَوْقَفَهُ، وَأَخَذَ يُحَدِّثُهُ وَيُلْهِيهِ حَتَّى فَاتَهُ الرِّفَاقُ‏.‏ وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِ الْخَلْقِ مَعَ الصَّادِقِ السَّائِرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى‏.‏ فَإِيثَارُهُمْ عَلَيْهِ عَيْنُ الْغُبْنِ‏.‏ وَمَا أَكْثَرَ الْمُؤْثِرِينَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَهُ‏.‏ وَمَا أَقَلَّ الْمُؤْثِرِينَ اللَّهَ عَلَى غَيْرِهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ الْإِيثَارُ بِمَا يُفْسِدُ عَلَى الْمُؤْثِرِ وَقْتَهُ قَبِيحٌ أَيْضًا‏.‏ مِثْلَ أَنْ يُؤْثِرَ بِوَقْتِهِ وَيُفَرِّقَ قَلْبَهُ فِي طَلَبِ خَلَفِهِ، أَوْ يُؤْثِرَ بِأَمْرٍ قَدْ جَمَعَ قَلْبَهُ وَهَمَّهُ عَلَى اللَّهِ‏.‏ فَيُفَرِّقَ قَلْبَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ جَمْعِيَّتِهِ‏.‏ وَيُشَتِّتَ خَاطِرَهُ‏.‏ فَهَذَا أَيْضًا إِيثَارٌ غَيْرُ مَحْمُودٍ‏.‏

وَكَذَلِكَ الْإِيثَارُ بِاشْتِغَالِ الْقَلْبِ وَالْفِكْرِ فِي مُهِمَّاتِهِمْ وَمَصَالِحِهِمُ الَّتِي لَا تَتَعَيَّنُ عَلَيْكَ‏.‏ عَلَى الْفِكْرِ النَّافِعِ، وَاشْتِغَالِ الْقَلْبِ بِاللَّهِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ لَا تَخْفَى‏.‏ بَلْ ذَلِكَ حَالُ الْخَلْقِ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ‏.‏

وَكُلُّ سَبَبٍ يَعُودُ عَلَيْكَ بِصَلَاحِ قَلْبِكَ وَوَقْتِكَ وَحَالِكَ مَعَ اللَّهِ‏:‏ فَلَا تُؤْثِرْ بِهِ أَحَدًا‏.‏ فَإِنْ آثَرْتَ بِهِ فَإِنَّمَا تُؤْثِرُ الشَّيْطَانَ عَلَى اللَّهِ، وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ‏.‏

وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ أَكْثَرِ الْخَلْقِ فِي إِيثَارِهِمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَضُرُّهُمْ إِيثَارُهُمْ لَهُ وَلَا يَنْفَعُهُمْ‏.‏ وَأَيُّ جَهَالَةٍ وَسَفَهٍ فَوْقَ هَذَا‏؟‏

وَمِنْ هَذَا تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِيثَارِ بِالْقُرْبِ‏.‏ وَقَالُوا‏:‏ إِنَّهُ مَكْرُوهٌ أَوْ حَرَامٌ‏.‏ كَمَنْ يُؤْثِرُ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ غَيْرَهُ وَيَتَأَخَّرُ هُوَ، أَوْ يُؤْثِرُهُ بِقُرْبِهِ مِنَ الْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ يُؤْثِرُ غَيْرَهُ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، أَوْ يُؤْثِرُهُ بِعِلْمٍ يَحْرِمُهُ نَفْسَهُ، وَيَرْفَعُهُ عَلَيْهِ، فَيَفُوزُ بِهِ دُونَهُ‏.‏

وَتَكَلَّمُوا فِي إِيثَارِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدَفْنِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْرَتِهَا‏.‏

وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ الْمَيِّتَ يَنْقَطِعُ عَمَلُهُ بِمَوْتِهِ وَبِقُرْبِهِ‏.‏ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ الْإِيثَارُ بِالْقُرْبِ بَعْدَ الْمَوْتِ‏.‏ إِذْ لَا تَقَرُّبَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ‏.‏ وَإِنَّمَا هَذَا إِيثَارٌ بِمَسْكَنٍ شَرِيفٍ فَاضِلٍ لِمَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْهَا‏.‏ فَالْإِيثَارُ بِهِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُؤْثِرِ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏ما يُسْتَطَاعُ بِهِ الْإِيثَارُ‏]‏

قَالَ وَلَا يُسْتَطَاعُ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ‏:‏ بِتَعْظِيمِ الْحُقُوقِ، وَمَقْتِ الشُّحِّ، وَالرَّغْبَةِ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ‏.‏

ذِكْرُ مَا يُعِينُ عَلَى الْإِيثَارِ فَيَبْعَثُ عَلَيْهِ‏.‏ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ‏.‏

تَعْظِيمُ الْحُقُوقِ‏.‏ فَإِنَّ مَنْ عَظُمَتِ الْحُقُوقُ عِنْدَهُ قَامَ بِوَاجِبِهَا‏.‏ وَرَعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا‏.‏ وَاسْتَعْظَمَ إِضَاعَتَهَا‏.‏ وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْإِيثَارِ لَمْ يُؤَدِّهَا كَمَا يَنْبَغِي‏.‏ فَيَجْعَلَ إِيثَارَهُ احْتِيَاطًا لِأَدَائِهَا‏.‏

الثَّانِي‏:‏ مَقْتُ الشُّحِّ‏.‏ فَإِنَّهُ إِذَا مَقَتَهُ وَأَبْغَضَهُ الْتَزَمَ الْإِيثَارَ‏.‏ فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّهُ لَا خَلَاصَ لَهُ مِنْ هَذَا الْمَقْتِ الْبَغِيضِ إِلَّا بِالْإِيثَارِ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ الرَّغْبَةُ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ‏.‏ وَبِحَسَبِ رَغْبَتِهِ فِيهَا‏:‏ يَكُونُ إِيثَارُهُ‏.‏ لِأَنَّ الْإِيثَارَ أَفْضَلُ دَرَجَاتِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ إِيثَارُ رِضَا اللَّهِ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ‏]‏

قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ إِيثَارُ رِضَا اللَّهِ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ‏.‏ وَإِنْ عَظُمَتْ فِيهِ الْمِحَنُ‏.‏ وَثَقُلَتْ فِيهِ الْمُؤَنُ، وَضَعُفَ عَنْهُ الطَّوْلُ وَالْبَدَنُ‏.‏

إِيثَارُ رِضَا اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى غَيْرِهِ‏:‏ هُوَ أَنْ يُرِيدَ وَيَفْعَلَ مَا فِيهِ مَرْضَاتُهُ، وَلَوْ أَغْضَبَ الْخَلْقَ‏.‏ وَهِيَ دَرَجَةُ الْأَنْبِيَاءِ‏.‏ وَأَعْلَاهَا لِلرُّسُلِ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ‏.‏ وَأَعْلَاهَا لِأُولِي الْعَزْمِ مِنْهُمْ‏.‏ وَأَعْلَاهَا لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ‏.‏ فَإِنَّهُ قَاوَمَ الْعَالَمَ كُلَّهُ‏.‏ وَتَجَرَّدَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ‏.‏ وَاحْتَمَلَ عَدَاوَةَ الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ فِي اللَّهِ تَعَالَى‏.‏ وَآثَرَ رِضَا اللَّهِ عَلَى رِضَا الْخَلْقِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ‏.‏ وَلَمْ يَأْخُذْهُ فِي إِيثَارِ رِضَاهُ لَوْمَةُ لَائِمٍ‏.‏ بَلْ كَانَ هَمُّهُ وَعَزْمُهُ وَسَعْيُهُ كُلُّهُ مَقْصُورًا عَلَى إِيثَارِ مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَتَبْلِيغِ رِسَالَاتِهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَاتِهِ، وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ‏.‏ حَتَّى ظَهَرَ دِينُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ دِينٍ‏.‏ وَقَامَتْ حُجَّتُهُ عَلَى الْعَالَمِينَ‏.‏ وَتَمَّتْ نِعْمَتُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏.‏ فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ‏.‏ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ‏.‏ وَنَصَحَ الْأُمَّةَ‏.‏ وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ‏.‏ وَعَبَدَ اللَّهَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ‏.‏ فَلَمْ يَنَلْ أَحَدٌ مِنْ دَرَجَةِ هَذَا الْإِيثَارِ مَا نَالَ‏.‏ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ وَإِنْ عَظُمَتْ فِيهِ الْمِحَنُ‏.‏ وَثَقُلَتْ فِيهِ الْمُؤَنُ‏.‏

فَإِنَّ الْمِحْنَةَ تَعْظُمُ فِيهِ أَوْلًا، لِيَتَأَخَّرَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ‏.‏ فَإِذَا احْتَمَلَهَا وَتَقَدَّمَ انْقَلَبَتْ تِلْكَ الْمِحَنُ مِنَحًا‏.‏ وَصَارَتْ تِلْكَ الْمُؤَنُ عَوْنًا‏.‏ وَهَذَا مَعْرُوفٌ بِالتَّجْرِبَةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ‏.‏ فَإِنَّهُ مَا آثَرَ عَبْدٌ مَرْضَاةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَرْضَاةِ الْخَلْقِ، وَتَحَمَّلَ ثِقَلَ ذَلِكَ وَمُؤْنَتَهُ، وَصَبَرَ عَلَى مِحْنَتِهِ‏:‏ إِلَّا أَنْشَأَ اللَّهُ مِنْ تِلْكَ الْمِحْنَةِ وَالْمُؤْنَةِ نِعْمَةً وَمَسَرَّةً، وَمَعُونَةٍ بِقَدْرِ مَا تَحَمَّلَ مِنْ مَرْضَاتِهِ‏.‏ فَانْقَلَبَتْ مَخَاوِفُهُ أَمَانًا، وَمَظَانُّ عَطَبِهِ نَجَاةً، وَتَعَبُهُ رَاحَةً، وَمُؤْنَتُهُ مَعُونَةً، وَبَلِيَّتُهُ نِعْمَةً، وَمِحْنَتُهُ مِنْحَةً، وَسُخْطُهُ رِضًا‏.‏ فَيَا خَيْبَةَ الْمُتَخَلِّفِينَ، وَيَا ذِلَّةَ الْمُتَهَيِّبِينَ‏.‏

هَذَا، وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ- الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا- أَنَّ مَنْ آثَرَ مَرْضَاةَ الْخَلْقِ عَلَى مَرْضَاتِهِ‏:‏ أَنْ يُسْخِطَ عَلَيْهِ مَنْ آثَرَ رِضَاهُ، وَيَخْذُلَهُ مِنْ جِهَتِهِ‏.‏ وَيَجْعَلَ مِحْنَتَهُ عَلَى يَدَيْهِ‏.‏ فَيَعُودَ حَامِدُهُ ذَامًّا‏.‏ وَمَنْ آثَرَ مَرْضَاتَهُ سَاخِطًا‏.‏ فَلَا عَلَى مَقْصُودِهِ مِنْهُمْ حَصَلَ، وَلَا إِلَى ثَوَابِ مَرْضَاةِ رَبِّهِ وَصَلَ‏.‏ وَهَذَا أَعْجَزُ الْخَلْقِ وَأَحْمَقُهُمْ‏.‏

هَذَا مَعَ أَنَّ رِضَا الْخَلْقِ‏:‏ لَا مَقْدُورٌ، وَلَا مَأْمُورٌ، وَلَا مَأْثُورٌ‏.‏ فَهُوَ مُسْتَحِيلٌ‏.‏ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ سُخْطِهِمْ عَلَيْكَ‏.‏ فَلَأَنْ يَسْخَطُوا عَلَيْكَ وَتَفُوزَ بِرِضَا اللَّهِ عَنْكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ وَأَنْفَعُ لَكَ مِنْ أَنْ يَسْخَوْا عَلَيْكَ وَاللَّهُ عَنْكَ غَيْرُ رَاضٍ‏.‏ فَإِذَا كَانَ سُخْطُهُمْ لَا بُدَّ مِنْهُ- عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ- فَآثِرْ سُخْطَهُمُ الَّذِي يُنَالُ بِهِ رِضَا اللَّهِ‏.‏ فَإِنْ هُمْ رَضُوا عَنْكَ بَعْدَ هَذَا، وَإِلَّا فَأَهْوَنُ شَيْءٍ رِضَا مَنْ لَا يَنْفَعُكَ رِضَاهُ، وَلَا يَضُرُّكَ سُخْطُهُ فِي دِينِكَ، وَلَا فِي إِيمَانِكَ، وَلَا فِي آخِرَتِكَ‏.‏ فَإِنْ ضَرَّكَ فِي أَمْرٍ يَسِيرٍ فِي الدُّنْيَا فَمَضَرَّةُ سُخْطِ اللَّهِ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ‏.‏ وَخَاصَّةً الْعَقْلُ‏:‏ احْتِمَالُ أَدْنَى الْمَفْسَدَتَيْنِ لِدَفْعِ أَعْلَاهُمَا‏.‏ وَتَفْوِيتُ أَدْنَى الْمَصْلَحَتَيْنِ لِتَحْصِيلِ أَعْلَاهُمَا‏.‏ فَوَازِنْ بِعَقْلِكَ‏.‏ ثُمَّ انْظُرْ أَيَّ الْأَمْرَيْنِ خَيْرٌ فَآثِرْهُ، وَأَيَّهُمَا شَرٌّ فَابْعُدْ عَنْهُ‏.‏ فَهَذَا بُرْهَانٌ قَطْعِيٌّ ضَرُورِيٌّ فِي إِيثَارِ رِضَا اللَّهِ عَلَى رِضَا الْخَلْقِ‏.‏

هَذَا مَعَ أَنَّهُ إِذَا آثَرَ رِضَا اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ غَضَبِ الْخَلْقِ‏.‏ وَإِذَا آثَرَ رِضَاهُمْ لَمْ يَكْفُوهُ مُؤْنَةَ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِ‏.‏

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ‏:‏ لَمُصَانَعَةُ وَجْهٍ وَاحِدٍ أَيْسَرُ عَلَيْكَ مِنْ مُصَانَعَةِ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ‏.‏ إِنَّكَ إِذَا صَانَعْتَ ذَلِكَ الْوَجْهَ الْوَاحِدَ كَفَاكَ الْوُجُوهَ كُلَّهَا‏.‏

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ رِضَا النَّاسِ غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ‏.‏ فَعَلَيْكَ بِمَا فِيهِ صَلَاحُ نَفْسِكَ فَالْزَمْهُ‏.‏

وَمَعْلُومٌ‏:‏ أَنَّهُ لَا صَلَاحَ لِلنَّفْسِ إِلَّا بِإِيثَارِ رِضَا رَبِّهَا وَمَوْلَاهَا عَلَى غَيْرِهِ‏.‏ وَلَقَدْ أَحْسَنَ أَبُو فِرَاسٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى- إِلَّا أَنَّهُ أَسَاءَ كُلَّ الْإِسَاءَةِ فِي قَوْلِهِ، إِذْ يَقُولُهُ لِمَخْلُوقٍ لَا يَمْلِكُ لَهُ وَلَا لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا‏:‏

فَلَيْتَكَ تَحْلُو، وَالْحَيَاةُ مَرِيرَةٌ *** وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالْأَنَامُ غِضَابُ

وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ *** وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْعَالَمِينَ خَرَابُ

إِذَا صَحَّ مِنْكَ الْوُدُّ فَالْكُلُّ هَيِّنٌ *** وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ

ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ- رَحِمَهُ اللَّهُ- مَا يُسْتَطَاعُ بِهِ هَذَا الْإِيثَارُ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏

وَيُسْتَطَاعُ هَذَا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ مَا يُعِينُ الْعَبْدَ عَلَى إِيثَارِ رِضَا اللَّهِ‏:‏ بِطِيبِ الْعَوْدِ‏.‏ وَحُسْنِ الْإِسْلَامِ‏.‏ وَقُوَّةِ الصَّبْرِ‏.‏

مِنَ الْمَعْلُومِ‏:‏ أَنَّ الْمُؤْثِرَ لِرِضَا اللَّهِ مُتَصَدٍّ لِمُعَادَاةِ الْخَلْقِ وَأَذَاهُمْ، وَسَعْيِهِمْ فِي إِتْلَافِهِ وَلَا بُدَّ‏.‏ هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ‏.‏ وَإِلَّا فَمَا ذَنْبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ‏.‏ وَالَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ، وَالْقَائِمِينَ بِدِينِ اللَّهِ، الذَّابِّينَ عَنْ كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عِنْدَهُمْ‏؟‏

فَمَنْ آثَرَ رِضَا اللَّهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعَادِيَهُ رَذَالَةُ الْعَالَمِ وَسَقْطُهُمْ، وَغَرْثَاهُمْ وَجُهَّالُهُمْ، وَأَهْلُ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ مِنْهُمْ، وَأَهْلُ الرِّيَاسَاتِ الْبَاطِلَةِ، وَكُلُّ مَنْ يُخَالِفُ هَدْيُهُ هَدْيَهُ‏.‏ فَمَا يَقْدَمُ عَلَى مُعَادَاةِ هَؤُلَاءِ إِلَّا طَالِبُ الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ، عَامِلٌ عَلَى سَمَاعِ خِطَابِ ‏{‏يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً‏}‏ وَمِنْ إِسْلَامِهِ صُلْبٌ كَامِلٌ لَا تُزَعْزِعُهُ الرِّجَالُ‏.‏ وَلَا تُقَلْقِلُهُ الْجِبَالُ، وَمِنْ عَقْدَ عَزِيمَةِ صَبْرِهِ مُحْكَمٌ لَا تَحُلُّهُ الْمِحَنُ وَالشَّدَائِدُ وَالْمَخَاوِفُ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ وَمِلَاكُ ذَلِكَ أَمْرَانِ‏:‏ الزُّهْدُ فِي الْحَيَاةِ وَالثَّنَاءُ‏.‏ فَمَا ضَعُفَ مَنْ ضَعُفَ، وَتَأَخَّرَ مَنْ تَأَخَّرَ إِلَّا بِحُبِّهِ لِلْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ، وَثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَنُفْرَتِهِ مِنْ ذَمِّهِمْ لَهُ‏.‏ فَإِذَا زَهِدَ فِي هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ، تَأَخَّرَتْ عَنْهُ الْعَوَارِضُ كُلُّهَا‏.‏ وَانْغَمَسَ حِينَئِذٍ فِي الْعَسَاكِرِ‏.‏

وَمِلَاكُ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ بِشَيْئَيْنِ‏:‏ صِحَّةِ الْيَقِينِ‏.‏ وَقُوَّةِ الْمَحَبَّةِ‏.‏

وَمِلَاكُ هَذَيْنِ بِشَيْئَيْنِ أَيْضًا‏:‏ بِصِدْقِ اللَّجَأِ وَالطَّلَبِ، وَالتَّصَدِّي لِلْأَسْبَابِ الْمُوصِلَةِ إِلَيْهِمَا‏.‏

فَإِلَى هَاهُنَا تَنْتَهِي مَعْرِفَةُ الْخَلْقِ وَقُدْرَتُهُمْ‏.‏ وَالتَّوْفِيقُ بَعْدُ بَيْدِ مَنْ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ كُلِّهَا بِيَدِهِ ‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ إِيثَارُ إِيثَارِ اللَّهِ‏]‏

قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ إِيثَارُ إِيثَارِ اللَّهِ حَقِيقَتُهُ‏.‏ فَإِنَّ الْخَوْضَ فِي الْإِيثَارِ دَعْوَى فِي الْمِلْكِ‏.‏ ثُمَّ تَرْكُ شُهُودِ رُؤْيَتِكَ إِيثَارَ اللَّهِ‏.‏ ثُمَّ غَيْبَتُكَ عَنِ التَّرْكِ‏.‏

يَعْنِي بِإِيثَارِ إِيثَارِ اللَّهِ‏:‏ أَنْ تَنْسِبَ إِيثَارَكَ إِلَى اللَّهِ دُونَ نَفْسِكَ‏.‏ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِالْإِيثَارِ، لَا أَنْتَ‏.‏ فَكَأَنَّكَ سَلَّمْتَ الْإِيثَارَ إِلَيْهِ‏.‏ فَإِذَا آثَرْتَ غَيْرَكَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ الَّذِي آثَرَهُ هُوَ الْحَقُّ، لَا أَنْتَ‏.‏ فَهُوَ الْمُؤْثِرُ حَقِيقَةً‏.‏ إِذْ هُوَ الْمُعْطِي حَقِيقَةً‏.‏

ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ السَّبَبَ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ نِسْبَةُ الْإِيثَارِ إِلَى اللَّهِ، وَتَرْكِ نِسْبَتِهِ إِلَى نَفْسِكَ، فَقَالَ فَإِنَّ الْخَوْضَ فِي الْإِيثَارِ‏:‏ دَعْوَى فِي الْمِلْكِ‏.‏

فَإِذَا ادَّعَى الْعَبْدُ‏:‏ أَنَّهُ مُؤْثِرٌ فَقَدِ ادَّعَى مِلْكَ مَا آثَرَ بِهِ غَيْرَهُ‏.‏ وَالْمِلْكُ فِي الْحَقِيقَةِ‏:‏ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ كُلُّ شَيْءٍ‏.‏ فَإِذَا خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْ دَعْوَى الْمِلْكِ فَقَدْ آثَرَ إِيثَارَ اللَّهِ- وَهُوَ إِعْطَاؤُهُ- عَلَى إِيثَارِ نَفْسِهِ‏.‏ وَشَهِدَ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ هُوَ الْمُؤْثِرُ بِمِلْكِهِ‏.‏ وَأَمَّا مَنْ لَا مِلْكَ لَهُ‏:‏ فَأَيُّ إِيثَارٍ لَهُ‏؟‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ثُمَّ تَرْكُ شُهُودِ رُؤْيَتِكَ إِيثَارَ اللَّهِ‏.‏

يَعْنِي أَنَّكَ إِذَا آثَرْتَ إِيثَارَ اللَّهِ بِتَسْلِيمِكَ مَعْنَى الْإِيثَارِ إِلَيْهِ‏:‏ بَقِيَتْ عَلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ بَقِيَّةٌ أُخْرَى لَا بُدَّ مِنَ الْخُرُوجِ عَنْهَا‏.‏ وَهِيَ أَنْ تَعْرِضَ عَنْ شُهُودِكَ رُؤْيَتَكَ أَنَّكَ آثَرْتَ الْحَقَّ بِإِيثَارِكَ، وَأَنَّكَ نَسَبْتَ الْإِيثَارَ إِلَيْهِ لَا إِلَيْكَ‏.‏ فَإِنَّ فِي شُهُودِكَ ذَلِكَ، وَرُؤْيَتِكَ لَهُ‏:‏ دَعْوَى أُخْرَى‏.‏ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ دَعْوَى الْمِلْكِ‏.‏ وَهِيَ أَنَّكَ ادَّعَيْتَ أَنَّ لَكَ شَيْئًا آثَرْتَ بِهِ اللَّهَ‏.‏ وَقَدَّمْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ فِيهِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ لَكَ‏.‏ وَهَذِهِ الدَّعْوَى أَصْعَبُ مِنَ الْأُولَى‏.‏ فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْأُولَى مِنَ الْمِلْكِ‏.‏ وَتَزِيدُ عَلَيْهَا بِرُؤْيَةِ الْإِيثَارِ بِهِ فَالْأَوَّلُ‏:‏ مُدَّعٍ لِلْمِلْكِ مُؤْثِرٌ بِهِ‏.‏ وَهَذَا مُدَّعٍ لِلْمِلْكِ وَمُدَّعٍ لِلْإِيثَارِ بِهِ‏.‏ فَإِذَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ شُهُودِ رُؤْيَتِهِ لِهَذَا الْإِيثَارِ‏.‏ فَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ آثَرَ اللَّهَ بِهَذَا الْإِيثَارِ‏.‏ بَلِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَأْثَرَ بِهِ دُونَكَ‏.‏ فَإِنَّ الْأَثَرَةَ وَاجِبَةٌ لَهُ بِإِيجَابِهِ إِيَّاهَا بِنَفْسِهِ‏.‏ لَا بِإِيجَابِ الْعَبْدِ إِيَّاهَا لَهُ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ثُمَّ غَيْبَتُكَ عَنِ التَّرْكِ‏.‏

يُرِيدُ‏:‏ أَنَّكَ إِذَا نَزَلْتَ هَذَا الشُّهُودَ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَةَ‏:‏ بَقِيَتْ عَلَيْكَ بَقِيَّةٌ أُخْرَى‏.‏ وَهِيَ رُؤْيَتُكَ لِهَذَا التَّرْكِ الْمُتَضَمِّنَةُ لِدَعْوَى مِلْكِكَ لِلتَّرْكِ‏.‏ وَهِيَ دَعْوَى كَاذِبَةٌ‏.‏ إِذْ لَيْسَ لِلْعَبْدِ شَيْءٌ مِنَ الْأَمْرِ‏.‏ وَلَا بِيَدِهِ فِعْلٌ وَلَا تَرْكٌ‏.‏ وَإِنَّمَا الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ‏.‏

وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي الْكَشْفِ وَالشُّهُودِ وَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ‏:‏ أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ أَصْلًا وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ حَقِيقَةً‏.‏ إِنَّمَا الْمَالِكُ بِالْحَقِيقَةِ سَيِّدُهُ‏.‏ فَالْأَثَرَةُ وَالْإِيثَارُ وَالِاسْتِئْثَارُ كُلُّهَا لِلَّهِ وَمِنْهُ وَإِلَيْهِ‏.‏ سَوَاءً اخْتَارَ الْعَبْدُ ذَلِكَ وَعَلِمَهُ، أَوْ جَهِلَهُ، أَمْ لَمْ يَخْتَرْهُ‏.‏ فَالْأَثَرَةُ وَاقِعَةٌ‏.‏ كَرِهَ الْعَبْدُ أَمْ رَضِيَ‏.‏ فَإِنَّهَا اسْتِئْثَارُ الْمَالِكِ الْحَقِّ بِمِلْكِهِ تَعَالَى‏.‏ وَقَدْ فَهِمْتُ مِنْ هَذَا قَوْلَهُ‏:‏ فَإِنَّ الْأَثَرَةَ تَحْسُنُ طَوْعًا‏.‏ وَتَصِحُّ كَرْهًا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏